منذ حوالي ساعة
الستر نعمة عظيمة، ومنة جسيمة، لو كشفها الله عنا لافتضحنا، ولما نظر أحدنا إلى وجه أخيه، ولعمت العداوة والبغضاء بين الخلق أجمعين.
نعم الله علينا كثيرة، وفضائله وفيرة، لا أول لمبتداها، ولا آخر لمنتهاها.. فهي لجسامتها لا يحدها حد، ولكثرتها لا يبلغها عد، {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار}، {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم}.
والمسلم دائما في حاجة لتذكر هذه النعم ليعرف قدره، ويشكر ربه؛ فإن الشكر قيد النعم {لئن شكرتم لأزيدنكم}.
والنعمة التي أريد أن أحدثك عنها اليوم واحدة من أجل هذه النعم، نعمة لا يتفكر فيها عبد إلا زاد لله حبه، وكثر منه حياؤه، وانكسر بين يدي ربه، وتواضع له سبحانه. ألا وهي نعمة الستر.
فالستر نعمة عظيمة، ومنة جسيمة، لو كشفها الله عنا لافتضحنا، ولما نظر أحدنا إلى وجه أخيه، ولعمت العداوة والبغضاء بين الخلق أجمعين.
يقول ابن الجوزي رحمه الله: “اعلم أن الناس إذا أعجبوا بك فإنما يعجبون بستر الله عليك”، ولو أن الله نشر ما ستر لما نظر أحد إلى أحد، ولما استمع أحد إلى أحد.
والستر من نعم الله السابغة: كما قال ابن عباس في قوله تعالى: {وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة}.
قال النعمة الظاهرة: ما أحسن من خلقك. والنعمة الباطنة: ما ستره من سيء عملك.
وقيل لذي النون رحمه الله: كيف أصبحت؟ قال: بين نعمتين عظيمتين لا أدري على أيتهما أشكر: أعلى جميل ما نشر، أم على قبيح ما ستر.
وكان يحيى بن معاذ يناجي ربه ويقول: “إلهي ما أكرمك، إن كانت الطاعات: فأنت اليوم تبذلها وغدا تقبلها، وإن كانت الذنوب: فأنت اليوم تسترها وغدا تغفرها، فنحن من الطاعات بين عطيتك وقبولك، ومن الذنوب بين سترك ومغفرتك”. فاللهم أدم علينا سترك.
الستر على العباد صفة الله والستير اسمه، وهو صيغة مبالغة على وزن فعيل، أي أنه شديد الستر على خلقه. ففي الحديث: «إن الله عز وجل حيي ستير، يحب الحياء والستر» (رواه أبو داوود و غيره). وهو سبحانه «حيي كريم، يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا» (أخرجه الترمذي و غيره).
فما أكرمه سبحانه وما أحلمه على خلقه، إن سألوه استحى أن يردهم، وإن عصوه استحى أن يفضحهم؛ مع أنهم يقابلون إحسانه بالكفران، ونعمه بالعصيان، خيره إليهم نازل، وشرهم وسوء عملهم إليه صاعد، يتحبب إليهم بالنعم، ويتبغضون إليه بالذنوب، ولو شاء لفضحهم وعاقبهم، ولكن محبته للستر تمنع ذلك.
فمن محبته للستر:
أنه يعلم نية العاصي قبل معصيته، ويعلم همه بها، وعزمه عليها، ومكره لتحصيلها، وتحركه إليها، وسعيه ذاهبا إليها، وتخطيطه ليتوارى بها عن الناس، يستخفي بها عنهم، ولا يستخفي عن الله وهو معه إذ يبيت ما لا يرضى من القول.
توارى بجــدران الـبيوت عن الـــورى .. وأنت بعين الله لو كنت تشعـــــر
وتخشى عيون الناس أن ينظروا بهـا .. ولم تخش عين الله والله ينظــر
ومع ذلك يحلم الله عليه، فلا هو الذي يرسل عليه صاعقة تحرقه، ولا ملكا يصفعه، ولا أحدا يمنعه، وإنما يضع في طريقه مذكرات: آية، موقفا، نصيحة عابرة، شيئا يلفت انتباهه؛ لعله ينزع عن مراد السوء، ولكن عقل شرود، وشيطان عنيد، وغفلة مطبقة، وشهوة تعمي وتصم. ورب ذو رحمة واسعة، وأستار سابغة.
وبعد اقترافه للذنب، ووقوعه في المعصية، إذا تاب ورجع تاب الله عليه، وغفر له وكأنه لم يعصه، بل وربما يبدل سيئاته حسنات، {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}( [الفرقان:70] ).
ومن محبته للستر:أنه لم يجعل للمعاصي صوتا يظهر معها، أو رائحة تفضح أصحابها، ولم يجعل للمذنبين علامة ظاهرة يراها كل الناس؛ ليخافوا الفضيحة فيمتنعوا عنها، كما قال أبو العتاهية:
أحـســن الله بـــنا.. أن الخطايا لا تفـوح
فإذا المستور منـا.. بين جـنبيه فــضوح
وقال ابن القيم:
وهو الحيي فليس يفضح عبده.. عند التجــاهر منه بالعصـيان
لكــنه يلــقي علــيه بــســـتـــره.. فهو الستير وصاحب الغفران
ومن محبته للستر: أنه يستر عباده التائبين يوم الدين: فقد روى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال: سمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: «إن اللهَ يُدْنِي المؤمنَ، فيَضَعُ عليه كنفَه ويَسْتُرُه، فيقولُ: أتَعْرِفُ ذنبَ كذا: أَتَعْرِفُ ذنبَ كذا؟ فيقول: نعم. أَيْ ربِّ، حتى إذا قرَرَّه بذنوبِه، ورأى في نفسِه أنه هلَكَ، قال: ستَرْتُها عليك في الدنيا، وأنا أغفِرُها لك اليوم، فيُعْطَى كتابُ حسناتِه».
