“المرء لا بدَّ أن يكون في حيطة وحذرٍ من لدغات لسانه؛ حيث إنَّ أشدَّ السُّموم فتكًا سُمُّ اللسان، وطاعتها تُورِث الندم والخيبة والخذلان”.
تزخر اللغة العربية بعددٍ كبيرٍ من الأمثال السائرة والحِكَم اللطيفة حول حفظ اللسان وصيانته من فضول القول واللَّغو والثرثرة؛ كقولهم: “إنَّ البلاء موكَّل بالمنطق”، وقولهم: “رُبَّ رأسٍ حصيدُ لسانٍ” و”من كثُر كلامه، كثُر ملامه”، و”طاعة اللسان ندامة”، و”إذا كان الكلام من ذهب، فإن السكوت من فضَّة”، و”رُبَّ قول أشدُّ من صولٍ”، وغير ذلك.
كما تحملُ اللغة العربية في أحشاء بحرها الطامي دُرَرًا نادرةً من الأبيات الشعرية الجميلة التي تحثُّ على السكوت وملازمة الصمت، والكفِّ عن التطاول والتشدق وتجريح الناس أو النيل منهم أو التقليل من شأنهم؛ وذلك لأن القولَ يَنفذُ ما لا تنفذُ الإبَرُ:
وقد يُرجى لجُرْح السَّيف بُرْءٌ ** وجُرْح الدهر ما جرح اللسان
ويذكر الشافعي رحمه الله أنَّ المرء لا بدَّ أن يكون في حيطة وحذرٍ من لدغات لسانه؛ حيث إنَّ أشدَّ السُّموم فتكًا سُمُّ اللسان، وطاعتها تُورِث الندم والخيبة والخذلان.
احفَظ لِسانَكَ أَيُّها الإِنســـــــانُ ** لا يَلدَغَنَّكَ إِنَّهُ ثُعبــــــــــانُ
كَم في المَقابِرِ مِن قَتيلِ لِسانِهِ ** كانَت تَهابُ لِقاءَهُ الشُّجعان
وقالوا في فضل الصمت عن فضول الكلام، وصيانة اللسان عن اللغو والعبث والجدال العقيم: إنَّه دليلٌ على الحكمة والعقل، وصفاء السريرة وحسن الإسلام، وهو يُكسِب أهله الهيبة والوقار، ومحبة الناس ولطفهم؛ لسلامتهم من ضرره وأذاه، وشبَّهوا الألفاظ النابية والكلمات الجارحة بوخز السِّنان، وذكروا أنَّ زلَّة الرأي تُنسي زلَّة القدم كإشارة إلى أنَّ زلَّة القدم أخفُّ احتمالًا من زلَّة اللسان، وأنَّ الإنسان إذا أراد السلامة من الأذى عليه أن يتحكَّم في لسانه، ويمتنع من الخوض في أعراض الناس وعوراتهم، ويعرض عن القيل والقال وكثرة المِراء والجِدال.
إذا شئتَ أنْ تَحْيَا سَلِيْمًا مِنَ الأذَى ** وَحظُّك مَوْفُورٌ وَعِرْضُكَ صَيِّنُ
لسانك لا تذكر به عورةَ امـــــــرئ ** فَكُلُّكَ عوراتٌ ولِلنَّاسِ ألْسُــــنُ
وشبَّهوا كذلك القول الجميل والفعل الحسن بالعسل، وأنه سببٌ للمحبَّة والودِّ والتقارب والتفاهم، فمَنْ لانَتْ كلمتُه وجبت محبَّتُه، وأصبح طَعْمُ ذِكْرِه مَعْسُولًا بِكُلِّ فَمٍ. والكلمة الطيبة والتعاطف مع الناس، والثناء على الجانب المشرق من حديثهم، واحترامهم، والاستماع إليهم، وتحفيزهم على الخير، وعدم الحطِّ من أقدارهم جمالٌ وسموٌّ وأريحيَّة تصفي السرائر وتدخل البهجة والسرور، وتترك مفعولًا سحريًّا في النفوس.
وزِنَ الكلامَ إذا نطَقْتَ ولا تَكُنْ ** ثرثارةً في كلِّ وادٍ يخطبُ
شمعة أخيرة:
إن الشخص الذي يحسن اختيار الألفاظ والتعبيرات في الطرح والمناقشة، ويستمع إلى الآخرين بهدوء ورويَّة جديرٌ بالاحترام والتقدير، أمَّا الذي لا يرى إلا نفسه فقط وأنَّه “وحده الكوكب الدُّرِّي، وقُبة الفلَك، ونادرة الزمان، وبركة الوقت، وغيره قاصر، وعليه مآخذ وملاحظات” لجديرٌ بأن يصدق عليه قول الشاعر:
ومن لم يقيِّد لفظه متجمِّلًا ** سيُطلَقُ فيه كلُّ ما ليس يجملُ
Source link