تعتبر الهوية الدينية الفلسطينية أحد أهم عوامل صمود الشارع الفلسطيني في وجه المشروع اليهودي في فلسطين، واستمرار جذوة المقاومة في ظل بيئة حاضنة صلبة وقوية تستند إلى مشروعية دينية ووطنية، فهي تستند إلى امتداد ثوري إسلامي سُنِّيّ
تحتكم الأراضي الفلسطينية إلى هوية سياسية فرضتها اتفاقية «أوسلو» بين منظمة التحرير الفلسطينية والدولة العبرية، وكانت تلك الخطوة الأكثر ضررًا على الحالة النضالية الفلسطينية منذ نكبة عام 1948م، وأسفرت عن انقسامات حادّة داخل المجتمع الفلسطيني من الناحية السياسية والأيديولوجية كان عنوانها البارز «الهيمنة على صناعة القرار الفلسطيني»، لكنّ الانسحاب الصهيوني من قطاع غزة عام 2005م أعاد فَرْض بعض الترتيبات.
كان أبرزها بداية ظهور المقاومة الفلسطينية بصورة عامة كقوة لا يمكن إزاحتها عن صناعة القرار في القطاع؛ رغم الكثير من الضغوط التي تعرَّضت لها أمريكيًّا وصهيونيًّا، وكذلك مِن قِبَل السلطة الفلسطينية في سبيل تدجينها ومصادرة سلاحها وتطويعها لمواصلة توفير بيئة أمنية حاضنة للمشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين.
جرت محاولات عديدة باءت بالفشل لإيجاد قاعدة تَوافُق بين السلطة الفلسطينية وحركة حماس بصفتها الأعلى صوتًا بين فصائل المقاومة في القطاع الذي لا تزيد مساحته عن 365 كم2، لكنه ثريّ بنضاله السياسي؛ بفضل بيئة سكنية واجتماعية حاضنة تتشكّل مكوّناتها من 2,2 مليون نسمة ينقسمون بين أبناء المخيمات والسكان والأصليين للقطاع.
هذا الفشل برَّره استناد المصالحة بين الجانبين إلى قاعدة سياسية واحدة تلبّي طموحات الأمن القومي الصهيوني، ويدعم مشروعيتها اللجنة الرباعية الدولية التي شُكِّلت بإدارة أمريكية وتُؤكِّد على اعتراف حركة حماس بالدولة العِبْرية وتسليم سلاح المقاومة، وهو أمر لا يتنافى فقط مع منهجية «حماس»، بل أيضًا مع رغبة الشعب الفلسطيني وإيمانه بحقّه في استرداد حقوقه التي عجزت اتفاقيات السلام العربية والفلسطينية عن إرجاع ولو جزء بسيط منها.
تعتبر الهوية الدينية الفلسطينية أحد أهم عوامل صمود الشارع الفلسطيني في وجه المشروع اليهودي في فلسطين، واستمرار جذوة المقاومة في ظل بيئة حاضنة صلبة وقوية تستند إلى مشروعية دينية ووطنية، فهي تستند إلى امتداد ثوري إسلامي سُنِّيّ أطلقه العديد من قادة الثورة الفلسطينية منذ عام 1936م؛ أمثال: الحاج أمين الحسيني، والقائد العسكري الشهيد عبد القادر الحسيني، والشهيد عز الدين القسام، وكانت الحاضنة الأبرز لهذه الحاضنة هي التعليم الشرعي في مدينة القدس وزوايا المسجد الأقصى المبارك.
لم تكن فلسطين يومًا تشبه في مقاومتها أي مشروع نضالي آخر، فهي لا تُقاتل من أجل استعادة أرض، بل إنها تقاتل من أجل إزالة حضارة همجية قائمة على العدوان والقتل والسلب والإجرام تُعدّ هي رأس الحربة للقوى الغربية بأَسْرها لذلك حينما تعرَّضت الدولة العبرية لهجوم السابع من أكتوبر الذي حطَّ من مكانتها العسكرية وعرَّى الصورة الأسطورية الوهمية التي صُنِعَتْ عن عَمْد لهذا الكيان؛ حشدت المنظومة الغربية كلّ قوّتها للتضامن مع هذا العدوان الغاشم على أهل غزة؛ لاستيعابها حقيقة أن حالة المقاومة اليوم هي الأفضل من نوعها من حيث الكفاءة القتالية والحاضنة الشعبية والسقف السياسي، فقد بدأت مرحلة الهجوم وليس الدفاع بالنسبة للعقل القتالي الفلسطيني وليس فقط صدّ العدوان في بيئة غربية هي الأضعف منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
يتصارع في الدولة العبرية قوتان؛ تستند إحداهما إلى حاضنة دينية بدأت تبرز منذ سبعينيات القرن الماضي بعد حرب أكتوبر 1973م، وأظهرت تفوُّقها في السنوات الأخيرة؛ بسبب فساد النخبة السياسية في الدولة العبرية، ومحاولة رئيس الوزراء الحالي الليكودي بنيامين نتنياهو حماية وتحصين نفسه، وكذلك استمرار هيمنته على الحكم من خلال مجموعة تعديلات قضائية؛ مثل: قانون الإصلاح القضائي، ولذلك يسعى بكل قوته لإحاطة نفسه بتحالف من اليمين؛ حيث كانت آخر قراراته -لدعم تكتلات هذا التحالف- تخصيص 3,6 مليار دولار لدعم المدارس الدينية.
