مواقع التواصل الاجتماعي بين الوهم والعزلة

 

 

ملخص

يتحدث هذا الموضوع عن مواقع التواصل الاجتماعي، وأثرها في حياة الناس اليوم، مقارنةً بحياة مجتمعية لم تكن فيها هذه الوسائل ولا التقنيات التكنولوجية موجودة. الآن، انتشر استعمال هذه الوسائل بشكل كبير، فتغيَّر نمط حياتنا، وأخذ التواصل الاجتماعي معنًى وأسلوبًا جديدًا. وسيعرض هذا البحث لبعض أشكاله في المجتمع ونتائجه.

الكلمات المفتاحية: المجتمع، التواصل، الوهم، العزلة.

تمهيد

ظهرت وسائل التواصل الاجتماعي نتيجة الثورة التكنولوجية، وما صاحب ذلك من تسهيل في الحصول على الأدوات الرقمية من هواتف ذكية ولوحات إلكترونية، وكذا مجانية الوصول إلى الشبكة.

وانتشر استخدام Social media  مصطلحًا عالميًّا بين الناس؛ فهو «التسمية الحالية للتقنيات الرقمية التي تسمح للأشخاص بالاتصال والتفاعل وإنتاج ومشاركة المحتوى»[1]؛ فهو منظومة من الشبكات الإلكترونية التي تَعمل على نَسْج علاقات تواصلية بين الناس، على اختلاف أعمارهم وهوياتهم واهتماماتهم وأديانهم وأجناسهم، في أماكن مختلفة عبر وسيلة رقمية. وأشهر هذه الوسائل: اليوتيوب والفيسبوك والتويتر والانستغرام.. وقد أثار ظهورها ضجَّة عالمية.

عَرفت هذه المواقع انتشارًا كبيرًا في العالَم؛ خاصةً أنها لا تخضع لقيود كبيرة، وقد زاد مِن انتشارها بين العوام سهولة استخدام تطبيقاتها والتعامل معها؛ فهي لا تحتاج إلى ذكاء كبير ولا إلى مستوى عالٍ من التعليم.

وقد أصبحت هذه المنصات شيئًا لصيقًا بالفرد، تَصنع تحركاته وقراراته، وقد ساهمت بشكل واضح في صنع هويته وشخصيته الرقمية. فظهرت مسميات ومِهَن تُطلَق على مستخدمي هذه المنصات: يوتيوبر، انستغرامر، فيسبوكر، تيك توكر.. عَملُها التواصل مع الناس عبر الإنترنت، ونَشْر بعض الأمور التافهة التي لا تُضيف للمتلقين في الغالب أي فائدة تُذْكَر. والغريب المبكي، أن بعضهم صُنِّف من الشخصيات المُؤثِّرة على الناس، حتى اختلَّ مفهوم القدوة والنموذج في كل المجتمعات.

بعد هذه المقدمة؛ سنتطرق إلى التفصيل في الموضوع بالإجابة عن الأسئلة التالية:

– كيف كان التواصل الاجتماعي بالأمس، وما هو الجديد الذي أحدثته وسائل التواصل الاجتماعي في حياة الناس اليوم؟

– كيف خدّرت التكنولوجيا عقل الإنسان؟ وكيف أثر ذلك في السلوك البشري؟

– كيف تحوّل الإنسان إلى كائن رقمي؟

1- التواصل الاجتماعي بين الأمس واليوم

قبل سنوات غير بعيدة، كان للتواصل الاجتماعي صُوَر ملموسة ونتائج واضحة؛ حيث كان الرجال يجتمعون في المقاهي حول كؤوس الشاي المنَعنع، للَّعب وتبادل الهموم والاستشارات والأخبار. بينما تجتمع النساء في البيوت، يَحِكْن ثيابًا شتوية أو يُطرّزن جهاز عروس من العرائس، وفي أثناء ذلك يتبادلن الأخبار والخبرات، دون أن يَغْفلن عن الأطفال من حولهن، وهم  يلعبون أو يقرؤون كتبًا وقصصًا مفيدة. 

