أرجوا من قراء هذه المقالات أن يغضوا عني ويتسامحوا في عنوانها (طواغيت العِلم)، فما وَضَعْتُ هذا العنوان إلا بحقه.
«طواغيت العلم» -الحلقة الثانية-
“التنمر على الطلاب والصعود على أكتافهم” (2)
للمختص بالتعليم شخصية أخلاقية وعلمية، يجب عليه التحلي بها، وهي ليست نفلاً، له التحلي بها إن أراد، وتركها إن أراد، ومن ذلك الدين، والورَعُ، والتقوى، والمروءة، والتفاني، والحرص على الإفادة، والبعد عن الظلم والبَطْشِ، وأن يكون قدوةً حسنةً لمن يُعلمهم.
ولكن مع الأسف؛ يجد من ينظر إلى ساحة التعليم، قصورًا في الجانب العلمي والمعرفي للمعلم، وعدم تطويره لنفسه، وتفشّي أخلاقيات سلبية لدى بعضهم. ومن الصور السلبية، تنمر بعض الأساتذة على طلابهم، وتعاليهم عليهم، ورفض خططهم العلمية دون قراءتها، بينما تُقبل بمرونة في مواقع أُخرى (دون شفاعة)، والصعود على أكتافِ طلابهم، عبر تكليفهم بإعداد بحوث ترقيتهم، وبحوث المؤتمرات والندوات التي يُشاركون فيها بمقابل مادي! وأشدهم ـ ظلما ـ من يُلزمهم بذلك، دون رضى منهم، بل تهديدا وقَهْرًا، واستغلالاً سيئًا لسلطته عليهم، والقصص في هذا الباب كثيرة، وأعرفُ منها عدة وقائع، سمعتها من أصحابها مباشرةً، وأكتفي بقصة واحدة منها:
كان أحد الطلاب في مرحلة «الدراسات العليا»، وهو ممن ساهم في التأليف، وله عدة مؤلّفات مشهورة ومتداولة، وهي محل رضى من الباحثين، فاختاره أُستاذه ليكتب له بحثا في أحد المواضيع العِلمية، ورفض الطالب فعل ذلك، لأسباب؛ منها:
1- أنّ هذا الموضوع لا يدخل ضمن مقررات الدراسة.
2- شعوره بأن الأستاذ يحتاج هذا الموضوع لأمر ما.
3- كٌره الطالب ـ نفسه – للكتابة العلمية للغير، ولو بمقابل، وليس هذا من عادته.
4- كُره هذا الطالب لـ «مَن يتشبع بما لم يُعطَ».
5- رغبة الطالب في بحث هذا الموضوع بنفسه، في فُسحة من وقته.
لم يُعجب الأستاذ رفض الطالب، فمارس عليه ضغطا لكتابة الموضوع وبحثه، وللهروب من هذا الإكراه الدنيء بحيلة؛ طلب الطالب من أستاذه تغيير الموضوع إلى موضوع يدخل ضمن مفردات المقرر الدراسي، حسب العرف الجامعي، وأسوة بزملائه الطلاب. ولكن الأستاذ رفض وأصر على كتابة البحث المحدد، بل وعلق عليه درجة البحث الموضوعة من قبل الجامعة.
ومع ذلك أصر الطالب على الرفض، وصار يتهرب من الأستاذ، وقدم له بحثًا آخرًا تعِبَ عليه جدا، وموضوعه يدخل ضمن مفردات المنهج، فأخذه الأُستاذ وأعجبه وأثنى عليه، ثم قال له: (هذا البحث جيد، ولكنه لن يعفيك من البحث الذي كلفتك به).
ولازال الطالبُ يُسوِّف ويتهرّب حتى اقترب موعد الامتحانات الفصلية النهائية، ولكونه منضبطا ولا يغيب، قرر الغياب عما بقي من محاضرات هذا الأستاذ وهي أربع محاضرات، للهروب منه، ولكونها لا تبلغ به درجة الحرمان من المادة، مكتفيا بما أداه من اختبار الأعمال الفصلية، والبحث الذي قدمه ـ سابقا – لأستاذه، وهو داخل ضمن مفردات المنهج، فيكون الطالب قد أنهى المطلوب منه نظاميا.
