إنَّ الإسلامَ المستمدَّ مبادِئه مِن الكتاب والسنَّة يعمل على استقرار الحياة، محقِّقًا التوازن البيئي الذي يُحافِظ على هذه الأرض، وهناك أمثلة على ذلك مِن خلال مسائلِ الفروع في الفقه
أَيُّها المسلمون، اتَّقُوا اللهَ – تعالى – حَقَّ التقْوَى، واسْتَمْسِكُوا مِنَ الإسْلامِ بالعُروة الوُثقَى؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18].
يَقُولُ الحق – تبارك وتعالى -: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} [الأعراف: 10]، وقال – جل شأنُه -: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} [الحجر: 20].
خلَق الله الإنسانَ مِن سلالة مِن طين، ثم خلَقه من نُطْفة فأوْدَعها في قرارٍ مَكين؛ لتستمرَّ مراحل التكوين بعدَ ذلك، فأنشأه خلْقًا آخَر، وقد أوْجَده لغاية حدَّدها، ولأمانةٍ حملَها، عجزتِ السمواتُ والأرض والجبال عن حمْلِها، وركَّب في الإنسان ما شاء؛ ليكونَ أهلاً لحمْل هذه الأمانة، وتَصِل ذِروة التكريم فيمنحه عقلاً وسمعًا وبصرًا وأفئدة؛ قال تعالى: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ * قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الملك: 23 – 24].
والإنسانُ أكْمَلُ ما خَلَق الله – عزَّ وجل – ولم يكن هذا الكمالُ فيه عبثًا، بل كان مِن أجْل تكاليفَ كُلِّف بها، والمؤمِن المعتَبِر يلاحظ أنَّ هناك ترابطًا بيْن خلْق الأرْض والإنسان، فهو مخلوق منها، وهي التي خُلِقت له، وإليْها يعود، وفيها البعْث والنُّشور، فمراحِل الحياة كلُّها بالنسبة للإنسان مرتبطةٌ بالكوكب الذي يعيش عليه؛ قال – تعالى -: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55].
ولكَيْ تَكونَ حَيَاتُه سَعِيدَةً سَخَّر لَه جَميعَ ما فِي الأَرضِ، بل تجاوز ذلك إلى تَسْخيرِ السماء له؛ {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29]، وقال – جلَّ في عُلاه -: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 13].
فعَجبًا أبعْدَ هذه النِّعم التي منحَها الله لهذا الإنسان لا يُوفي حقَّ الله بشكرِها، بل يكفُر بها ويجحدها؛ {أَوَلَمْ يَرَوا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت: 67]!
إنَّ الله خلَق الإنسان لرسالةٍ تتضمن عددًا من المبادِئ السامية: المبدأ الأول: أنَّه خليفةُ الله في الأرْض، وبمقتضى الخِلافة مسؤول عن عمَلِه؛ قال – جلَّ شأنُه – في سياق الامتنان على بني إسرائيل: {قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129]، وقال سبحانه: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 14].
فربَط الله بيْن الخِلافة والعمل، فخرابُ الأرْض وتدميرها يكون سببًا في عدمِ استحقاقِ الإنسان لهذه الخِلافة، وقد أتاح الله للإنسانِ فُرصًا مناسبة لعِمارة هذا الكوكب، وعمارَةِ هذا الكوكب هو المبدأ الثاني، فقال – جلَّت قدرتُه -: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود: 61]، ولتتضح معالِم هذه العِمارةُ يقول – سبحانه وتعالى – ممتنًّا على ثمود: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الأعراف: 74].
وإذا كانَ غايةُ خلْق الإنسان الاستخلافَ والعِمارة، فإنَّ الغاية الأسْمَى لخلْقه عبادَة الله وتَقديسه وتَمْجيده: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونَ} [الذاريات: 56].
وحتى تتحقَّق هذه المبادِئ، ذلَّل الله للإنسانِ الصِّعابَ، وجعَل الأرض عروسًا تُكسَى بنباتٍ سُندسي، يُستظلُّ بشجرِها، ويُنتفَع بثِمارِ نباتها، ويَنهل من معينِ مائها؛ ليكونَ كل ذلك رِزقًا له، وبفِطرة هذا المخلوق هدَى الله آدمَ وزوجَه بعد أن أكلاَ من الشجرة التي نهاه الله عنها، فاتَّخذ من أوراقِ الشجر ثيابًا يستر عورتَه؛ قال عز من قائل: {فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121]؛ لتنشأَ بعدَ ذلك العلاقة الحميمة بيْن الإنسان والشجر، أتعتدي ذُريتُه بعد ذلك على الشجرة بقطعِها وإتلافها؟!
إنَّنا كلَّما قرأْنا القرآن، وتأمَّلنا في أسراره، نبَّهَنا على ارتباط الإنسان بالأرض؛ لأنَّها سِرُّ كينونته؛ قال تعالى : {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 24 – 32].