المهم أنهم يجتمعون على شيء مفيد، يعطي للوقت قيمة وأهمية، فيمرّ سريعًا دون ملل، في جوّ نفسي نقي وهادئ، بعيدًا عن الكذب والنفاق الاجتماعي الذي نَعيش اليوم. ثم يفترقون من أجل لقاء آخر مؤكّد، في بيت من البيوت، أو على طاولة المقهى بعد العمل. هكذا كان تواصلهم حقيقيًّا تشدُّه روابط الجِيرة والصداقة قبل الرحم والدم.

أما اليوم؛ فقد غاب كل هذا، وأصبحت العلاقات الاجتماعية علاقات عنكبوتية عبر شاشات تُقرِّب البعيد وتُبْعِد القريب. شاشات اختُرعت لتَخلق فجوات عميقة بين أفراد الأسرة الواحدة، لا يَرْتُقها ذلك اللقاء العابر على موائد الطعام. قتلت في كل فرد حسّ المسؤولية والاهتمام بعائلته الصغيرة والكبيرة، ومعالجة مشاكله واحتياجاته ومتطلباته… وأكثر من ذلك؛ تجدهم في ذلك اللقاء الصغير يهربون من أنفسهم ليناقشوا مشاكل الآخرين؛ اجتماعية أو سياسية أو أخلاقية.. وأحيانًا مشاكل قوم يوجدون في أبعد بقعة من العالم، ويُهملون مشاكلهم الأسرية الحقيقية. فقُطعت أرحام الأسرة الواحدة من أجل أن يُنْسَج على الشبكة الكثير من الوهم والخيال.

لقد خدعت وسائل التواصل الاجتماعي الناس حين أوهمتهم بالتواصل الكاذب، سواء المكتوب بالمنشورات والتغريدات أو السمعي البصري بالفيديوهات والمحادثات المباشرة. وأضحى استمرار التواصل الإلكتروني رهين تبادل الإعجابات والمشاركات والتعليقات على المنشورات أو التغريدات، وكثيرًا ما يتحول هذا التواصل إلى قطيعة إلكترونية جرّاء عدم التفاعل أو الاختلاف في الآراء. ناهيك عن الأمراض النفسية التي تأتي من خسارة المتابعين والمعجبين، أو التنمر الإلكتروني الذي يمكن أن يتعرض له مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي من بعضهم البعض، أو العُجْب وجنون العظمة الذي يُصيب آخرين.

إن التقدم التكنولوجي الذي أصبح بشكلٍ ما رديفًا للحضارة، أفقد المجتمع هويته الروحية والثقافية؛ ذلك أن الثورة الصناعية أعطت المادة أكبر من حجمها؛ فأصبحت هي المتحكّم الأول في الإنسان. يقول سيد قطب«إن الحضارة لم تُفلح حتى الآن في خلق بيئة مناسبة للنشاط العقلي، وترجع القيمة العقلية والروحية المنحطة لأغلب بني الإنسان -إلى حد كبير- إلى النقائص الموجودة في جوهم السيكولوجي؛ إذ إن تفوق المادة، ومبادئ دين الصناعة حطّمت ثقافة الجمال والأخلاق… وقد تدهورت الطبقات المثقفة لانتشار الصحف انتشارًا واسع المدى، كذا الأدب الرخيص، والراديو ودور السينما»[2].

فإذا كانت هذه نظرة سيد قطب عن المثقفين ووسائل الإعلام في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، فكيف ستكون لو عاصَر جيل وسائل التواصل الاجتماعي، حين أصبح إما دردشة إلكترونية تعزلك عن محيطك الحقيقي وتربطك بتواصل وهمي مع الآخرين، أو نقلًا للحياة الخاصة بأدق تفاصيلها بالصوت والصورة إلى كلّ العالم عن طريق البثّ المباشر في يوتيوب أو الفيسبوك؟!

