يُرجِع بعض المستشرقين ذوي النزعة العدائية للإسلام وأهله أسبابَ التخلف الحضاري والتكنولوجي عند المسلمين إلى دستور المسلمين التليد المتمثل في القرآن الكريم والسُّنة النبوية المطهرة.
وهذه المقالة تعالج في حَيْدة وموضوعية أبعاد هذه القضية؛ بغيةَ أن يتعرّف المسلم قبل غيره من الأجناس البشرية على عوامل التقدم الحضاري في دينه الخالد وحثّه على تربية أتباعه وتنشئتهم على هذه الأسس، ومما تجدر الإشارة إليه قبيل البدء في مناقشة هذه القضية: تحديد المعاني والدلالات التي يحملها عنوان هذه الدراسة؛ حتى تكتمل الفائدة وتتضح الرؤية أمام القارئ الكريم؛ ليتسنَّى له متابعة المنهج العلمي الذي نستأنس به في هذا البحث.
تعريف التربية الإسلامية
تعددت تعريفات التربية الإسلامية لدى كثير من المفكرين والفلاسفة؛ بعضها يقف عند التربية الدينية والبدنية والعقلية والأخلاقية لكل مِن الفرد والمجتمع.
والذي نجنح إليه أن التربية في مفهوم الإسلام «هي إنشاء الإنسان إنشاءً مستمرًّا من الولادة حتى الوفاة على هذا الامتداد الأفقي، أما الامتداد الرأسي فهي تربية كاملة متوازنة، وهي جامعة من حيث إنها تغرس القِيَم الخلقية والاجتماعية التي تحمي الإنسان من أخطار الاضطراب والتمزق، وتُربِّي في الإنسان الإرادة الحقَّة، حبًّا للناس وإيثارًا وبُعدًا عن الأنانية، وتجنبًا للرذائل»[1].
وفي ضوء ما تقدم، يتبين لنا أن التربية الإسلامية ليست «مجرد عِلم خاصّ؛ لأن العلم يقتصر على تقرير مجموعة من القوانين والقواعد العلمية بميدان معين من ميادين العلم، وإنما أصدق مفهوم للتربية في نظر الإسلام، هو أن التربية: عملية تنفيذ لفلسفة التربية الإسلامية ليمثل الفرد المسلم شخصيته الإسلامية في ذاته، وفي سلوكه، في مظهره ومخبره في كل الظروف[2].
وبذلك تَصبغ التربية الإسلامية الإنسان المسلم بصبغتها الخاصة والمتميزة عن باقي الأنماط الأخرى من أنماط التربية التي يربّي الغرب أبناءه عليها، وترجع شمولية التربية الإسلامية إلى شمولية المنهج الذي خرجت منه روافدها، وحرصه المستنير على صياغة الشخصية الإسلامية التي تتحكم في ديناميكية المجتمع الذي يُشكّل ويتكوّن من مفرداتها وأُسسها.
من هنا كان للإسلام خطة واضحة في تربية هذا الفرد جسمًا وعقلًا وروحًا؛ تربيةً متكاملة تنتج الشخصية الإسلامية الواضحة المعالم، المعبّرة عن مبادئ الإسلام وآدابه ومُثُله؛ لأن تلقين الحقائق دون طبع الإنسان بطابعها وتعويده على سلوك مسالكها، لا يُكوّن الفرد الذي يرضى عنه الإسلام[3].
ومِن ثَم نتحقق أن التربية التي نتطلع إليها هي التربية الإسلامية التي تجمع بين التلقين والتطبيع.
تحديد مصطلح الحضارة
أثبتت الدراسات الجادة[4] أن مصطلح الحضارة من المصطلحات التي امتدت إليها أصابع المستشرقين، وحادت بمفهومها الذي ذهب إليه المفكرون المسلمون -أمثال أبي حامد الغزالي وابن تيمية- إلى مفهوم آخر يخدم النزعة المادية التي تأخذ بها الحضارة الغربية، كما يخدم الحركات الهدّامة التي يحاولون من خلالها هدم الإسلام.
أما المقصود بالحضارة في الإسلام فتعني «تقدُّم المجتمع من الناحيتين المادية والمعنوية في جميع جوانب الإنسانية بروح خيرة ونحو غاية خيرة»[5].
