منذ حوالي ساعة
إن هذه النصرة من هذا البلد الإفريقي في إحقاق الحق ورد العدوان، لَتذكِّرُنا بعدالة النجاشي تجاه محاولة كفار قريش استرجاعَ المسلمين الذين هاجروا إليه…
اتجهت أنظار العالم بالأمس إلى (محكمة العدل الدولية)؛ للنظر في الدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد الكيان الصهيوني، لإدانة حرب الإبادة على غزة، في بادرة تاريخية لنصرة فلسطين وشعب غزة، وصدق ربنا جل وعلا: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} [هود: 116].
إن رفع هذه الدعوى – عباد الله – لَهُوَ من أشد أوجه النصرة فاعلية وتأثيرًا لغزةَ طوال الأشهر الثلاثة، وهي بذاتها – وقبل صدور الحكم بالإجراءات المؤقتة المطالب بها – إنجاز مشهود، جعل الكيان الصهيوني يتعرى أمام العالم في إجرامه وطغيانه، هو ومن يدعمه، وجعلته في زاوية محشورة وقلق وترقب، بعد شهور من الصلف والاستكبار وصم الآذان عن النداءات المكررة بوقف العدوان.
إن هذه النصرة من هذا البلد الإفريقي في إحقاق الحق ورد العدوان، لَتذكِّرُنا بعدالة النجاشي تجاه محاولة كفار قريش استرجاعَ المسلمين الذين هاجروا إليه؛ رغبة في العيش بأمان تحت حكمه العادل، فمع بزوغ نور الإسلام في مكةَ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو سرًّا وعلانيةً؛ تنفيذًا لأمر الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 1، 2]، قام صناديد قريش بمواجهة النبي صلى الله عليه وسلم بالتهديد والوعيد، والمسلمين بالتعذيب والتنكيل، عندها أذِن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة للحبشة، وقال: «إن بأرض الحبشة مَلِكًا لا يُظلَم عنده أحدٌ، فالحَقُوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فَرَجًا ومخرجًا مما أنتم فيه»، وقد هاجر أول فوج من الصحابة إلى الحبشة في السنة الخامسة للبعثة، وكان هذا الفوج مكوَّنًا من اثني عشر رجلًا وأربع نسوة، كان في مقدمتهم عثمان بن عفان رضي الله عنه، ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتكررت الهجرة للحبشة مرة ثانية بعد سنين، بعد أن ضاعفت قريش أذاها على المسلمين في دينهم وأنفسهم؛ فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم مجددًا بالخروج إلى الحبشة، فخرج نحو بضع وثمانين رجلًا وثماني عشرة امرأة، فوجدوا الأمن والأمان، ولقُوا الحفاوة والإكرام من النجاشي الذي كان لا يظلم عنده أحد، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
ولما أحسَّت قريش أنَّ وضع المسلمين يصير إلى الطمأنينة والاستقرار في الحبشة، اتفقوا على إرسال عبدالله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص إلى النجاشي؛ كي يطردهم، ويعيدهم إلى مكة، وجمعوا الكثير من الهدايا؛ رِشوةً له ولحاشيته، وهكذا هم أهل الظلم والباطل، يتوسلون لغايتهم بالإغراءات والوسائل الدنيئة، كما يفعل الصهاينة ومن يدعمهم بالضغوط والإغراءات خلال هذه الحرب؛ لتعطيل أية جهود لإدانة الصهاينة وإيقاف الحرب.
ذهب الوفد للنجاشي، وقدموا له الهدايا الخاصة به، وقالوا له: إنه قد لجأ إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشرافُ قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشيرتهم، لتردَّهم إليهم، فهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.
وهنا تكلمت حاشية النجاشي، وأيَّدت ذلك الطلب لرسولي قريش، وهذا دأب الصهاينة وداعميهم اختلاق الأباطيل والأكاذيب لتبرير عدوانهم الغاشم وحربهم المجرمة.
فما كان من النجاشي إلا أن رفض ما طلبوه، وأخبرهم أنه لن يسلمهم إليهم حتى يأتي بهم، ويسألهم عما قالاه فيهم، عندها دعا النجاشي المسلمين واستمع لمرافعة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه الذي ألقى خطابه التاريخي قائلًا: “أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، دعانا إلى الله لنوحِّده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمْرَنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، فصدَّقناه، وآمنَّا به، واتَّبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئًا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومُنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا، وشقُّوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجَونا ألَّا نُظلَمَ عندك أيها الملك”.
هكذا ختم جعفر خطابه البليغ، الذي أوجز فيه غاية الرسالة وصدق النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه هي أسباب قوة وحجة هذا الدين العظيم، عظمة الرسالة وصدق الداعي؛ قال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8].
معاشر المؤمنين، وبعد انتهاء الخطاب سأل النجاشيُّ جعفرَ رضي الله عنه قائلًا: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قال جعفر: نعم، قال النجاشي: اقرأه عليَّ، فاختار جعفر صدر سورة مريم، عندها بكى النجاشي وبكت أساقفته، وقال: “إن هذا والذي جاء به موسى – وفي رواية: عيسى – لَيخرج من مشكاة واحدة”.
وقام على الفور بإعلان ثلاث قرارات غاية في الأهمية؛ الأول منها: استضافة المسلمين بالحبشة في أعلى صورة من صور التكريم والحماية، أما القرار الثاني، فكان قطع العلاقات مع مكة؛ فالبلاد التي تؤذي المسلمين وتظلمهم يجب ألَّا يُعقَد معها علاقات وتطبيع، كما حدث وللأسف من بعض البلاد العربية مع الصهاينة، والتفت النجاشي إلى وفد قريش وقال لهم: “انطلقا، فوالله لا أسلمهم إليكم أبدًا”، وأرْجَعَ إليهم هداياهم وهم صاغرون، فكانت هذه الجولة بكاملها في صف المؤمنين، وهُزِمَ وفدُ قريش هزيمة منكرة.
ثم كان القرار الثالث؛ حيث قرر النجاشي أن يُعلِنَ رأيه في الإسلام وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم صراحة أمام الناس جميعًا؛ فقال: “أشهد إنه رسول الله، فإنه الذي نجده في الإنجيل، وإنه الذي بشَّر به عيسى ابن مريم، انزلوا حيث شئتُم، والله لولا ما أنا فيه من الملك، لأتيتُه حتى أكون أنا أحمل نعليه، وأوضِّئه”.
معاشر المؤمنين:
هكذا ينصر الله تعالى عباده متى ما نصروا دينه، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه، والتزموا بدينهم، وثبتوا على عقيدتهم، وتمسكوا بحقوقهم، فلم يبدلوا ولم يتخاذلوا، ولم ينخدعوا بالمرجفين والمنافقين؛ تصديقًا لقوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146].
_______________________________________________________
الكاتب: يحيى سليمان العقيلي
Source link