إن وسائل التواصل الاجتماعي في الحقيقة أبشع سلاح اكتُشِفَ لقتل العلاقات، وأكثر عقار فعّال اختُرِعَ لتخدير الإنسانية وتنويمها، وأرذل وسيلة موجودة على سطح الأرض لتمييع الأخلاق وغسل الأدمغة. هذا، لخَلْق جيل جديد لا يعترف بعلاقات القرابة والرحم والجوار، جيل آلي مُستَعبَد فقَد كل المشاعر الإنسانية النبيلة، وقابِل لأن يُشحَن بكل قيمة وخُلُق دخيل كأي آلة مبرمجة. جيل يبحث عن الكمال في العالم الإلكتروني، وهو يفتقر إلى الصدق، بر الوالدين، صلة الأرحام، الشعور بالآخرين، الامتنان، الاحترام…

باختصار، لقد أخذت وسائل التواصل الاجتماعي الإنسان من عالم واقعي تربطه علاقات حقيقية، يسبح في المشاعر النبيلة والصادقة، لتغرقه في عالم مليء بالوهم والسراب والغباء، ذلك أن «بلادة الذهـــن تُوجَـد غـالـبًا حيثما تتــقــدم المعرفة العلمية»[3].

2- خدعة وسائل التواصل الاجتماعي وإعادة برمجتها لسلوكات الإنسان

قامت وسائل التواصل الاجتماعي بغسل الدماغ البشري، وإعادة برمجة سلوكاته؛ بحيث تجعله لا يغادر هذه المنصات إلا ويعود بشَغف أكبر. خصوصًا وأنها تتحكّم في المحتوى الذي يُنْشَر عَبْرها وتُوجِّهه إلى الفكر الذي تريد، والدليل؛ حظر وتوقيف كل الحسابات التي تخالف المحتوى الذي تدعمه هذه الوسائل أو تعارضه. كل هذا، من أجل سَلْب الهويَّات وإنتاج عقل جمعي بتعبير دوركايم، فهي «مجرد مواقع للقاء الافتراضي وتبادل الآراء؛ منتديات لا أكثر. فيها يتكون عقل جمعي من خلال المنشورات المتابعة»[4]؛ إذ يتقبل العقل كل ما يُقدّم له دون أيّ نقد أو غربلة. فتجد نسخًا بشرية رقمية، بأفكار وسلوكات وصفات وقناعات موحدة، لقد نجحت مواقع التواصل الاجتماعي حقًّا في خلق نُسَخ بشرية غير واعية بحقيقة ما يدور حولها، دون اللجوء إلى مختبرات ولا إلى نقلٍ للخلايا النووية الجسديَّة.

خَلقت هذه الشباك الاجتماعيَّة إنسانًا منهزمًا ضعيفًا، لا يغادر جدران غرفته إلا للضرورة القصوى، والتي أصبحت محصورة في تناول الطعام مع الأهل، ومنهم مَن ألغى هذه الضرورة، وأصبح يتناول طعامه في غرفته وهو يشاهد جهازه، إما يلعب أو يتواصل مع الغرباء، وفي أحسن الأحوال بحجة أن يعمل أو يدرس.. فقطع هذا الخيط الرفيع الذي كان يربطه بالأسرة. 

ظهر من خلال شباك التواصل الاجتماعي جيل مراوغ، يحب التواري عن  الأنظار، وجيل محتال لا يحترم الهويات. فما دامت الرقابة مرفوعة عن هذه المواقع؛ كان من حق كل شخص أن يختار جنسه وهويته الإلكترونية. فتجد ذكورًا بأسماء إناث، وإناثًا بأسماء ذكور، وحسابات بأسماء مستعارة بصور غريبة، لا يمكن أن تثق بها بأيّ وجه كان. وحتى الذين اختاروا لحساباتهم الإلكترونية أسماءهم وصورهم الحقيقية، فإنهم لا يفعلون ذلك إلا بعد أن يُعدِّلوا صُوَرهم ويُخضعوها لتجميلٍ إلكتروني لا يخفى على الناظر.

