إذا أردتَ أنْ تَعرِفَهم، فانظرْ إلى طريقة تَفكيرهم، فإنَّ مَدارَ تفكيرِهم ومدارَ عُقولهم جيوبُهم، هي المِعيار والمِيزان له، فما يدخل في جَيبه، فهو المصلحةُ، وما يخالف ذلك فلا.
الانتهازيُّ عبدٌ للَّذَّات والمال والجاه، الانتهازيُّ لا يُقيم وزنًا للقِيَمِ؛ بل هي آخِرُ ما يُفكِّر فيه، إذا حدَّث الانتهازيُّ كَذَبَ، وإذا وَعد أَخلفَ، وإذا اؤتُمِنَ خان، وإذا خاصمَ فَجَرَ، ليس في معجمه إلاَّ لفظُ الأَنا.
قَبلَ أَشهُرٍ قليلةٍ – وبالتحديد بعدَ حربِ غزَّةَ – كان مِنَ الواجب أن نَطرحَ مِثلَ هذا الموضوع؛ لأنَّ الظَّاهرةَ بَدتْ للعيان، لا يُنكرها إلاَّ مَن أُشرِبَ قلبُه هَوًى، فأصبح القلبُ بينَ ركامِ الذَّات وبينَ سِياط المُتابعين للأحداثِ، فَنَصرُ إخواننا في غزَّةَ صار الانتهازيُّون يستغلُّونه، كلٌّ لمصلحته.
دامتْ حربُ غزَّةَ أيَّامًا ولياليًا، وأهلُها يَبذُلون أنفسَهم وأرواحَهم وما يَملِكون في سبيل الله، وبعضُ القَريبين منهم يَبذُلون عَكسَ ذلك، يَبذُلون دِينَهم وآخِرتَهم؛ ليحصلوا على حُطامٍ مِن حُطامِ الدُّنيا، وليس ذلك بغريبٍ، بل المشكلة أنَّ هذا البلاءَ يَزدادُ إلى أن يصلَ إلى حالةٍ مُقزِّزةٍ للمتابع، وهي ظُهورُ الأَنفُسِ الانتهازيَّة للمواقف؛ لِتُلمِّعَ أنفسَها، أو لِتَقطفَ ثَمرةَ الجِهاد، أو لِتَتأكَّلَ مِن مجتمعاتها.
انتهتْ حرب غزَّة، فإذا بنا نرى على الإعلام مَن أعان اليهودَ صراحةً؛ يَخرج لِيُحَيِّيَ شعبَ فِلَسْطينَ الصَّامد في وجه العدوِّ الصِّهْيَوْنيِّ، لِمَ يُحيِّيهم وهو الذي أعان اليهودَ عليهم؟! لأنَّه يُريد انتهازَ الفُرصةِ لِيُنْسبَ النَّصرُ له، أو أقلها لِيُبرِّرَ موقفَه الخِياني.
{الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141].
الانتهازيُّون في الأُمَّة كُثُرٌ – لا كَثَّرهم الله – علمنا عن بعضهم، ولم نعلمْ عن آخرين، ولكن مَن تربَّى على الإسلام ومَن كان ذا مَبدأٍ واضحٍ، لا يلتبس عليه شيءٌ من هذه الأمور.
عجيبٌ حالُ بعض النَّاس حينَ يَرى في الإعلام ساقطًا يَتكلَّم باسم الإسلام؛ ليتأكَّلَ منه فيُصدِّقه على أنَّه مِن حُماة الإسلام الباذلين له، وعجيبٌ حينَ يَرى مِن النَّاس مَن يَتكلَّم باسم مجموعةٍ لِيَقطِفَ ثمرةَ جَهْدها فيُصدِّقه فيما يقول، أَبَلغَتْ ببعضنا السَّذاجةُ إلى هذه الدَّرجة؟!
عجيبٌ حالُ البعض حين يَرى نصرًا علميًّا أو فِكريًّا برز على السَّاحة، وبينَ عَشِيَّةٍ وضُحاها يتكلَّم إنسانٌ بما يُبهر النَّاس، فيُصدِّقونه بأنَّه هو صاحبُ النَّصر، وصاحب الإنتاج، وهو الباذِلُ الصَّادق، وهو النَّاصح لأُمَّته، وهو في حقيقته مُزَوِّرٌ للحقائق، مُتَكَسِّبٌ بجهود النَّاس.
في زمن النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – ظهر أقوامٌ مِن هؤلاءِ تَظاهروا بالإسلام، وتكلَّمُوا باسمه؛ لِيَقطفوا شيئًا من ثمرته لمصالحهم الشَّخصيَّة.