ومع كل هذا؛ لم يرضَ هذا الأستاذ الظالم الجائر، فأضحى يُلاحق هذا الطالب، عبر الاتصالات وعبر الرسائل، بل بلغ من ظلمه، أنَّ قام بإبلاغ رائد القاعة أنْ يُبلغ الطالب بأنه إن لم يحضر له البحث، فسيقوم بحرمانه من المادة ومن دخول الاختبار، وبالتالي رسوب الطالب، مع أن غياب الطالب لديه لم يكن قد بلغ حد الحرمان.
فبلغ ذلك للطالب، فعاش قهرا وغبنًا، لم يعشه في حياته العلمية كلها حتى وصــــولـه لمرحلة الدكتوراه؛ فاضطر ــ حينها ــ للمواجهة، فواجه أستاذه، وطال بينهما النقاش.. لكن دون جدوى.
غلب الطالب، فاضطر ـــ مكرها لإعداد البحث المطلوب منه، فأعده ولكن ليس بالصورة العلمية المطلوبة، وسلَّمه لأستاذه فلم يعجبه، وقال له بصفاقة وجه:
لن أقبله منك، فليس كبحثكِ الذي استلمته منك، وأريده بحثًا عِلميًا مكتملاً كسابقه). حينها كاد الطالب أن يبكي من شدة القهر والغبن، ولما رآه من خسة ونذالة لدى هذا الأستاذ، فطلب منه قبول البحث بصيغته الحالية، وإعفاءه من البحث، أو على الأقل تأجيله لما بعد الاختبارات النهائية.
وكان مما فعله الطالب ـ وهو يشعر بالظلم والقهر ـ أن مد يمينه إلى «ذقن» أستاذه وقبض عليه ثم نزعه فقبله، على طريقة الذليل المستجدي، قائلاً:
(سألتك بوجه الله أرجه إلى ما بعد الاختبارات، وأعدك بإنجازه على نحو يرضيك، ونحن ـ الآن ـ في وقت الاختبارات النهائية، ومذاكرة دروسي أهم من البحث)! لكن الأستاذ رفض! وقال له بلُؤم:
(والله إنَّ درجتك النهائية ـــ لدي ــــ مُعلقة، ولن أرصدها لك في النظام، حتى تُسلم لي البحث مكتملا العناصر، وبصورة علمية).
حينها تقبل الطالب الهزيمة، ورضي بالأمر الواقع، ووالله إنَّه كان يُعد البحث المطلوب في أيام الاختبارات النهائية، والتي لا تكون إلا لمذاكرة المنهج وحفظه وفهمه، فأنهى البحث بطريقة علمية ومنهجية، مكتمل العناصر، وجمع فيه من الأدلة والنصوص والأقوال، والمواد القانونية ـ المتعلقة بالموضوع ـ من عدة دول، ليكون البحثُ دراسة علمية مقارنةً، على أمل أن يفرغ له الطالب بعد الامتحانات، ويُراجعه، ويقوم بطبعه ونشره باسمه.
ثم أرسله للأستاذ مُصوَّرًا بصيغة Pdf، ولكن الأستاذ رفض، وطلبه بصيغته الأصلية (Word)، ليتمكن من التعديل عليه، وإضافة اسمه على غلافه ومقدمته.
ففعل الطالب مكرها، وبعد مُدَّة علم أنَّ الأستاذ قام بالمشاركة بهذا البحث في إحدى “المجامع العلمية”، ناسبًا الفضل إليه على أنَّه من كده وجده، بعد أن أضاف إليه شيا يسيرًا في أوَّلِه، وكلمتين في آخره، لعلها بقصد إبراء الذمة، وأنَّ له دورًا فيه!