أنتجت هذه المواقع المزيفة جيلًا مزيفًا متكبرًا لا يقبل واقعه ولا يعترف به، ولا يعيش حياته الطبيعية ولا مستواه الاجتماعي. فتجده ينافس المشاهير في الظهور بأحسن الماركات، وفي أشهر المقاهي والمطاعم ليأخذ صور «سيلفي»، ويشاركها مع الناس، دون أن ينسى ابتسامة عريضة تبدو باردة، لكن، يقتضيها المكان والحال الذي هو عليه. وبعد أن تنتهي اللعبة، يعود منهزمًا يائسًا إلى واقعه الذي لا مفرّ منه.

غيَّرت مواقع التواصل الاجتماعي حتى مفهوم الحب، الذي أصبح صيدًا سهلًا يُقتنص عبرَها. فأصبحنا أمام ظاهرة الحب السريع  fast love story -كالوجبات السريعة التي اجتاحت العالم- وعلاقات الحب المتعددة؛ حيث لا يكتفي طرف أو كلاهما بعلاقة واحدة. فتجده يعيش قصص الحب المتعدد مع عدة أطراف؛ سواء في محيطه أو خارجه، والذي سريعًا ما ينتهي بالحظر.

على مواقع التواصل الاجتماعي تجد علماء دون علم ولا معرفة، خبراء ومدربين دون خبرات ومهارات، شعراء وأدباء دون شعر وأدب -كلّ واحد منهم يدّعي حب ليلى، وليلى تنكر ذاك-… هناك فقط، تُوزّع ألقاب علمية وأدبية بالمجان؛ الدكتور، البروفيسور، الأديب الأريب، الفهيم الفهامة، العالم العلامة… ألقاب يُبذَلُ في سبيلها سنوات من الطلب وعمرًا من الاجتهاد والتعب. لكنها تُسلَّم هناك لغير أهلها جاهزةً بلا امتحان ولا طلب.

هكذا؛ صنعت مجموعةً من «التافهين الناجحين» وفق معاييرها، وغيّبت القدوة والنموذج الذي يجب أن يُحتذى به، حين «حوّلت التافهين إلى رموز، ما يجعل من كثير من تافهي السوشال ميديا والفاشينستات يظهرون لنا بمظهر النجاح،.. مع تقليص صور النجاح التي تعرفها البشرية ككل (العمل الجاد، والخير للأهل والمواطنة الصالحة وحُسن الخلق والأكاديميا والآداب والفنون والرياضة إلخ)؛ فألغاها جميعًا من قائمة معايير النجاح، حتى اختزلتها في المال فقط، فلم يُبق إلا عليه وحده معيارًا»[5]؛ فكيف يمكن لهؤلاء أن يكونوا نموذجًا جيدًا للأجيال، أو قدوة يُستشهَد بأعمالها أو يُؤخَذ منها علم يُنتفع به؟

أصبح الإنسان اليوم غارقًا في علاقات وهمية عبر شِباك التواصل الاجتماعي؛ فتجد في الغرفة الواحدة عدة أشخاص، لكن، كل فرد منصبّ على جهازه، يُبادله البسمات والضحكات وحتى الدموع دون أن يشعر مَنْ بجانبه بذلك، فهو الآخر غارِق في وَهْمه الخاص، ولا أحد منهم يعرف أخبار من حوله إلا مِن خلال المنشورات التي تُشارَك في هذه العوالم المزيفة. أما حواراتهم المباشرة، فقد أخذت شكلًا إلكترونيًّا تنوب عنه الأصابع في رسالة إلكترونية لا تتجاوز أحيانًا «الطعام جاهز» أو «أيقظني عند السابعة» …

