لا تكاد تُذكر إسرائيل في الإطار الدولي إلا ويأتي مستصحبًا معها الولايات المتحدة الأمريكية، باعتبارها المدافع الرئيس سياسيًا والممول الأكبر اقتصاديًا، فإذا كانت إسرائيل مدينة بالولاء لبريطانيا في نشأتها، فإنها مدينة بصورة أكبر للولايات المتحدة في استمرارها.
ومن هنا يُثار التساؤل المهم عن طبيعة تلك العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة، وبصورة أكثر تحديدا، ما الذي يجعل الدولة العظمى في العالم تسخر منظومتها في السياسية الخارجية لخدمة المصالح دولة الاحتلال الإسرائيلية؟
قد تبدو الأمور أكثر وضوحًا عندما نضع على طاولة البحث والدراسة ذلك الحبل السُّري الذي يربط ما بين هذا الكائن اللقيط إسرائيل والولايات المتحدة، وهو ما بات يعرف سياسيًا باللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية.
وهذا اللوبي، الممتد في عمق الولايات المتحدة تاريخيًا، يتكون من عديد من المنظمات والمؤسسات، أهمها لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (إيباك)، بالإضافة إلى مؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية الأمريكية الكبرى، ورابطة مكافحة التشهير، ومجموعة المسيحيون المتحدون من أجل إسرائيل، ومعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى.
وهو على اختلاف مكوناته التحتية يعمل من أجل هدف واحد، وهو وضع إمكانيات الولايات المتحدة الأمريكية لخدمة بقاء واستمرار إسرائيل، ودعمها في المحافل الدولية، والدفاع عنها في حال تعرضها لأية مخاطر، حتى لو اقتضى ذلك التضحية ببعض المصالح الأمريكية.
ويستمد هذا اللوبي قوته من ذاته، فهو يملك العديد من وسائل الإعلام ذات الانتشار الواسع، وسيطرة مالية واقتصادية واسعة على عصب الاقتصاد الأمريكي، وتغلغل عميق في مؤسسات الدولة، لاسيما تلك المؤسسات المخفية التي باتت تعرف في أدبيات السياسة بالدولة العميقة.
وهو في سبيل الهدف الواحد المشار إليه سابقًا، يطوع هذه الإمكانيات الضخمة، ويعمل وفق آليتين رئيستين:
الأولى والأهم، التدخل في الانتخابات الأمريكية بمختلف مستوياتها، بداية من رؤساء الدولة وانتخابات الكونجرس ومجلس الشيوخ والمناصب الحكومية ذات التأثير القوي وحكام الولايات. وهذا التدخل يكون من خلال التحكم في نوعية المرشحين، ثم دعم الشخصيات الأكثر ولاءً لإسرائيل بكل وسائل الدعم الممكنة حتى تمكينهم من المنصب المستهدفة.
عند هذا الحد يبدو أن عقارب الساعة بدأت تتباطأ، لأن هذا التماهي المطلق سيضر الطرفين معًا، الداعم الأمريكي والمدعوم الإسرائيلي، ولن يكون ثمة مستفيد غير القوى العالمية التي بدت تطل برأسها مزاحمة النفوذ الأمريكي عالميًا
الثانية، التحكم والتأثير في مختلف وسائل الإعلام العالمية، لاسيما الأمريكية منها، لضمان تشكيل الوعي العام الأمريكي المتوافق مع توجهات إسرائيل وممارساتها، ويبرز القواسم الأيدولوجية والفكرية والسياسية المشتركة بينهما، وهو ما يجعل هذا الوعي أكثر استعدادًا ومدفوعًا بقبول الدعم الأمريكي الرسمي واللامتناهي لإسرائيل.
وقد بدت مظاهر تأثير ذلك اللوبي الإسرائيلي على توجهات السياسية الخارجية الأمريكية على مدار التاريخ بما لا يدع مجالًا للشك في نفوذه السياسي البالغ، حتى في المواقف السياسية المفصلية، ومنها حرب العراق التي أسقطت نظام الرئيس صدام حسن، تحت ذريعة إنتاج أسلحة دمار شامل، وهو ما أدى في النهاية إلى استئصال قوة إقليمية وازنة كانت تخشاها إسرائيل، وأخلت كثيرا بتوازن القوى في منطقة الخليج العربي.
ومن المظاهر المعاصرة أيضًا الموقف الأمريكي المتماهي تمامًا مع العدوان المستمر على غزة، بل والدعم العسكري والمالي والإعلامي لآلة القتل الاسرائيلية التي لا تتوقف في حصد الأرواح البشرية في غزة، وهو ما عرى الموقف الأمريكي عالميًا وأحرج الساسة الأمريكيين داخليًا، وأفقدها كثيرًا من قدراتها الفاعلة في منطقة الشرق الأوسط.
وعند هذا الحد يبدو أن عقارب الساعة بدأت تتباطأ، لأن هذا التماهي المطلق سيضر الطرفين معًا، الداعم الأمريكي والمدعوم الإسرائيلي، ولن يكون ثمة مستفيد غير القوى العالمية التي بدت تطل برأسها مزاحمة النفوذ الأمريكي عالميًا، وفي منطقة الشرق الأوسط خصوصًا، والمقصود هنا روسيا على وجه التحديد.
