إذا أطال الإنسان السهر، فإنه لا يعطي بدنه حظه من النوم، ولا يقوم لصلاة الصبح، إلا وهو كسلان تعبان، ثم ينام في أول نهاره عن مصالحة الدينية والدنيوية.
بسم الله الرحمن الرحيم
في بحث صادر عن جامعة أريزونا الأمريكية أن النوم في الظلام
مفيد للصحة، ويحسن نشاط جهاز المناعة، بسبب أن الجسم يفرز في الظلام هرمون الميلاتونين الذي يؤدي دورا وقائيا في مهاجمة الأمراض الخبيثة كسرطان الثدي والبروستات.
وتشير الدراسات إلى أن إنتاج هرمون الميلاتونين ـ الذي يعيق نمو الخلايا السرطانية قد يتعطل مع وجود الضوء
في غرفة النوم.
وهذه العملية الطبيعية التي أوجدها الله سبحانه و تعالى تساعد في الإفادة من الليل المظلم للوقاية من أنواع معينة من السرطان.
وكما ينشط الليل المظلم إفراز هرمونات معينة في الجسم فإن ضوء النهار ينشط هرمونات أخرى تقوي جهاز المناعة، وتقي الجسم من عدد من الأ مراض.
والنوم الليلي فطرة كما قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [يونس67]
والنوم آية من آيات الله الكونية، كما قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [الروم/23].
ونوم الليل هو الأصل، ونوم النهار فرع، وقد جعل الله تعالى النهار للعمل والانتشار في طلب الرزق، وجعل الليل للراحة، وفي الليل يكون النوم، وفي النهار العمل، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان/47].
وقال تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النمل/86]
وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً. وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً. وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً} [النبأ/9-11].
قال الإمام ابن كثير – رحمه الله -:
أي: ومن الآيات ما جعل لكم من صفة النوم في الليل والنهار، فيه تحصل الراحة وسكون الحركة، وذهاب الكلال والتعب، وجعل لكم الانتشار والسعي في الأسباب والأسفار في النهار، وهذا ضد النوم.
تفسير ابن كثير (6 / 310).
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله -:
{وجعلنا نومكم سباتاً} أي: قاطعاً للتعب، فالنوم يقطع ما سبقه من التعب، ويستجد به الإنسان نشاطاً للمستقبل، ولذلك تجد الرجل إذا تعب ثم نام: استراح وتجدد نشاطه، وهذا من النعمة، وهو أيضاً من آيات الله، كما قال الله تعالى: {ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله} [الروم/23]...
{وجعلنا النهار معاشاً} أي: معاشاً يعيش الناس فيه في طلب الرزق على حسب درجاتهم، وعلى حسب أحوالهم، وهذا من نعمة الله سبحانه وتعالى على العباد. (تفسير جزء عمَّ (ص 22، 23)).
وقال تعالى {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النمل86]
وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [غافر61]
والنوم بعد العشاء مبكراً وصية نبوية، وصحة بدنية ففي حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه أن النبي ﷺ كان يستحب أن يؤخر العشاء، وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها (رواه البخاري (568)، ومسلم (647)).
ونقل الحافظ ابن حجر عن القاضي عياض في قوله: وكان يكره النوم قبلها قال: لأنه قد يؤدي إلى إخراجها عن وقتها مطلقاً، أو عن الوقت المختار، والسمر بعدها قد يؤدي إلى النوم قبل الصبح، أو عن وقتها المختار، أو عن قيام الليل.
وقال ابن رافع: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينِشّ الناس بدِرّته بعد العتمة ويقول: قوموا لعل الله يرزقكم صلاة.
قال النووي: وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى كَرَاهَة الْحَدِيث بَعْدهَا إِلَّا مَا كَانَ فِي خَيْر شرح صحيح مسلم (5/146).
وقال الحافظ ابن رجب: ومتى كان السمر بلغو، ورفث، وهجاء، فإنه مكروه بغير شك فتح الباري (3/377).
قال النووي: وَسَبَب كَرَاهَة الْحَدِيث بَعْدهَا أَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى السَّهَر، وَيُخَاف مِنْهُ غَلَبَة النَّوْم عَنْ قِيَام اللَّيْل، أَوْ الذِّكْر فِيهِ، أَوْ عَنْ صَلَاة الصُّبْح فِي وَقْتهَا الْجَائِز، أَوْ فِي وَقْتهَا الْمُخْتَار أَوْ الْأَفْضَل.
وَلِأَنَّ السَّهَر فِي اللَّيْل سَبَب لِلْكَسَلِ فِي النَّهَار عَمَّا يَتَوَجَّه مِنْ حُقُوق الدِّين، وَالطَّاعَات، وَمَصَالِح الدُّنْيَا . انتهى (شرح صحيح مسلم (5/146)).
وقال الحافظ ابن حجر: وَالسَّمَر بَعْدَهَا قَدْ يُؤَدِّي إِلَى النَّوْم عَنْ الصُّبْح، أَوْ عَنْ وَقْتهَا الْمُخْتَار، أَوْ عَنْ قِيَام اللَّيْل.
وَكَانَ عُمَر بْن الْخَطَّابِ يَضْرِب النَّاس عَلَى ذَلِكَ وَيَقُول: أَسَمَرًا أَوَّلَ اللَّيْل وَنَوْمًا آخِرَهُ ؟. (انتهى من فتح الباري (2 / 73)).
وهذا هو الموافق لسنة الله في جعل الليل محلاً للنوم والراحة، والنهار للعمل والكسب، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ، وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا، إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}.
وقال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} ففي الليل سكينة وقرار ونوم وراحة، وفي النهار نشاط وعمل.
قال القرطبي: وقد قيل: إن الحكمة في كراهية الحديث بعدها أن الله تعالى جعل الليل سكناً، أي يُسكن فيه، فإذا تحدث الإنسان فيه فقد جعله كالنهار الذي هو متصرف المعاش، فكأنه قصد إلى مخالفة حكمة الله تعالى التي أجرى عليها وجوده تفسير القرطبي (12 / 138).
وهذا هو الهدي النبوي، فعن عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: (مَا نَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْعِشَاءِ، وَلَا سَمَرَ بَعْدَهَا)، (رواه ابن ماجه (702) وصححه الألباني).
وقال الشيخ ابن عثيمين: وإذا أطال الإنسان السهر، فإنه لا يعطي بدنه حظه من النوم، ولا يقوم لصلاة الصبح، إلا وهو كسلان تعبان، ثم ينام في أول نهاره عن مصالحة الدينية والدنيوية.
والنوم الطويل في أول النهار يؤدي إلى فوات مصالح كثيرة، وقد جرب الناس أن العمل في أول النهار أبرك من العمل في آخر النهار، وأنه أسد وأصلح وأنجح، فإن البكور مبارك فيه، وهؤلاء الذين يسهرون الليالي، لا شك أنهم لا يستطيعون البقاء بدون نوم، فلا بد للجسم من النوم، وطول السهر يحول دون ذلك اللقاء الشهري (1 / 333).
قال النووي: قَالَ الْعُلَمَاء: وَالْمَكْرُوه مِنْ الْحَدِيث بَعْد الْعِشَاء هُوَ مَا كَانَ فِي الْأُمُور الَّتِي لَا مَصْلَحَة فِيهَا.
أَمَّا مَا فِيهِ مَصْلَحَة وَخَيْر فَلَا كَرَاهَة فِيهِ، وَذَلِكَ كَمُدَارَسَةِ الْعِلْم، وَحِكَايَات الصَّالِحِينَ، وَمُحَادَثَة الضَّيْف، وَالْعَرُوس لِلتَّأْنِيسِ، وَمُحَادَثَة الرَّجُل أَهْله وَأَوْلَاده لِلْمُلَاطَفَةِ وَالْحَاجَة، وَمُحَادَثَة الْمُسَافِرِينَ بِحِفْظِ مَتَاعهمْ أَوْ أَنْفُسهمْ، وَالْحَدِيث فِي الْإِصْلَاح بَيْن النَّاس، وَالشَّفَاعَة إِلَيْهِمْ فِي خَيْر، وَالْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر، وَالْإِرْشَاد إِلَى مَصْلَحَة وَنَحْو ذَلِكَ، فَكُلُّ هَذَا لَا كَرَاهَة فِيهِ، وَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيث صَحِيحَة بِبَعْضِهِ، وَالْبَاقِي فِي مَعْنَاهُ (شرح صحيح مسلم (5/146)).
وقد قال ﷺ: «لَا سَمَرَ إِلَّا لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ: لِمُصَلٍّ، أَوْ مُسَافِرٍ» (رواه أحمد (3907) وصححه الألباني بمجموع طرقه).
قال الشيخ محمد بن أحمد السفاريني الحنبلي– رحمه الله -:
لا ينبغي مدافعة النوم كثيراً، وإدمان السهر، فإنَّ مدافعة النوم وهجره مورث لآفات أُخر من سوء المزاج، ويبسه، وانحراف النفس، وجفاف الرطوبات المعينة على الفهم والعمل، وتورث أمراضا متلفة.
وما قام الوجود إلا بالعدل، فمن اعتصم به فقد أخذ بحظه من مجامع الخير، وفي الآداب الكبرى قال بعض الحكماء: النعاس يذهب العقل، والنوم يزيد فيه.
فالنوم من نِعَم الله جل شأنه على عباده، ولهذا امتنَّ عليهم في كتابه. (غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب (2 / 359)).
وينبغي أن يُعلم أن النوم الزائد عن حاجة البدن يسبِّب ثقلاً في الطاعة، وخبلاً في العقل، ومن هنا جاءت بعض العبارات عن السلف في ذم كثرة النوم.
قال الفضيل بن عياض – رحمه الله -: خصلتان تقسيان القلب: كثرة النوم، وكثرة الأكل.
وقال ابن القيم – رحمه الله -:
وأما مفسدات القلب الخمسة: فهي التي أشار إليها: من كثرة الخلطة، والتمني، والتعلق بغير الله، والشبع، والمنام، فهذه الخمسة من أكبر مفسدات القلب.
(مدارج السالكين (1 / 453)).
وشرح ما يتعلق بالنوم فقال – رحمه الله -:
المُفسد الخامس: كثرة النوم ؛ فإنه يميت القلب، ويثقل البدن، ويضيع الوقت، ويورث كثرة الغفلة والكسل، ومنه المكروه جدّاً، ومنه الضار غير النافع للبدن.
وأنفع النوم: ما كان عند شدة الحاجة إليه، ونوم أول الليل أحمد وأنفع من آخره، ونوم وسط النهار أنفع من طرفيه، وكلما قرب النوم من الطرفين: قل نفعه وكثر ضرره، ولا سيما نوم العصر، والنوم أول النهار إلا لسهران، ومن المكروه عندهم: النوم بين صلاة الصبح وطلوع الشمس ؛ فإنه وقت غنيمة، وللسير ذلك الوقت عند السالكين مزية عظيمة، حتى لو ساروا طول ليلهم لم يسمحوا بالقعود عن السير ذلك الوقت حتى تطلع الشمس ؛ فإنه أول النهار، ومفتاحه، ووقت نزول الأرزاق، وحصول القسم، وحلول البركة، ومنه ينشأ النهار، وينسحب حكم جميعه على حكم تلك الحصة فينبغي أن يكون نومها كنوم المضطر.
وبالجملة: فأعدل النوم وأنفعه: نوم نصف الليل الأول، وسدسه الأخير، وهو مقدار ثمان ساعات، وهذا أعدل النوم عند الأطباء، وما زاد عليه أو نقص منه أثر عندهم في الطبيعة انحرافا بحسبه.
ومن النوم الذي لا ينفع أيضا: النوم أول الليل عقيب غروب الشمس حتى تذهب فحمة العشاء، وكان رسول الله يكرهه، فهو مكروه شرعاً وطبعاً، وكما أن كثرة النوم مورثة لهذه الآفات فمدافعته وهجره مورث لآفات أخرى عظام: من سوء المزاج، ويبسه، وانحراف النفس، وجفاف الرطوبات المعينة على الفهم والعمل، ويورث أمراضاً متلفة لا ينتفع صاحبها بقلبه ولا بدنه معها، وما قام الوجود إلا بالعدل، فمن اعتصم به: فقد أخذ بحظه من مجامع الخير، وبالله المستعان. (مدارج السالكين (1 / 459، 460)).
ومما يذم شرعا وطبا كثرة النوم عن الاحتياج المعتاد للجسم، قال إبراهيم ابن أدهم: إذا كنت بالليل نائماً، وبالنهار هائماً، وفي المعاصي دائماً، فكيف تُرضي من هو بأمورك قائماً.
ومما يعين على النوم المعتدل بلا زيادة في ساعات النوم اختيار الفراش المناسب، وذلك بعدم المبالغة في لين الفراش، فقد صح من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كانت وسادة النبي صلى الله عليه وسلم التي ينام عليها بالليل من أدم حشوها ليف. (رواه أبوداود وأحمد، صحيح الجامع 4714).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب دخل على رسول الله ﷺ وهو على حصير قد أثر في جنبه الشريف فقال عمر: يا نبي الله لو اتخذت فراشاً أوْثر من هذا ؟ فقال ﷺ: «ما لي وللدنيا، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار، ثم راح وتركها». (رواه أحمد والحاكم، صحيح الجامع 5545).
وكان علي بن بكار رحمه الله تفرش له جاريته فراشه، فيلمسه بيده ثم يقول: والله إنك لطيب، والله إنك لبارد، والله لا علوتك ليلتي، ثم يقوم يصلي إلى الفجر.
____________________________________________
الكاتب: عبدالعزيز ابن دغيثر
Source link