يخسر المرء علاقات حقيقية في سبيل علاقات وهمية تسقط عند أول نقاش أو اختلاف في الآراء والتوجهات، علاقات أهون من بيت العنكبوت. فلا علاقة صداقة فيها تستمر طويلًا، ولا علاقة حبّ تنتهي برباط الزوجية، ولا علاقة أُخوّة يمكن أن تفيد في الأزمات.. لأنه ببساطة كل ما بُنِيَ على وَهْم لا يأخذ وقتًا طويلًا حتى يصبح سرابًا.

3- الإنسان كائن رقمي

إذا كان الإنسان كائنًا اجتماعيًّا فيما سبق؛ فَقَدْ فَقَدَ هذه الصفة اليوم، حين أصبح إلكترونيًّا منعزلًا، يُتحَكَّم فيه بغمَّامات رقمية عن بُعْد، لا يستطيع بها أن يَحيد عن الطريق الذي رُسِم له. حتى إنه يقضي ساعات طِوال أمام الحواسيب واللوحات الإلكترونية دون أن يشعر بالوقت، يتبادل مختلف المواضيع والأسرار بثقة منعدمة النظير مع أشخاص من جنسيات مختلفة، ولا يستطيع أن يكون اجتماعيًّا بقليل من الثقة مع أيّ فرد في المحيط الذي يعيش فيه.

إنَّ جميع مؤسِّسي شبكات التواصل الاجتماعي يعيشون حياة أسرية هادئة بعيدًا عن الميديا، فيما حوَّلوا الآخرين إلى مرضى نفسيين مهوسين بالتكنولوجيا، حتى أصبحت كل صغيرة وكبيرة في حياتهم صورًا وفيديوهات مشاركة مع العالَم، وقد وصل الحال ببعضهم إلى درجة الإدمان والمرض النفسي، مثل رهاب فقدان الهاتف Nomophobia  أو البقاء مدة طويلة دون شبكة[6].

تحوَّل العالم الكبير إلى عالم صغير بحجم الكفّ، حين بلغت التكنولوجيا ذروة تطوّرها، فجعلت العالم صفيحة ذكية بين أصابعنا قرَّبت البعيد، لكن بكلّ أسف؛ بعَّدت القريب، فتفككت أُسَر وانهارت علاقات حقيقية بسبب الإدمان الإلكتروني، والتواصل الوهمي الكاذب نتيجة مجانية الاستعمال وسهولة الوصول إلى هذه المنابر.

استباحت مواقع التواصل الاجتماعية خصوصية الفرد والأسرة، وقتلت كل ما كان يعبّر عن الدفء والتجمع الأسري، بل أصبحت المتهم الأول في ارتفاع نِسَب الطلاق جراء الإدمان عليها. يقول إحساين المأمون عضو المكتب التنفيذي للمركز المغربي للشباب: «ساهمت التكنولوجيا والإبحار اليومي في العالم الافتراضي في خلق سلوكيات غريبة؛ منها: حُبّ الاستقلالية، وعدم الرغبة في تحمل المسؤولية ووجود علاقات خارج الزواج»[7]، كما لا يغيب عن أيّ عاقل أن هذه المواقع يسَّرت الخيانة الزوجية المباشرة أو غير المباشرة.[8]

ولأن العالم الإلكتروني عالَم ينقصه البعد القيمي والأخلاقي في غالب الأحوال، كان من البديهي أن تظهر مفاهيم جديدة جرّاء هذا الانفتاح المُطلَق، مثل: الجريمة الإلكترونية، وتعرف بكونها: «جريمة تتخذ من التكنولوجيا الحديثة وسيلة أساسية لارتكابها في عالم افتراضي خلَّفَ وراءه العديد من الضحايا مِن قِبَل أفراد أو جماعات أو منظمات تشتغل في هذا المجال؛ سواء لأسباب شخصية أو مالية أو سياسية، وغيرها»[9].