ثم قامت الجهة المسؤولة بطباعته ونشره على عبر موقعها الإلكتروني، ثم تداوله القُضاة والقانونيون والباحثون على أنَّه من وضع الأستاذ، دون أن يكون للطالب أي ذكرٍ أو إشارة، ولو من بعيد، ولك أن تتخيل وقتها شعور هذا الطالب المظلوم، وهو يرى الناس تشير إلى هذا الأستاذ بالفضل والجدة والابتكار دونه.
لم يرضَ الطالب بهذا الصنيع من أوله، فكيف يقبله في آخره، وتعجب كيف يتشبع هذا الأستاذ بما لم يُعطَ، متجاهلاً قول رسول الله: «المُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ». فقرر اللجوء للقضاء !!
ذهب الطالب إلى الجهة المختصة، وقدم دعوى على الأستاذ، وحين اطلاع الأستاذ على الدعوى أنكر مضمونها جُملةً وتفصيلاً، وكذب الطالب، وأنَّ دعواه كيديه، وطلب من الطالب – لو كان صادقًا – إحضار «البيئة»، فأحضرها الطالب، وبين أسبقيته بالتأليف، وملكيته للبحث، والتطابق شبه التام بين البحثين، حتّى في الحواشي، والإحالات، والتشكيل، وعلامات الترقيم، وقائمة المصادر والمراجع هي هي سطرا بسطر وكلمةً بكلمةٍ وحرفًا بحرف، بل حتى الأخطاء الإملائية والمطبعية، والأخطاء في الإحالات هي هي في البحثين، حيث أن الأستاذ لم يكلف نفسه عناء القراءة والمراجعة، بل لم يزد على أن حذف اسم الطالب ووضع اسمه بدلاً عنه، مع إضافات يسيرة جدًا.
حينها تغير موقف الأستاذ أمام الجهة المختصة، فتحوّل من الإنكار الكُلِّي إلى القبولِ الجزئي والإنكار الجزئي، ولكن بأسلوب ماكر، فدفع بأنه احتاج إلى كتابة هذا البحث لأنَّ جهةً علمية طلبته منه، وطلب من مجموعة من الطلاب إعداده، وأنَّ الطالب المدعي كان أحدهم، فهو ليس الذي أعد البحث بمفرده، بل مع مجموعة من الطلاب، وأنَّ ما أخذه من بحث الطالب المدعي لا يتجاوز (۳۰٪) فقط !
وهذا إقرار منه بـ «السرقة العلمية»، التي أنكرها ـ سابقا ـ جملة وتفصيلاً. فرد الطالب عليه بأنَّ هذا الكلام غير صحيح، ولو كان صحيحا فأين بصمة الطلاب الآخرين على البحث المذكور، فهو لم ير فيه إلا بحثه، وكلامه، واستدلاله، وتحليله، ونقده، وخاتمته، ومراجعه وإحالاته، وأخطاءه سوى إضافات يسيرة جدا.
فدفع الأستاذ بدفع ثاني مختلف عن سابقه، متناسياً ما قاله أولاً، وثانيًا، فقال في المرة الثالثة:
إنَّ هذا الطالب ذو مستوى ضعيف وكثير الغياب، بدليل أنه تم طي قيده لضعف مستواه العلمي، وقد كلفته بهذا البحث، على طريقتي التي أفعلها مع الطالب الضعيف أنّي أكلفه بإعداد بحث لأرفع به معدله ومستواه!