ولعل ربطنا لكلا التقدمين المادي والمعنوي، بالروح الخيّرة والغاية الخيّرة من الضرورات التي يراعى الأخذ بها أثناء حديثنا عن معنى «الحضارة» في الإسلام؛ وذلك لتميّزها عن الروح والغاية التي جاءت عليها الحضارة الغربية؛ فقد ضجت روح الإنسان الغربي من تلك النزعة البهيمية التي صاحبت حضارته كما تكشفت له غاية هذه الحضارة عندما تسبَّبت في صهر وإذابة ما يقرب من مليوني فرد ياباني من جراء إلقاء قنبلتين ذريتين على هيروشيما ونجازاكي منذ عقود طويلة مضت.
لكنَّ الحضارة الإسلامية، التي ظلت ردحًا من الزمان، سخّرت تلك الاكتشافات العلمية التي توصَّلت إليها، إلى خيري الفرد والمجتمع، وأغلقت على الفرد المسلم كل منافذ السوء التي يمكن أن تميل إليها نفسه، وتفتك بأكثر مما تفتك به القنبلة الذرية أو الهيدروجينية.
أُسُس التقدم الحضاري في التربية الإسلامية
يجدر بنا بعد أن حددنا مفهوم كل من «التربية الإسلامية»، ومصطلح «الحضارة» أن نقف عند الأسس أو المقومات التي تحلَّت بها التربية الإسلامية، وكانت من وراء قيام الصرح الحضاري الذي دام قرابة ألف عام على مر التاريخ «لقد أنشأ المسلمون الحضارة الإسلامية الرائعة التي نعمت بها البشرية قرونًا طويلة، ولعل من الإنصاف أن نقول: إن البشرية لا تزال تنعم بعلومها واكتشافاتها وبحوثها، كما يعترف الغرب نفسه بذلك، وقد فعل المسلمون ذلك عبادةً لله وقيامًا بوظيفتهم في هذه الحياة، وجعلوا بذلك أُمتهم في مكان الريادة للأمم كلها. وكانت حضارتها خير حضارة عرفها التاريخ بالنسبة للإنسانية كلها؛ وذلك لأنها حقَّقت كل الجوانب للفرد والمجتمع[6].
الأسس الحضارية للتربية الإسلامية
أولًا: التربية الإسلامية للفرد
اهتم الإسلام بتربية الفرد قبل المجتمع؛ لإدراكه مدى الفاعلية المؤثرة التي يسهم بها الفرد في تقدُّم مجتمعه.
ولكي يقوم الفرد بإسهاماته الإيجابية والحضارية تجاه مجتمعه، لا بد له من وقفة مع نفسه ليُصلح ما بها من عيوب، ويكتمل ما بها من نقص، ويكشف من أمامها الحجب التي طمست بصيرتها نتيجة العادات السيئة التي سكنت إليها.
ومن ثم بدأت التربية الإسلامية «ببناء النفس من الداخل؛ لأنه أساس العمل الناجح الذي ينبع من النفس البشرية، فإذا أتمَّت ذلك البناء بدأت في تغيير المجتمع الذي تعيش فيه على أسس الأخلاق الإسلامية»[7]، ويمكن إيجاز الأسس الحضارية التي غرستها التربية الإسلامية عند الفرد المسلم في الآتي:
1- تكوين روح الخير فيه؛ بحيث يلتزم السلوك الخيّر، ويسعى لتحقيق الخير للناس ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، كما يلتزم بتجنُّب سلوك الشر، ويعمل ليَحُول دون وقوعه من أحد على أحد.
2- تكوين روح الأخوة الإنسانية، فيغرس الإسلام في الفرد منذ صغره روح الحب والأخوة، وأن إنسانيته تقتضي أن ينظر إلى الناس كما ينظر لنفسه، ويحب للناس ما يحبه لنفسه.
3- تكوين الوعي بوحدة الحياة الاجتماعية؛ وذلك لأن الأخلاق الإسلامية تربط جميع مناحي الحياة بالوحدة والتآخي.
4- تكوين روح الاحترام والتقدير للنظام الأخلاقي؛ لأن تكوين هذا العنصر لدى أفراد المجتمع، يؤدي إلى تماسكه وترابطه ووحدته.
ثانيًا: التربية الإسلامية للمجتمع
حرص الإسلام على الجماعة وعرف فضلها، لكي يحثّ المسلمين على الاعتصام بحبل الله المتين، وعدم التفرقة، كما أخبر الله رسوله «أن يد الله مع الجماعة»، وأن المسلمين «كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»، وهذا الحثّ مِن قِبَل الإسلام على التآخي والوحدة بين أفراد المجتمع الإسلامي لا ينهض إلا من خلال إعمال أُسُس التربية الإسلامية في ذات الأفراد الذين يكوّنون المجتمع.
وقد توجهت التربية الإسلامية نحو الفرد قبل توجهها نحو المجتمع؛ لإدراكها أن المجتمع ما هو إلا مجموعة أفراد.