إن العقل الإسرائيلي الذي يقود إسرائيل حاليًا، والمتمثل في الليكود والأحزاب اليمينية شديدة التطرف ربما هو السبب الرئيس في إعادة تقييم الموقف، لأن المعادلة تبدو خاسرة تمامًا لكافة الأطراف، ولن يفيد الدعم الأمريكي إسرائيل، بل سيتأثر موقف الولايات المتحدة بصورة سلبية، ستلقي مزيدًا من الشك في قدرتها مستقبلاً على دعم إسرائيل حتى ولو أرادت ذلك بضغط اللوبي الصهيوني ودوائره.
وتبدو التخوفات التي باتت تؤرق صناع السياسة الخارجية الأمريكية، بما فيهم قادات من اللوبي الصهيوني نفسه، تتمثل في ثلاثة ملفات ضخمة:
الأول أن هناك أطرافًا متربصة وقد تطرح نفسها بديلاً للوجود الأمريكي المنحاز لإسرائيل حتى النخاع، مثل الصين وروسيا، وهو الأمر الذي قد يكون مكلفًا للغاية للولايات المتحدة على الصعيد الدولي، وربما تكون بداية الانهيار بفقدان نفوذه في منطقة الشرق الأوسط لصالح تلك القوى المتربصة.
الثاني أن جنوح إسرائيل نحو مزيد من التطرف اليميني، يحولها تدريجيًا بعيدًا عما يسمى بالقيم الليبرالية التي يفترض أن تشترك بها مع الولايات المتحدة الأمريكية، وقد ظهر ذلك في تعامل إسرائيل الإجرامي والدموي مع الفلسطينيين في غزة وفي الضفة الغربية المحتلة كذلك، والإجهاض المتكرر للمظاهرات المنددة بأزمة الإصلاح القضائي في الداخل الإسرائيلي، وهو ما يتناقض مع ما يسمى القيم الأمريكية، وهذا سيؤثر بلا شك في الوعي الأمريكي العام، لاسيما وأن المعلومات حول إسرائيل باتت متاحة بسهولة أكبر مما كانت عليه في الماضي بفضل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وأيضًا بفضل قدرات خصومها الإعلامية المتصاعدة، وهو ما ظهر جليًا واضحًا في حرب طوفان الأقصى التي غيرت كثيرًا من معالم الوعي العالمي بالقضية الفلسطينية والمقاومة، وأوقعت إسرائيل وحلفاءها في مأزق غير مسبوق إعلاميًا، حتى بات انتقاد إسرائيل لممارساتها ضد الفلسطينيين أكثر شيوعًا في الداخل الأمريكي.
الثالث أن هذا الدعم الامريكي غير المشروط بات يمثل عبئًا استراتيجيًا على أمن واستقرار الولايات المتحدة؛ لأن الساسة اليمنيين في اسرائيل يستغلون هذا الدعم بصورة متطرفة للغاية، وهو ما قد يولد نمطًا مضادًا من العمل المسلح الذي سيوجه سهامه أولًا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ويضع بذور جماعات مسلحة هدفها استهداف أمن الولايات المتحدة أولًا باعتبارها الذراع الحامي لإسرائيل، ومن دونها لن تقوم لإسرائيل قائمة، وهي ذات الأفكار التي روج لها من قبل تنظيم القاعدة وتقوم عليها فلسفته وتنظيراته.
إن بوادر هذا الشرخ في مدى تأثير اللوبي الصهيوني على السياسية الخارجية الأمريكية في بعده المعاصر ظهر في عهد الرئيس الديموقراطي باراك أوباما عندما وقع الاتفاق النووي مع إيران، وقد حاولت إسرائيل بمساعدة اللوبي المناصر لها الوقوف في وجه هذه الصفقة، وقد ذهب رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو في شططه إلى محاولة تخريب الاتفاق من خلال إلقاء خطاب في جلسة مشتركة للكونجرس في 3 مارس 2015 بدعم من منظمة إيباك، والتي لم تهدف فقط إلى تقويض الصفقة، ولكنها شنت كذلك هجومًا على الرئيس أوباما نفسه.
ومن مظاهر ذلك التوجه أيضًا عدم توجيه الدعوة الأمريكية المعتادة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لزيارة البيت الأبيض، ولقاء الرئيس جو بايدن، كما كان يحدث عقب كل انتخابات إسرائيلية، فيما تم توجيه الدعوة مباشرة للرئيس الإسرائيلي، وهذا يشير إلى أن اللوبي اليهودي، خاصة إيباك فشلت في دفع البيت الأبيض لتوجيه الدعوة لنتنياهو كما هو معتاد، أو تنصلت من تلك الدعوة.
ومثل هذه التداعيات تدعونا إلى القول بأن الرؤية التي ترتكز على أن اللوبي الصهيوني لا حدود لقدراته وتأثيره على السياسية الخارجية الأمريكية باعتبار أن إسرائيل أصل استراتيجي ومحدد لتلك السياسية بات يواجه شرخًا قد يتسع وقد يلتئم وفق معطيات التعامل الإسرائيلي مع الأحداث في فلسطين المحتلة، ووفق العقل السياسي الذي يحكم تصرفات إسرائيل في محيطها الإقليمي كذلك.
Source link