وقد كان لهذه الجرائم صُوَر مختلفة وقع ضحيتها الرجال والنساء، المشاهير والمغمورون، ومن هذه الصور «جريمة التهديد والابتزاز للضحية، وتعتمد على استخدام التطبيقات وبرامج المحادثات المنتشرة على الإنترنت ولا تحتاج إلى أيّ اتصال مادي بين الجاني والمجني عليه؛ نظرًا لقدرة الجاني على إخفاء هويته والاستمرار في ارتكاب جريمته. أو جريمة انتحال شخصية والتغرير بالغير من خلال قيام الجاني بادعاء شخصية غير شخصيته الحقيقية؛ وذلك للاستفادة من سُمعة أو مال أو سُلطة صاحب الشخصية المُنتحلة، ومحاولة التغرير بالمجني عليهم، وإعطائهم صورة وهمية بقصد تحقيق هدفه الإجرامي. أو جريمة السبّ والقذف في حق الأشخاص من خلال إهانة الأفراد وسبّهم في مختلف وسائل الاتصال السمعية والبصرية والمكتوبة»[10].

وإذا لم تنتهِ هذه الجرائم الإلكترونية بانتحار الضحايا، فإنها تُخلِّف أشخاصًا بسلوكيات مقلقة؛ أهمها: القلق والاكتئاب والعدوانية جراء التنمر الذي يتعرَّضون له عبر هذه الوسائل أو في المجتمع.

لقد حوَّلت التكنولوجيا بكل أشاكلها التواصلية الإنسان إلى كائن رقمي، يتسوّق إلكترونيًّا ويسافر إلكترونيًّا، يُبدع إلكترونيًّا، ويدرس إلكترونيًّا، يحب إلكترونيًّا وينتقم إلكترونيًّا، يحارب إلكترونيًّا ويتواصل كما يوهمون إلكترونيًّا… فإلى أين يسيرون بنا؟ وعن أيّ تواصل يتحدثون؟ بل متى سنستيقظ من هذا الإدمان الذي قتل مشاعرنا، وننتفض ضد هذا الاستلاب الذي أفقدنا الإحساس بأنفسنا وبإنسانيتنا؟!

خلاصة

إن الهدف من التواصل هو زرع الاطمئنان والشعور بالأمان، بوسائل آمنة وصحية تربط بين الناس حقيقة، ولا تنتهي بهم إلى أمراض نفسية ومشاكل صحية واجتماعية، وهذا ما تفتقر إليه وسائل التواصل الاجتماعي.

أخيرًا، لا يُنكر أحد، أن التكنولوجيا بوجهها الإيجابي قدَّمت للإنسانية خدمات جليلة، نقلته من مركزية المكان وضِيقه إلى العالمية، كما طوّرت أسلوب الحياة وسهَّلته في كل المجالات. لكن، في الجانب المتعلق بالتواصل، لا ينكر أحد أن الإنسان انساق بشكلٍ سلبيّ جدًّا خلف وسائل التواصل الاجتماعي، تُوهم التواصل مع كل العالم لكنه خلق فجوة كبيرة مع محيطه.

خلاصة القول: نحن لا نعيش تواصلًا اجتماعيًّا، بل قطيعةً اجتماعيَّة وحربًا إلكترونية بشعة. فما فائدة التواصل مع الغريب إذا كان القريب منا لا يحظى منا بجلسة وُدّ؟ وما فائدة علاقة حبّ بدأت بـ«أعجبني» وانتهت بـ«حظر»؟ وما فائدة صداقة لا تثمر إخوة عند الشدائد؟ باختصار: ما فائدة بناء علاقات افتراضية لا تمُتّ إلى الواقع بصلة مع أشخاص غرباء ومعك أشخاص حقيقيون وَصْلهم بِرٌّ ورفقتهم أمان؟!