فإذا استطاعت التربية الإسلامية أن تصبغ كل فرد بصبغتها الحضارية نتج عن ذلك مجتمع آخِذ بآداب تلك التربية الإسلامية الحضارية، فإذا تحلَّى المجتمع بآداب التربية الإسلامية، وأخذ بمبادئها أعطى لنفسه الحق في المشاركة في الركب الحضاري والتقدم العلمي، ومن هذه الأسس التي تُغذّي بها التربية الإسلامية المجتمع الإسلامي لينهض من غفلته، الآتي:
1- أن تسود هذا المجتمع روح الخير؛ بحيث يسعى لخير المجتمع، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأن تسود هذا المجتمع روح الأخوة الإنسانية، لا فرق ولا تفريق في المعاملة أو الحكم أو القضاء بين غنيّ وفقير، أو بين أبيض وأسود أو بين حاكم ومحكوم.
2- أن تسود هذا المجتمع الوحدة والقوة التي تُستمد من الإيمان بالإله الواحد.
3- أن يسود هذا المجتمع الوعي الكامل بوحدته؛ من حيث ترابط المصالح المادية والمعنوية والاجتماعية والإنسانية، حتى ينظر كل فرد على أنه عضو متصل بجسد المجتمع.
ثالثًا: إتقان العمل في المجالات الصناعية والزراعية
يعتبر التقدم التكنولوجي في المجالات الصناعية والزراعية من أهم الركائز التي تبني عليها الحضارة صرحها الراقي، كما أنها تعد من أوثق الدلائل على وجود تقدم علمي ملموس يستعين به الفرد والمجتمع في إكساب الحياة طابع السعادة والرفاهية من خلال تلبية ما يعنّ للنفس في سهولة ويسر؛ فإذا كان هناك تقدُّم في المجال الزراعي، أدَّى ذلك «إلى طمأنينة الناس من حيث شعورهم بضمان الأرزاق من المأكل والمشرب؛ إذ إن ذلك من الحاجات الأساسية التي تشغل الإنسان باستمرار[8].
فإذا اطمئن الإنسان إلى وفرة طعامه وشرابه، انتعشت سريرته ورغدت معيشته، وبات يتقلب في النعيم حيث شاء.
ويتمثل دور التربية الإسلامية في المجال الزراعي في اهتمامها ببنية الفرد من الداخل وتزكية نفسه حتى لا يأكل ولا يشرب إلا من طيب الطعام والشراب، وكذلك تتمثل التربية الإسلامية في المجال الزراعي في القيام على الزروع والأنعام، وحِفْظها من المهلكات التي تقضي على بركتها وفوائدها الغذائية، وذلك من خلال ركن الزكاة التي سنَّها الله للفقراء والمساكين والمحتاجين ليتطهر بها الأغنياء وتزكو بها نفوسهم ويزداد بها رصيدهم من الجزاء عند الله وعند الناس، ولعل ضيق المقام لا يسع لبسط القول في الأسس التي تزيد المسلم تحضرًا في المجال الزراعي.
وخلاصة القول: إن التربية الإسلامية في المجال الزراعي تحرص على عافية المسلم وصحته، وذلك من خلال توجيهه إلى المأكل الحلال والمشرب الحلال، واستبقاء هذه النعم عن طريق الزكاة والصدقة.
أما دور التربية الإسلامية في المجال الصناعي؛ فقد بيَّنه المنهج العلمي الذي تأمر به الآية الكريمة، قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، وقوله تعالى: {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14]، فقد دعت هاتان الآيتان وغيرهما من الآيات المماثلة إلى أساس تربوي يأخذ به علماء التربية الحديثة، وهو «الأخذ بعامل الخبرة».
فلا ريب أن هذا العامل يقود صاحبه إلى الإفادة من خبرات غيره والتأسي به في الأخذ بكل ما ينهض بصناعته ويساعد على جودتها وتقدمها حضاريًّا، كذلك حثَّت التربية الإسلامية الفرد على مساعدة مَن لا يعرف أو لا يجيد صناعة الشيء، فقد قال رسول الله # حين سُئِلَ عن أفضل الأعمال؟ فأجاب بعدة خِصال ذكَر منها: (تُعين صانعًا أو تصنع لأخرق)[9].
رابعًا: تربية الروح العلمية لدى الفرد والمجتمع
لعل الحروف الأولى من آيات القرآن الكريم دليل على تأكيد الإسلام على أهمية العلم وطلب التعلم؛ فقول الله تعالى: {{اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ 1 خَلَقَ الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ 2 اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ 3 الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ 4 عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}} [العلق: ١ – ٥]؛ يُعتبر من مقتضيات التربية الإسلامية التي تحرص على توصيل العِلْم للصغير والكبير في المجتمع الإسلامي».