ولك أن تعجب من هذه الجرأة في الكذب والمراوغة، فمرَّة ينكر الدعوى جملةً وتفصيلاً، ومرة يعترف بسرقة بعض البحث، ويقول إنَّه كُلّف بالبحث من جهة علمية، فكلّف مجموعة من الطلاب، والمدعي أحدهم، والآن يقول إنَّ الطالب ذو مستوى ضعيف فكلَّفه ببحث ليرفع به مستواه…
لقد تاه عقله في جلسات المرافعة، وقالَ كُل شيء، إلا اعترافه ! والأعجب من هذا كُلَّه أنَّ الأستاذ قد استند في كلامه الأخير، على مستندات تخصُّ الطالب، حصل عليها بطريقة غير شرعية في مخالفة صريحة للأنظمة، وهي تحتوي على معلوماتٍ مُزَّورة، تُظهر طي قيد الطالب لضعف مستواه، بينما الطالب قد تخرج بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف، حسب الوثائق الرسمية الصحيحة، وفي السنة نفسها التي زُعم أنه تم طي قيده فيها لضعف مستواه العلمي، مع أنَّ الطالب معروفة بتميزه وحصوله على تقدير «ممتاز» لدى غالب الأساتذة، ويعرفه ويثني عليه كلُّ من درسه أو درس معه، وكذلك في مرحلة «الدكتوراه حصل على درجة الامتياز في جميع المواد، وكيف يتخرَّج الطالب من الماجستير» بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف، وفي السنة نفسها يُطوى قيده لضعف مستواه العلمي ؟! ثم صدر أخيرا حكم الجهة المختصة بالنظر في مثل هذه المخالفات، وكان حكمها:
1- ثبوت نسبة الكتاب إلى الطالب.
2- إدانة الأستاذ بـ «السرقة العلمية».
3- إلزام الأستاذ بدفع تعويض مالي للطالب.
4- إيقاع عقوبة مالية على الأستاذ.
أكتب ـــ الآن ـــ هذه القصة وأنا متيقن من فصولها، أكتبها وأنا أتعجب كيف أنَّ أستاذًا جامعيًا بدرجة (أ. د) ، يصعد على أكتاف الطلاب، ليتميّز بكدهم وجهدهم قهرا عنهم، ويتلبس في مقابل ذلك كُلَّ هذا الظُّلم، والغش، والكذب، والتزوير، والاحتيال.
هذه قصةٌ واحدةٌ من قصص عِدة، أعرِفُها وربي – بيقين، فما هذا البطش والجبروت والاعتداء السافر، من قبل أستاذ عين براتب مُرتفع ليدرس الطلاب الأدب والخلق والقدوة، والعلم وأصوله ومسالكه.
وحتى لا تكون هذه القصة شاذة في بابها، فريدة في موضوعها، أُثني بأخرى باختصار؛ حيث درسنا في مرحلة “البكالوريوس” أستاذ بدرجة (أ. د) ، وكان الزمانُ ـ حينها – مشتعلاً بمسألة «الاستنساخ»، وأراد أن يكتب فيها بحثًا ويُقدمه لإحدى «المجامع العلمية».
فاختار من قاعتنا أربعة طلاب متميزين كان قد سأل عنهم مُسبقًا، وطلب منهم قَهْرًا كتاب البحث، وسلمهم خطة البحث، وحدد لهم المراجع، وسلمهم بعض ما كُتب في الموضوع نفسه، وتوعدهم ـ علننا – أمامنا، فيما لو أخلوا بالبحث، أو اعتمدوا مراجع غير أصيلة، أو نقلوا دون توثيق….
ففعلوا فنشر البحث باسمه، وكان هذا الأستاذ ـ على جرمه ـ ألطف من صاحب القصة الأولى، لأنه ساعد الطلاب بتقديم خطة البحث، والتي تعد خارطة الطريق للبحث، وحدد لهم المراجع، وأمدهم ببعضها، وشَرحَ لهم طريقة إعداد البحث، بينما الجاني الأول، لم يقم بكل هذا، ومع هذا فقد كان أكثر تجبُّرًا وظُلما وتدليسًا من الثاني.
وبعد كُلِّ هذا؛ فأرجوا من قراء هذه المقالات أن يغضوا عني ويتسامحوا في عنوانها (طواغيت العِلم)، فما وَضَعْتُ هذا العنوان إلا بحقه.
Source link