إنَّ الآياتِ الكونيةَ التي خاطب الله الإنسانَ بها في القرآن الكريم بلغَتْ ألفًا وثلاثمائة آية، بل هناك سورٌ في القرآن عُنونَتْ بظواهر الزمان، من بيْن هذه السُّور: سُورةُ الفجر، والليل، والضحى، والعصر، وكلُّها تأتي في سياقِ القَسمِ؛ ليدُلَّ على قيمةِ هذه الظَّواهِر.
كما أنَّ هناك سورًا سُمِّيت بأسماءِ الكواكبِ والنُّجومِ، مِن بينها سورةُ النجم والقمر، والبروج والشمس، ولِيَلْفِتَ اللهُ انتباهَنَا إلى المخلوقاتِ الأُخرى من حيواناتٍ وحشَراتٍ، فهُناك سورٌ أخرى مِن بينِهَا، كسورة البقرة والأنعام، والنحل والنمل، والعنكبوت والعادياتِ، والفيل، وفي إطارِ التنبيه لعبادهِ يُخَاطِبُ اللهُ الناسَ جَمِيعًا مُؤْمِنَهُم وكافِرَهم، فَيَقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون} [البقرة: 21 – 22].
ففي هاتيْن الآيتَيْن الكريمتَيْن أمرٌ مِن الله بعبادته، والعِبادة وسيلةٌ لتحقيق التقوى، فقد جعَل لهم الأرْضَ فِراشًا، والسماء بناءً، وأنزل من السماء ماءً يَروي نباتهم وزُروعَهم ومواشيَهم؛ ليكون ارتباطُهم بهذه الآيات، فيُخلصون للواحِد الأحَد، ومع ذلك جعَلوا لله أندادًا فعبَدوا المادة، واتَّخذوا من الحيواناتِ والكواكب والنجوم آلهةً لهم، وهو المنزَّه عن كلِّ ذلك، تَعالى الله عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا.
إنَّ هذه النِّعمَ التي أنْعَم الله بها على الإنسانِ كثيرةٌ لا تُحصَى، فقدْ خلَق الله الأنعام؛ للانتفاع بها، وسخَّرَها له؛ لتكون مصدرًا مِن مصادر ثروتِه، ولينظر إليها في تركيبها، فيجد فيها إحكامَ الخلْق، وإتقانَ الصنعة، وإكمال القُدرة؛ {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: 5].
وبتطوُّرِ الإنسان ورُقيِّه في مدارجِ العلم، واكتشافه مصادرَ جديدةً للطاقة – تنوَّعت مصادرُ رِزقه، فسخّر له البحر الذي لا حدَّ له، ينتفع بما فيه مِن خيْرات وفيرة، وينتقل بالفُلْك المختلفة الحجم على شواطِئه الشاسِعة: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 14].
ويُواكِب هذا التطوُّرَ تقدمُ الصناعة، وانتشار إنتاجها، فتتنوَّع مصادرُ الاقتصاد، وليتحقَّق الرفاء لبنِي البشَر، إنَّ عطاءَ الله – سبحانه وتعالى – لا يُحدُّ، فلقدْ ذلَّل الله للإنسان الأرْضَ يمشي في مناكبها؛ ليغوصَ في باطنها، فيستخرج المعادِنَ المتنوِّعة التي تلزم للصناعة، فتزداد الاختراعاتُ، وتكثُر الابتكارات، وتَغار الناس على بعضِها البعض بتلك الحُروب المدمِّرة، ويُشاهِد عصرُنا تطورًا لأسلحة الدمار الشامِل، فهناك أسلحةٌ جُرثومية، وأسلحة كيميائية، وأخرى نوويَّة تدميريَّة، ورابعة فُسفورية، إلى غيرِ ذلك من الأسلحة التي تُبيد الإنسانَ، وتخلُّ بتوازن البيئة، فلا هَمَّ للأقوياء إلا تدمير الضُّعفاءِ، ولا هدف للجميعِ إلا محاولة القضاء على الكوْكَب الذي نعيش عليه، فالدُّول الكُبرى لا تكتفي بما منَحَها الله من ثرواتٍ، فتراها غازيةً مغتصِبةً، محتلَّة ومسيطرة على منابعِ النّفْط، ومناجم الفحْم، والذهب والفضة والحديد، وغيرها من المعادن، بل تراها أيضًا مسيطرة على أعالي البِحار، ومن أجْل تحقيقِ أهدافها تُلوِّث البيئةَ بدفْن نفاياتها في أراضي الدُّول الصُّغْرى، فتخل بمبدأ التوازن البِيئي، وصَدَق الله العظيم؛ {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس: 17].