عبدالله بن أُبَيِّ بن سَلول – رَأسٌ مِن رُؤوس الانتهازيَّة – كان في المدينة الطيبة قَبلَ الإسلام؛ روى البخاريُّ – رحمه الله – في حديث أَبِي هُريرَةَ، وفيه: فدخلَ النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – على سَعدِ بن عُبادةَ، فقال: «أيْ سعدُ، ألم تَسمعْ ما قال أبو حُبَابٍ» ؟ يُريد: عبدَالله بن أُبَيٍّ قال: اعفُ عنه يا رسولَ الله واصفحْ، فوالله لقد أعطاكَ الله الذي أعطاك، ولقد اصطلح أهلُ هذه البَحْرَةِ على أنْ يُتَوِّجوه، فَيَعصِبوه بالعِصابة، فلمَّا ردَّ الله ذلك بالحقِّ الذي أعطاكَ، شَرِقَ بذلك، فذلك فَعَل به ما رأيتَ، فعفا عنه النبيُّ – صلى الله عليه وسلم.
هذا المنافقُ لم يتظاهرْ بالإسلام إلاَّ يومَ أنْ رأى النَّفع للجَيب وللمنصب في التَّظاهُرِ بالإسلام، يومَ أنْ ضاع تاجُه رأى النَّفعية له في الإسلام، وهكذا تكون الانتهازيَّة، هو وأصحابُه لَمَّا تَجلَّت حقيقتُهم يومَ الخندقِ، بدؤوا يقولون :كان محمَّدٌ يَعِدُنا كنوزَ كِسرى وقَيصر، وأَحدُنا اليومَ لا يَقدِرُ أن يذهبَ إلى الغائط! فمفهومهم من الإيمانِ الكنوزُ والجيوب فقط.
الانتهازيُّ يجعل النَّاسَ دَرَجًا له لِيَصعدَ عليهم، فيُعلي مِن شأنِه أو يَكسب حَظوةً.
تراه في كثيرٍ من الدوائر الوظيفيَّة يَسرِق جهودَ الآخرين؛ لِيُرضيَ الذَّات ويعلوَ بها، وترى هذا السُّلوكَ كثيرًا في المُديرين، يَسحَق مَن تحته لِيُظهر “الأنا”، ولتذهب جهودُ مَن تحتَه له، وترى هذا السُّلوكَ في كثيرٍ مِنَ التُّجَّار والكُتَّاب، والصحفيِّين والسِّياسيِّين، والعَسكريِّين وأَساتذة الجامعات.
مرَّ على التَّاريخ أعدادٌ منهم، فهلْ تسمعُ لأحدِهم ذِكرًا حسنًا؟!
التَّاريخ يُحدِّثنا عن ابنِ أُبيٍّ، ويُحدِّثنا عن ابن العَلقمِيِّ وزير الخليفةِ العبَّاسيِّ المستعصم، وصاحب الجَريمةِ النَّكراءِ، في مُمالأة “هولاكو” على غَزوِ بغدادَ، رتَّب مع هولاكو بمعاونة نُصَيرِ الدِّين الطُّوسيِّ قَتْلَ الخليفة واحتلالَ بغدادَ، على أملِ أنْ يُسلِّمَه هولاكو إمارةَ المدينة، مع أنَّه ارتقى إلى رُتبة الوَِزارة فَوَلِيَها أربعةَ عَشَرَ عامًا، وفي النِّهاية أُهين على أيدي التَّتار بعدَ دُخولِهم، وماتَ غمًّا في قِلِّةٍ وذِلَِّة – عليه من الله ما يَستحِقُّ.
أبو رغال قَبلَه، دَلَّ أَبرهةَ على مكان الكعبة؛ لِيَتكسَّبَ هو وقومُه مِن ذلك، فلمَّا مات صار قبرُه مزارًا؛ ولكن لِرَميه بالحجارة ولَعْنِه، حتَّى إنَّ العربَ قالوا عن كُلِّ مَن بَلَغ في انتهازيته وخيانته مَبلغًا، قالوا عنه: أبو رغال.
وأمَّا في العصر الحديث، فَمِن أمثلة الانتهازيَّة أولئك الزُّعماء الرُّؤساء، الذين يَخوضون ويُدخِلون بلادَهم في حروبٍ؛ لِيُحرِّكوا سُوقَ شَركاتِهم العملاقة، أو ليتكسَّبوا من هذه الحروب.
الأمثلة كثيرةٌ لا تحصى.
الجهود لغيرهم وهم قُطَّاف الثمرات.
فاللَّهُمَّ أَنجِ المؤمنين مِن كَيدِ هؤلاءِ، واسلك بهم دَربَ اليقين بالطَّريق، يا حيُّ يا قَيومُ.
___________________________________________________________
الكاتب: عبدالعزيز المشعلي
Source link