أما القوى الأخرى فهي اليسار الصهيوني الذي يصارع من أجل البقاء، ولا يبرر صموده سوى الدعم الأمريكي له، فهو يُمثِّل قوة المشروع الأمريكي في الدولة العبرية الذي يحاول أن ينتشل هذا الكيان من التحول إلى دولة أوتوقراطية متطرفة تفشل في القدرة على التأقلم مع جيرانها وتَفْقد فاعليتها بالنسبة لمصالح الأمن القومي الأمريكي في المنطقة.
لذلك نحن أمام تجرُّد واضح في ملامح المعركة المتواصل مع الاحتلال بين قوة دينية يهودية تَستخدم غطاء الدولة الديمقراطية، وبين مقاومة فلسطينية تستند إلى حاضنة شعبية تشكّل غالبيتها العظمى من المسلمين السُّنة هي التي وفَّرت كلّ مقومات الصمود طوال الحرب الجارية في القطاع.
ويعود الفضل في ذلك إلى مجموعة عوامل؛ أهمها: التعليم الرسمي الفلسطيني الذي تعد الدراسات الإسلامية والشرعية جزءًا أساسيًّا منه في مراحله الأساسية والجامعية، وهي تتبنَّى خطًا واضحًا يستند إلى التراث الشَّرعي؛ يتشكل من خليط متقارب بين الشافعية والسلفية، يُقدّس المقاومة بصفتها البوصلة الوحيدة لاستعادة الحق الفلسطيني.
وقد تم ترجمة ذلك في المناهج الفلسطينية في المدارس والجامعات؛ من خلال قرارات حكومية واضحة، مثل قرار وزارة التعليم في قطاع غزة بالسماح لطلبة التعليم الشرعي بالدخول إلى كلّ تخصصات العلوم الإنسانية، ومنح حَفَظة القرآن الكريم إعفاءات من الرسوم الدراسية بنسبة 100% في أغلب الجامعات الفلسطينية، وكذا في الجامعات الخاصة، وكذلك الأمر بالنسبة للطلبة المتفوقين في الثانوية العامة الذين يرغبون في الالتحاق بالدراسات الشرعية.
فالمنهج الفلسطيني -والذي يَنْظُر بأهمية بالغة إلى التراث الاجتماعي والديني والسياسي الفلسطيني بصفته جزءًا من هوية الإنسان الفلسطيني والمستقبل السياسي للمشروع النضالي الفلسطيني- أجبر كافة الجامعات الفلسطينية على تدريس الدراسات الشرعية ضمن مقرراتها الجامعية، بما فيها الجامعات التابعة للسلطة الفلسطينية، وتُشكِّل الجامعة الإسلامية أبرز محاضن الدراسات الشرعية في قطاع غزة بصفتها أحد أهم المحاضن البشرية للمشروع السياسي الإسلامي في القطاع.
أما المحور الأكثر تأثيرًا في الإسناد الشعبي للمقاومة في القطاع، والذي بدأ تأثيره وانتشاره يتزايد منذ انطلاق الانتفاضة الثانية عام 2000م؛ فهو مراكز تحفيظ القرآن الكريم التابعة لجمعية دار القرآن الكريم في قطاع غزة، والتي يبلغ عددها -وفقًا للدكتور جميل عدوان مدير الجمعية- 776 مركزًا في أنحاء مختلفة في القطاع، بخلاف المراكز التابعة لوزارة الأوقاف والشؤون الدينية التي ينتظم في مراكزها الآلاف من الطلبة، والمراكز التي تقوم عليها جمعيات أخرى.
تقول جمعية دار القرآن الكريم والسنة: «إن مراكزها تحتضن 22 ألف طالب، يجمعهم دائرة «منتدى الحُفَّاظ» لتثبيت حفظ القرآن».
يعتمد سكان قطاع غزة بدرجة كبيرة على مراكز التحفيظ -وفقًا لإفادة المُحفِّظة رائدة الشوبكي- لتنشئة أبنائهم وبناتهم تنشئةً سليمةً لتنظيم سلوكهم الأخلاقي وتصحيح بوصلتهم الفكرية والثقافية وتعزيز لغتهم العربية.
وتماشيًا مع أهمية مراكز التحفيظ كقاعدة إسناد بشري للمقاومة وتزايد الطلب عليها؛ قامت جمعية دار القرآن الكريم والسنة بافتتاح أكاديمية «دار القرآن الكريم والسنة الإلكترونية العالمية» بتمويل من مؤسسة يدي باشاك التركية، وفي غُرَف متلاصقة للتعليم الإلكتروني، يفصل بينها عوازل زجاجية، يجلس قرابة 60 مدربًا من نُخَب التعليم الشرعي في القطاع، أمام أجهزة الحواسيب، يشرحون طريقة نطق بعض الكلمات في القرآن، ويُفسِّرونها للمتدربين، عبر منصّة «زووم».
تقول الجمعية: إنها استقبلت نحو 3 آلاف طالب يرغبون في الانضمام للأكاديمية من 82 دولة، من بينهم طلبة غير ناطقين باللغة العربية. وإلى جانب الأكاديمية أطلقت الجمعية عام 2015م مقرأة إلكترونية صغيرة لتحفيظ القرآن وتعليمه عن بُعْد، خرَّجت حتى عام 2021م نحو 20 ألف طالب وطالبة حول العالم.
ومن المحاور المهمة التي تُعدّ من مُقوّمات الاصطفاف الشعبي حول المقاومة: المخيّمات الصيفية والقرآنية التي تنتشر في العطلة الصيفية في قطاع غزة؛ فهي لا تقتصر فقط على تعليم القرآن الكريم والسنة النبوية، بل أيضًا تُستخدم كمسارات تأهيل بشري، تشمل تعبئة فكرية ومهنية ورياضية في إطار عام ينسجم مع الهوية الإسلامية للمجتمع.
ومن أهم المخيمات القرآنية التي نُظِّمت في قطاع غزة: مخيمات «تاج الوقار» التي استضافت خلال العطلة الصيفية المنصرمة أكثر من 34 ألف طالب وطالبة، وتنقسم هذه المخيمات إلى عدة أقسام؛ منها قسم تعليم القاعدة الذهبية، والتي تستهدف الطلبة الذين تتراوح أعمارهم بين 4 إلى 10 سنوات، بينما تستهدف برامج التحفيظ فئات عمرية تصل إلى 70 عامًا.
وأطلقت دار القرآن الكريم عدة مشاريع متخصصة لتحفيظ القرآن الكريم، مثل مشروع تحفيظ القرآن الكريم للمكفوفين بالتعاون مع وزارة التعليم العالي، وكذلك تحفيظ القرآن بلغة الإشارة ومشروع «السَّفَرة البَرَرة» الخاصّ بالطالبات المتفوقات.
وبقدر ما تتنوَّع مخيمات تحفيظ القرآن الكريم؛ إلا أنها تتم ضِمْن إطار عام هدفه الحفاظ على الهوية الإسلامية في المجتمع، وبرعاية وإشراف حكومي متكامل، ووفقًا لإفادة دار القرآن الكريم والسنة؛ يتم تخريج ما يزيد عن ألف حافظ وحافظة لكتاب الله -عز وجل- سنويًّا، ينتقلون إلى منتدى الحُفّاظ لتثبيت حِفْظهم. وتشير إلى أنه يوجد بغزة حاليًّا أكثر من 50 ألف حافظ وحافظة لكتاب الله -عز وجل-.
لقد أسهمت مخيمات تحفيظ القرآن الكريم خاصةً، والتعليم الشرعي عامة، بصورة كبيرة في توظيف السلوك الاجتماعي والفكري والمقاوِم لسكان قطاع غزة وتوحيده، وبينما لا تزال المؤسسة الدينية اليهودية تتصارع مع الحكومة الصهيونية لمنع تجنيد الحريديم المتدينين في الجيش؛ باعتبارهم صفوة المجتمع الصهيوني.
وقد سمحت المسارات المتنوعة للتعليم الشرعي في غزة بإيجاد مساحة كبيرة لتوظيف الوعي العام بالمقاومة والعمل التطوعي وإثرائه؛ من خلال انتشار منظمات الإغاثة الإنسانية التي غطَّت جزءًا كبيرًا من احتياجات النازحين الطارئة في الحرب، وكذلك سمحت بتعويض الخسائر البشرية لدى المقاومة في الحروب السابقة، ومكَّنت من نشأة جيل يؤمن بأن استرداد فلسطين التاريخية ليس له عنوان سوى المقاومة التي تستند إلى هويتها الشرعية والإسلامية.
لذلك يمكن القول: إن ما عزَّز صمود السكان وهيَّأهم بصورة كبيرة لتحمُّل خسارة الحرب، وتعزيز التكافل بينهم ليس له سوى مبرر واحد؛ هو: وحدة الهدف وعمومية البلاء الذي لم يَخُصّ أحدًا، والأهم من ذلك كله ثمرة الإنجاز الذي يحلم بها كل فلسطيني، وهي تحرير الأرض، وتصدُّر الأمة الإسلامية الواحدة في مقاتلة أشرس وأشر أعدائها.
Source link