إنَّ دعاةَ حماية البيئة ما زالوا يَعقِدون المؤتمراتِ، ويصوغون الاتفاقات؛ ليلتزمَ بها بنو الإنسان في العالَم، إلاَّ أنَّ الأقوياء يعْبثون بهذه الاتِّفاقات، فلا يُوقِّعون عليها؛ تحقيقًا لمطامعهم، ونسمع في هذه الأيامِ عن الثُّقب الناشِئ في الغلاف الجوي للأرْض، وكما نسمع عن الاحتباسِ الحراري، وعن الانقراضِ الذي يحدُث في بعض الأحياء البَريَّة والبحرية، وآخِر نبأٍ اهتزَّ له العالَم تلك البقعة النّفْطية الكبيرة الحجْم، التي غطَّتْ جزءًا كبيرًا من شواطئ الولايات المتحدة والمكسيك، ما هدَّد الثروة السمكية بالتناقص، أليس ذلك اعتداءً على كلِّ مَن يُسبِّح الله ويُقدِّسه ويُمجِّده بلُغة لا نسمعها، بل لا نفهمها؟! قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44]، وقال – جلَّ في علاه -: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18].
كَما أنَّ المسلمين في الأقطارِ العربيَّة والإسلامية يُمارسون التلوثَ بأبشعِ صُوره، فيُقيمون المصانعَ دون دراسةٍ، ويُنشِئون المباني على أنقاضِ الأرْض الزِّراعية، ويُلوِّثون مصادرَ المياه تلويثًا مبالغًا فيه، فيُكثرون من حفْر الآبار مِن غيْر مراقبة، ولا مُحاسَبة، كما تدمِّر الحِزام الأخضر فتزحَف الرِّمال، ويُهدِّد التصحُّرُ مرافقَ الحياة، ويُهدِرون الطاقة المائية بتبديدها، وتنتشر عوادمُ السيَّارات، فلا يتنفس المقيمُ في هذه الأقطار إلا هواءً فاسدًا، فتكثُر الأمراض، يُضاف إلى ذلك انتشارُ القُمامة في كلِّ مكان، كما يستهلك الإنسانُ أطعمةً ضارَّة تزيد الوضع سوءًا، فتكثر الصيحاتُ لحماية البيئة، ولا مُجيب! ولو عادَ الناس إلى تعاليمِ الإسلام، ودَرسوا تشريعاتِه، لاستراحتِ البشرية مِن هذا التلوُّث، ولتحقَّق على هذه الأرْضِ العدلُ المنشود.
إنَّ الإسلامَ المستمدَّ مبادِئه مِن الكتاب والسنَّة يعمل على استقرار الحياة، محقِّقًا التوازن البيئي الذي يُحافِظ على هذه الأرض، ونضرِب أمثلة على ذلك مِن خلال مسائلِ الفروع في الفقه:
أولاً: أمَر الله الإنسان المؤمِن بالنظافة، فاشترَطَ عليه طهارةَ البدن والثوْب والمكان، وأوْجَب عليه غسل بدنِه كلِّه، فقسم الغسل إلى واجب ومسنون، كما أوْجَب عليه الوضوء، والغاية مِن غسْل أعضائه الظاهرة النَّظافة، كما حثَّه على دخولِ المسجد، وأمَرَه بأن يتعطَّر، وأن يأخذَ زِينته فيها.
ثانيًا: نهَى الله – سبحانه وتعالى – عن تلويثِ الطريق بالأَذَى عن معاذ بن جبل – رضي الله عنه – قال: سمعتُ رسولَ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – يقول: «اتَّقوا الملاعِنَ الثلاث: البَراز في الموارد، وقارِعة الطريق، والظل»؛ أخرجه أبو داود، وابن ماجه، والطبراني والحاكم، وقال: صحيح الإسناد، ووافقَه الذهبي، والبيهقي.
وسمَّاها النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – الملاعِن؛ لأنَّ الناس تلعَن مَن يفعل ذلك؛ عن أبي سعيد، عن النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: «إيَّاكم والجلوسَ في الطُّرقات»، فقالوا: يا رسولَ الله، ما لنا مِن مجالسنا بُدٌّ نتحدَّث فيها، فقال: «إذا أبيتُم إلا المجلسَ، فأعْطوا الطريقَ حقَّها»، قالوا: وما حقُّ الطريق يا رسول الله؟ قال: «غضُّ البصر، وكفُّ الأذى، وردُّ السلام، والأمرُ بالمعروف، والنهي عن المنكر»؛ (متفق عليه).
وعن أبي هُريرةَ، قال: قال رَسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «الإيمانُ بِضْعٌ وسبعون أو بِضْع وستُّون شُعبةً، فأفضلُها قول لا إله إلا الله، وأدْناها إماطةُ الأذَى عن الطريق، والحياء شُعْبة من الإيمان» (متفق عليه).