لا تكذبوا على أنفسكم، نحن لا نتواصل إلكترونيًّا، نحن نقطع الأرحام، ونعيش وهمًا اسمه التواصل الاجتماعي..

أعيدوا حساباتكم، وأنقذوا الأجيال المقبلة، إننا في خطر.

مراجـع

١. الإسلام ومشكلات الحضارة، دار الشروق، بيروت، لبنان، ط: 5، 1979م.

٢. نظام التفاهة، د. ألان دونو، ترجمة: مشاعل عبد العزيز الهاجري، دار سؤال، بيروت، لبنان، ط:1، 2020.

٣. جريدة العرب اللندنية:

– «الإنترنت متهمة بالتسبب في زيادة حالات الطلاق في العالم العربي»، جريدة العرب اللندنية، السنة: 44، العدد:  12363، الإثنين،21/03/2022م.

– «قلق متزايد من ارتفاع معدلات الطلاق في المغرب»، محمد ماموني العلوي، جريدة العرب اللندنية، السنة: 45، العدد:12527، الاثنين: 05/09/2022م.

٤. «الجريمة الإلكترونية في القانون المغربي»، موقع دليل القانون: https://dalildroit.com/

٥. المغرب.. خبراء يدعون لمواجهة «تسونامي الطلاق»، توفيق الناصري، 26 يوليوز 2022م. الرابط: https://www.skynewsarabia.com/

6. NOMOPHOBIA. De lhypermodernitéà la cybermodernitéla question du normal et du pathologique, Elsa Godart. https://www.psychoclinique.org/

7. Social media and strategic communications : Attitudes and perceptions among college students, Bobbi Kay Lewis, 2009. ( PhD thesis in Philosophy).

 

 

 

[1] Social media and strategic communications : Attitudes and perceptions among college students, Bobbi Kay Lewis, 2009, P :12.

 [2] الإسلام ومشكلات الحضارة، سيد قطب، دار الشروق، بيروت، لبنان، ط:5، 1979م، ص: 128.

[3] نفسه، ص: 128.

[4] نظام التفاهة، د. ألان دونو، ترجمة: مشاعل عبد العزيز الهاجري، دار سؤال، بيروت، لبنان، ط:1، 2020م، ص: 52.

[5] نفسه، ص: 52.

[6]  Nomophobia  الخوف أو القلق من فكرة أن تكون من دون هاتفك المحمول أو غير قادر على استخدامه. عرف المصطلح لأول مرة سنة 2008م، وأدخل  إلى قاموس جامعة كامبريدج سنة 2018م. انظر:

NOMOPHOBIA. De lhypermodernitéà la cybermodernitéla questiondu normal et du pathologique, Elsa Godart. P : 51-52.

البحث موجود على موقع

 https://www.psychoclinique.org

[7] «قلق متزايد من ارتفاع معدلات الطلاق في المغرب»، محمد ماموني العلوي، جريدة العرب اللندنية، السنة: 45، العدد: 12527، الاثنين: 05/09/2022م، ص:17.

[8] المغرب.. خبراء يدعون لمواجهة «تسونامي الطلاق»، توفيق الناصري، 26 يوليوز 2022م، على موقع:

 https://www.skynewsarabia.com

انظر أيضًا: «الإنترنت متهمة بالتسبب في زيادة حالات الطلاق في العالم العربي»، جريدة العرب اللندنية، السنة: 44، العدد:  12363، الاثنين،  21/03/2022م، ص:17.

[9] «الجريمة الإلكترونية في القانون المغربي». انظر الرابط:

 https://dalildroit.com

[10] نفسه.


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

شرح دعاء الهم والحزن – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة «اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ والحَزَنِ، والعَجْزِ والكَسَلِ، والبُخْلِ والجُبْنِ، وضَلَعِ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *