منذ حوالي ساعة
{كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله} أي: بإرادته ومشيئته فالأمر لله تعالى، والعزيز من أعزه الله، والذليل من أذله الله
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.
اهتم الإسلام بالقلة المؤمنة الثابتة، وكذلك أكد اهتمامه بالكيف في مقابل الكم الغثائي.
فالقلة المؤمنة إيماناً صادقاً قائماً على البصيرة العلمية المستضيئة بنور الله، هي الهدف الأسمى من دعوة الرسل والأنبياء والثمرة المباركة التي يأملها الربانيون.
وهؤلاء هم الوقود الحقيقي والطاقة الهائلة التي يمكن أن تحرك الغثاء وتغير المجتمعات وتقود الأمم بنور الله تعالى.
حتى وإن قلت الإمكانيات، وابتلاهم الله بقلة الناصر.
ولنا في قصة الثابتين من بني إسرائيل من جند طالوت مثل وقدوة.
قال الإمام السعدي رحمه الله في التفسير:
أي: لما تملَّك طالوت ببني إسرائيل واستقر له الملك تجهزوا لقتال عدوهم، فلما فصل طالوت بجنود بني إسرائيل وكانوا عددا كثيرا وجما غفيرا، امتحنهم بأمر الله ليتبين الثابت المطمئن ممن ليس كذلك فقال: ( {إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني} ) فهو عاص ولا يتبعنا لعدم صبره وثباته ولمعصيته ( {ومن لم يطعمه} ) أي: لم يشرب منه فإنه مني ( {إلا من اغترف غرفة بيده} ) فلا جناح عليه في ذلك، ولعل الله أن يجعل فيها بركة فتكفيه، وفي هذا الابتلاء ما يدل على أن الماء قد قل عليهم ليتحقق الامتحان، فعصى أكثرهم وشربوا من النهر الشرب المنهي عنه، ورجعوا على أعقابهم ونكصوا عن قتال عدوهم وكان في عدم صبرهم عن الماء ساعة واحدة أكبر دليل على عدم صبرهم على القتال الذي سيتطاول وتحصل فيه المشقة الكبيرة، وكان في رجوعهم عن باقي العسكر ما يزداد به الثابتون توكلا على الله، وتضرعا واستكانة وتبرؤا من حولهم وقوتهم، وزيادة صبر لقلتهم وكثرة عدوهم، فلهذا قال تعالى: ( { فلما جاوزه} ) أي: النهر ( {هو} ) أي: طالوت ( {والذين آمنوا معه } ) وهم الذين أطاعوا أمر الله ولم يشربوا من النهر الشرب المنهي عنه فرأوا… قلتهم وكثرة أعدائهم، {قالوا} أي: قال كثير منهم ( { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده} ) لكثرتهم وعَددهم وعُددهم ( {قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله} ) أي: يستيقنون ذلك، وهم أهل الإيمان الثابت واليقين الراسخ، مثبتين لباقيهم ومطمئنين لخواطرهم، وآمرين لهم بالصبر {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله} أي: بإرادته ومشيئته فالأمر لله تعالى، والعزيز من أعزه الله، والذليل من أذله الله، فلا تغني الكثرة مع خذلانه، ولا تضر القلة مع نصره، ( {والله مع الصابرين} ) بالنصر والمعونة والتوفيق، فأعظم جالب لمعونة الله صبر العبد لله، فوقعت موعظته في قلوبهم وأثرت معهم.
ولهذا لما برزوا لجالوت وجنوده ( {قالوا} ) جميعهم ( {ربنا أفرغ علينا صبرا } ) أي: قو قلوبنا، وأوزعنا الصبر، وثبت أقدامنا عن التزلزل والفرار، وانصرنا على القوم الكافرين.
من هاهنا نعلم أن جالوت وجنوده كانوا كفارا، فاستجاب الله لهم ذلك الدعاء لإتيانهم بالأسباب الموجبة لذلك، ونصرهم عليهم ( { فهزموهم بإذن الله وقتل داود} ) عليه السلام، وكان مع جنود طالوت، ( {جالوت} ) أي: باشر قتل ملك الكفار بيده لشجاعته وقوته وصبره ( { وآتاه الله} ) أي: آتى الله داود ( {الملك والحكمة} ) أي: منَّ عليه بتملكه على بني إسرائيل مع الحكمة، وهي النبوة المشتملة على الشرع العظيم والصراط المستقيم، ولهذا قال ( {وعلمه مما يشاء} ) من العلوم الشرعية والعلوم السياسية، فجمع الله له الملك والنبوة، وقد كان من قبله من الأنبياء يكون الملك لغيرهم، فلما نصرهم الله تعالى اطمأنوا في ديارهم وعبدوا الله آمنين مطمئنين لخذلان أعدائهم وتمكينهم من الأرض، وهذا كله من آثار الجهاد في سبيله، فلو لم يكن لم يحصل ذلك فلهذا قال تعالى: ( {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض } ) أي: لولا أنه يدفع بمن يقاتل في سبيله كيد الفجار وتكالب الكفار لفسدت الأرض باستيلاء الكفار عليها وإقامتهم شعائر الكفر ومنعهم من عبادة الله تعالى، وإظهار دينه ( {ولكن الله ذو فضل على العالمين} ) حيث شرع لهم الجهاد الذي فيه سعادتهم والمدافعة عنهم ومكنهم من الأرض بأسباب يعلمونها، وأسباب لا يعلمونها.
أبو الهيثم محمد درويش
دكتوراه المناهج وطرق التدريس في تخصص تكنولوجيا التعليم من كلية التربية بجامعة طنطا بمصر.
Source link