ثالثًا: إذا تأمَّلْنا في مناسكِ الحجِّ، فإنَّ الله ورسولَه أمَر المسلمين بألاَّ يَقْتُلوا حشرةً، ولا يَقْطعوا شجرةً، ونهاهم عن الصَّيْد فيه، أليس هذا مصالحةً مع البيئة ومكوناتها؟! إنَّ العالم اليوم لم يصلْ إلى إعلانٍ واحد لحمايةِ البيئة على ضوْء تعاليم الإسلام.
رابعًا: كما نَهَى عن إتلافِ الحيوانات بالصَّيْد، فأوْجب على كلِّ مسلم ألاَّ يصيدَ إلا بقصْد الانتفاع.
خامسًا: عندَ مواجهتِه مع الأعداء قصَر هذه المواجهة في ميدان الحرْب، فنهاه عن قتْل الأطفال والنِّساء والمسنِّين، وتدميرِ المعابد حتَّى ولو كانتْ لغير المسلمين، كما نَهاهم عن كلِّ ما ينتفع به، نهاهم عن قطْعٍ للأشجار، وتلويث للأنهار، وإتلاف لجميع الأحياء البريَّة والبحرية.
سادسًا: حرَّم الله على المسلِم كلَّ شيء ضارٍّ يمسُّ بدنه، ويُلحِق به الأذى، كأكْل الميتة، وشُرْب الدم، وأكْل لحْم الخنزير، وغير ذلك من المحرَّمات التي ذكَرَها الله في كتابه؛ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3].
سَابِعًا: حثَّ الله المسلِمَ على الرِّفق بالحيوانات بحِمايتها وتربيتها، ولا أدلَّ على ذلك مِن أنَّ رسولَ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – أُتي له بإناءٍ فيه وَضوء، فمالتْ هِرَّة إليه، فأصْغَى رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – الإناءَ إليها، وقال: «إنَّها من الطوَّافات عليكم» فشرِبتْ ثم توضَّأ بسُؤرها؛ أخرجَه أبو داود.
فانظرْ إلى رحمته وعطْفِه على الحيوان، مع أنَّ الوضوء أُعِدَّ للعبادة، كما أخْبَر النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم -: بأنَّ «رجلاً يسير في الصحراءِ، فاشتدَّ عليه العطشُ، فوجَد بئرًا فنزَل فيها فشرِب، وإذا كلْبٌ يَلْهَث الثَّرَى من شدَّة العطَش، فقال الرجل: لقد بَلَغ بهذا الكلْب مثل الذي بلَغ بي، فنَزَل البِئر وملأَ خُفَّيْه ماءً وأمْسك بفِيه، وسقَى الكلب، فشَكَر الله له، فغَفَر له»؛ (أخرَجه البخاري ومسلم).
أين هذه المبادئُ الإسلامية من القوانين التي شرَعها أولئك الذين يدَّعون الرِّفْق بالحيوان؟
هذه بعضُ النماذج مِن تعاليم الإسلام، فهل ارْتَقى الإنسان الذي يزعُم المدنيَّة إلى هذه التعاليم؟
إنَّ الإسلام أمَرَ الناس بزَرْع ما يقدرون عليه؛ لتتنفسَ الأرض هواءً نقيًّا؛ عن أنس – رضي الله عنه – قال: قال رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «ما مِن مُسلِم يغرِس غرسًا، أو يَزْرَع زرعًا، فيَأكل منه طيْر أو إنسان أو بَهيمة، إلاَّ كان له به صَدَقة»، (رواه الترمذي)، وعن أنسِ بن مالِك قال: قال رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «إنْ قامتِ الساعة وبِيَدِ أحدكم فَسِيلة، فإنِ استطاع ألاَّ يقومَ حتى يغرسَها فليفعلْ»؛ (رواه الإمام أحمد وإسناده صحيح على شرْط مسلم).
فما أجملَ أن يربعَ الناسُ إلى يَنابيع الإسلام، فيَنهلون مِن يَنابيعه الصَّافية، التي لا يَشوبها كَدَر! ولو أنْصَفوا لسلمَتِ الأرْض مِن هذا الاعتداء، نسأل الله – سبحانه وتعالى – أن يَهدي المسلمين إلى تطبيقِ تعاليمِ الإسلام، وجميعَ الناس إلى الأخْذ بمبادئه؛ لتَسلمَ الأرض، ويصفوَ الماء.
هذا، وصَلُّوا – رحمكم الله – على خيرِ البرية، وأزْكَى البشرية محمَّد بن عبدالله، فقد أمرَكم الله بأمرٍ بدأَ فيه بنفسِه، وثنَّى بملائكته المسبِّحة بقُدْسه، وبِكم أيُّها المؤمنون، فقال – جلَّ وعلا -: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
_______________________________________________________
الكاتب: عبداللطيف المهلهل
Source link