ومن محبته للستر: أنه يستر من يستر المسلمين: ففي الصحيحين من حديث ابن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ومَن ستَرَ مسلمًا ستَرَه اللهُ يومَ القيامةِ». وفي رواية عند الإمام مسلم: «ومن سترَ مسلمًا، ستره اللهُ في الدنيا والآخرةِ».
وعن أبي هريرة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: «لا يسترُ عبدٌ عبدًا في الدُّنيا ، إلَّا ستره اللهُ يومَ القيامةِ».
ومن محبته للستر: أنه نهى عن تتبع العورات ونشر الفضائح والزلات:
فقد [صعِد رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المنبرَ فنادَى بصوتٍ رفيعٍ فقال: «يا معشرَ من أسلم بلسانِه ولم يدخُلِ الإيمانَ قلبَه، لا تُؤذوا المسلمين ولا تتَّبِعوا عوراتِهم؛ فإنَّه من تتبَّع عورةَ أخيه المسلمِ تتبَّع اللهُ عورتَه، ومن تتبَّع اللهُ عورتَه يفضَحْه ولو في جوفِ رحلِه». (قال الألباني حسن صحيح).
فإياك وما ستر الناس عليه بيوتهم، وإياك والتحسس والتجسس فإنه مفسد لدينك، ومفسد لأخلاق الناس؛ فقد قال أبو الدرداء رضي الله عنه:” سمع معاوية كلمة من النبي صلى الله عليه وسلم نفعه الله بها: قال معاوية رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم»(والحديث في صحيح الترغيب وإسناده صحيح أو حسن). فقد ولي معاوية الإمارة عشرين سنة، والخلافة عشرين سنة فما تجسس على أحد قط.
وجاء رجل إلى ابن مسعود وكان واليا على الكوفة فقال له: هل لك في فلان تقطر لحيته خمرا؟ قال: إن الله عز وجل نهانا عن التجسس، وإن يظهر لنا شيئ نأخذ به.
فإياك وهتك أستار الناس فيهتك الله سترك.. فإن الجزاء من جنس العمل، وقد أنشد أبو العباس الرهبي:
لا تهتكن من مساوي الناس ما ستــرا…. فيهتك الله سـترا عن مساويكا
واذكــر محاســن ما فـيهم إذا ذكـروا…. ولا تعب أحدا منهم بمـا فيـكــا
فحري بصاحب الذنب، وأسير الشهوات، وصريع السيئات، أن يستر ليستر، وألا يعيب الخلق وهو معاب:
إذا عبت قوما بالذي فيك مثله.. فكيف يعيب الناس من هو أعـور
وإن عبتـهم بالذي لــيس فيهم.. فــذلك عــند الله والــناس أكــــبر
صور للستر:
إن ستر الله على عباده لا يقف فقط عند ستر عيوبهم وذنوبهم وفضائحهم وإخفائها عن عيون الناس، بل الستر أكبر من هذا بكثير.. فمن صوره:
. أن يغني عبده ويرزقه ما يكفيه؛ ليحفظ به وجهه أن يبذله لأحد، أو أن يحوجه فيمد يديه للناس.
. ومن ستره أن يعافيه في بدنه وسمعه وبصره، فلا يصيبه مرض يحوجه إلى من يقيمه ويقعده، أو يسقيه ويطعمه، أو يذهب به إلى الخلاء فترى عورته.
. ومن ستره أن يعافي العبد في عرضه في بناته وزوجاته ونسائه وأهل بيته، فلا يأتي منهم ما يفتضح به بين الخلق، ويشين ذيله بين العباد، ويكسر نفسه، ويرغم أنفه.
. وأعظم أنواع الستر أن يديم عليه إيمانه فلا ينقضه عليه؛ فيفتضح يوم الدين بين يدي ربه ونبيه والمسلمين والخلق أجمعين.
لا تهتك ستر الله:
اعلموا رحمكم الله أن الله يستر عبده ما دام العبد يستر نفسه، وما دام في قلبه بقية حياء من الله والناس، فإذا تهتك العبد ولم يبال بنظر الله ولا بنظر الخلق، فربما هتك ستره وفضح أمره.. وكما قال بعض السلف: الستر ستران: ستر بين العبد وبين الله، وستر بينه وبين الناس، فمن هتك الستر الذي بينه وبين الله، هتك الله الستر الذي بينه وبين الناس.
فاحذروا من نفار النعم، وحلول النقم، ولا تأمنوا دوام الستر فإن بساط الحلم ربما قبض، وإياكم والاستدراج.
فيا مسبل الستر لا تهتك عنا سترك.. اللهم أدم علينا سترك الجميل، واجعل تحت الستر ما يرضيك؛ فطالما سترت على ما لا يرضيك. اللهم استرنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض عليك.
Source link