كذلك بيَّنت السُّنة المطهّرة أن رسول الله جعل تعلُّم باب واحد من العلم خيرًا للمسلم عند الله من الدنيا وما فيها، (باب من العلم يتعلمه الرجل خير له من الدنيا وما فيها)[10]، ومن أجل منزلة العالم عند الله وعند الناس، وما يعود المسلم من خير له في دينه ودنياه، جعل رسول الله العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، فقال: (طلب العلم فريضة على كل مسلم)[11].
وقد تواصلت التربية الإسلامية بالعلم منذ الأيام الأولى من حياة المسلم، بل قبل أن يكون نطفة في بطن أُمّه؛ وذلك حين لفتت الشريعة الغراء نظر المسلم إلى اختيار زوجة له من نسل طيب ومنبت حسن، مخافةَ أن يتلوث الأبناء من أخلاق آبائهم وأجدادهم. ثم تابعت التربية الإسلامية إرشاداتها تجاه الفرد المسلم حين يُولَد وأثناء الرضاعة وتظل تُصاحبه حتى يصير شيخًا كبيرًا، فحتَّمت على الوالدين اختيار أفضل الأسماء، ورغَّب القرآن الكريم أن تكون الرضاعة حولين كاملين، ثم تعهَّدت التربية الصبي المسلم حين أوصت الأبناء أن يُعلّموا أولادهم الصلاة من السابعة إلى العاشرة.
وهكذا نلمح حرص التربية الإسلامية على تتبُّع مراحل العمر المختلفة عند المسلم وتوجيهاته الدائمة للآباء والأمهات؛ حتى يقوموا على تربية أبنائهم تربية إسلامية صحيحة، يكفلها العلم الصحيح الذي يُتيح للمسلم مستقبلًا مبشرًا بالخير والسعادة له ولذريته وعشيرته ومجتمعه الذي يعيش فيه.
خامسًا: التربية الأخلاقية والتقدم الحضاري
تتميز الحضارة الإسلامية التي سطعت أشعتها قرابة الألف عام، بالجانب الأخلاقي الذي صاحَب التقدم العلمي والتكنولوجي.
ويحكي التاريخ عن حضارات متعددة كتبت في جبينه سطورًا من نور أضاء جوانب كثيرة من الجوانب المادية، إلا أنه لم يضئ مثلها في الجانب الروحي أو الأخلاقي، عدا الحضارة الإسلامية، ومِن ثَم قال أفلاطون متأثرًا بالحضارة اليونانية: «الفضيلة لا تجتمع مع الثراء»، والثراء أو الحياة الرغدة المملوءة بالنعيم المقيم من أوثق العلامات الدالة -كما يقول بذلك ابن خلدون في مقدمته- على التقدم الحضاري.
ويمكن تحديد دور التربية الأخلاقية في التقدم الحضاري بصورة إجمالية في كونها الوسيلة الوحيدة لبناء خير فرد وخير مجتمع وخير حضارة.
والعلاقة بين هذه الجوانب وثيقة الصلة؛ من حيث إن بناء خير فرد وسيلة لبناء خير مجتمع، وبناء خير مجتمع وسيلة لبناء خير حضارة، والغاية من هذا كله تحقيق سعادة عامة وشاملة في المجتمع؛ لأنه إذا عمَّ الخير الفرد والمجتمع والحضارة، فتكون السعادة نتيجة طبيعية لذلك[12].
[1] النظرية التربوية الإسلامية: آمال حمزة المرزوقي، ص 86، سلسلة رسائل جامعية رقم (7) جدة.
[2] فلسفة التربية الأخلاقية: مقداد يالجن ص36، رسالة دكتوراه – كلية دار العلوم – جامعة القاهرة – 1395هـ – 1975م.
[3] النظرية التربوية، مرجع سابق، ص84.
[4] الحضارة – الثقافة – المدنية «دراسة لسيرة المصطلح ودلالة المفهوم»: نصر محمد عارف، المعهد العالمي للفكر الإسلامي – القاهرة.
[5] فلسفة التربية: مرجع سابق، ص123.
[6] النظرية التربوية: مرجع سابق، ص11.
[7] أضواء على التربية: مرجع سابق، ص19.
[8] المرجع السابق.
[9] رواه البخاري.
[10] رواه الترمذي.
[11] جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر.
[12] أضواء على التربية: مرجع سابق.
Source link