{{شَهِدَ}} أصل: شهد، حضر، ثم صرفت الكلمة في أداء ما تقرر علمه في النفس، فأي وجه تقرر من حضور أو غيره.
{بسم الله الرحمن الرحيم }
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُو اَلْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) }
{{شَهِدَ}} أصل: شهد، حضر، ثم صرفت الكلمة في أداء ما تقرر علمه في النفس، فأي وجه تقرر من حضور أو غيره.
{{اللَّهُ}} شهادة الله سبحانه وتعالى لنفسه بانفراده بالألوهية وكفى به شهيدا، وهو أصدق الشاهدين وأعدلهم، وأصدق القائلين. فلك أن تجعل شهد بمعنى: «بين وأقام الأدلة»، شبه تبيين الأدلة على وحدانيته وإقامة الأدلة العقيلة، بشهادة الشاهد بتصديق الدعوى في البيان والكشف. ولك أن تجعل شهادة الله بمعنى «الدلالة ونصب الأدلة».
فالشهادة من الله بأنه لا إله إلا هو تحتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون معناها الإِخبار بذلك، تأكيداً للخبر بالمشاهدة، كإخبار الشاهد بما شاهد، لأنه أوكد للخبر، أي أخبر عن نفسه بأنه يشهد أنه لا إله إلا هو وهي: «شهادة قولية».
والثاني: أنه أحدث من أفعاله المشاهدة ما قامت مقام الشهادة بأن لا إله إلا هو، وهي «شهادة فعلية».. فبث في الكون من دلائل وآيات لا ينكرها ذو عقل، بل ونَوَّع الأدلة في الآفاق والأنفس على هذا الأصل العظيم. كذلك إنعامه العظيم الذي ما بالعباد من نعمة إلا منه، ولا يدفع النقم إلا هو، والخلق كلهم عاجزون عن المنافع والمضار لأنفسهم ولغيرهم، ففي هذا برهان قاطع على وجوب التوحيد وبطلان الشرك.
{{أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}} لا معبود بحقٌّ إلا الله، المتفَرد بالإلهية لجميع الخلائق، وأن الجميع عبيده وخلقه، والفقراء إليه، وهو الغني عما سواه، كما قال تعالى {: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزلَ إِلَيْكَ أَنزلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}} [النساء:166] فكل ما عُبد من دون الله فهو باطل، وإن سُمِّي إلهًا فإن ألوهيته مجرد تسمية، قال الله تعالى: {{مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}} [يوسف:٤٠]
والتوحيد أول ما يدخل به في الإسلام وآخر ما يخرج به من الدنيا، كما قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «(مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ)» [أبو داود] وفي رواية أحمد « (وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ)» فهو أول واجب وآخر واجب، فالتوحيد أول الأمر وآخره.. فتضمنت هذه الآية أجل شهادة وأعظمها وأعدلها وأصدقها من أجل شاهد بأجل مشهود به.
وفصل به بين المعطوف عليه والمعطوف، ليدل على الاعتناء بذكر المفعول.
{{وَالْمَلَائِكَةُ}} شهادة الملائكة وأولي العلم بمعنى آخر وهو الإقرار، لكنه نسق شهادة الملائكة على شهادة الله، وإن اختلفت معنىً، لتماثلهما لفظاً. كقوله: { {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} } [الأحزاب:56] لأنها من الله الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار والدعاء.
وقدم الملائكة على أولي العلم من البشر لأنهم الملأ الأعلى، وعلمهم كله ضروري، بخلاف البشر، فإن علمهم ضروري واكتسابي.
{{وَأُولُو الْعِلْمِ}} أي من كان من البشر عالماً، لأنهم ينقسمون إلى: عالم وجاهل، بخلاف الملائكة فإنهم في العلم سواء، ولا أحد أشد يقينًا وأقوى إيمانًا من أهل العلم بالله تعالى وليس أي علم.
ومعنى شهادة الملائكة والمؤمنين الإقرار أي شَهِدت الملائكة بما علمت من عظيم قدرته، وشهد أولو العلم بما ثبت عندهم، وتبين من خلقه الذي لا يقدر غيره عليه.
قال المروزي: ذكر شهادته سبحانه على سبيل التعظيم لشهادة من ذكر بعده، كقوله: {{قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ}} [الأنفال:1]
وفي هذه الآية بيان فضل أهل العلم من وجوه كثيرة:
منها: أن الله خصهم بالشهادة على أعظم مشهود عليه دون الناس.
ومنها: أن الله قرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته، وكفى بذلك فضلا.
ومنها: أنه جعلهم أولي العلم، فأضافهم إلى العلم، إذ هم القائمون به المتصفون بصفته.
ومنها: أنه تعالى جعلهم شهداء وحجة على الناس، وألزم الناس العمل بالأمر المشهود به، فيكونون هم السبب في ذلك، فيكون كل من عمل بذلك نالهم من أجره، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
ومنها: أن إشهاده تعالى أهل العلم يتضمن ذلك تزكيتهم وتعديلهم وأنهم أمناء على ما استرعاهم عليه.
{{قَائِمًا}} والقيام هنا بمعنى المواظبة، كقوله تعالى: {{أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}} [الرعد:33] وقوله: {{لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} } [الحديد:25] وتقول: الأمير قائم بمصالح الأمة، ومنه: إقام الصلاة.
{{بِالْقِسْطِ}} الْعَدْلُ، وَهُوَ مُخْتَصَرٌ مِنَ الْقُسْطَاسِ، روى البخاري عن مجاهد أنه قال: “القسطاس: العدل بالرومية”، وَيُطْلَقُ الْقِسْطُ وَالْقِسْطَاسُ عَلَى الْمِيزَانِ لأنه آلة للعدل قال تعالى: {{وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ}} [الإسراء:35] وقال: {{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}} [الأنبياء:47]
وقد أقام الله القسط في تكوين العوالم على نظمها، وفي تقدير بقاء الأنواع، وإيداع أسباب المدافعة في نفوس الموجودات، وفيما شرع للبشر من الشرائع في الاعتقاد والعمل: لدفع ظلم بعضهم بعضا، وظلمهم أنفسهم، فهو القائم بالعدل سبحانه، وعدل الناس مقتبس من محاكاة عدله.
وجملة {{قَائِمًا بِالْقِسْطِ}} حال من {{اللَّهُ}} أي قائما على تدبير شئون خلقه بالعدل في أحكامه التكليفية، والعدل في أحكامه القضائية والجزائية.
{{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}} كرر التهليل توكيداً، قال الراغب: “إنما كرر {{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}} لأن صفات التنزيه أشرف من صفات التمجيد لأن أكثرها مشارك في ألفاظها العبيد، فيصح وصفهم بها، وكذلك وردت ألفاظ التنزيه في حقه أكثر، وأبلغ ما وصف به من التنزيه: «لا إله إلا الله»، فتكريره هنا لأمرين: أحدهما: لكون الثاني قطعاً للحكم. والثاني: لئلا يسبق بذكر العزيز الحكيم إلى قلب السامع تشبيه، إذ قد يوصف بهما المخلوق”.
وقيل: فهو تلقين الإقرار له بذلك على نحو قوله تعالى: {{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}} [الأحزاب:56] أي اقتداء بالله وملائكته، على أنه يفيد مع ذلك تأكيد الجملة السابقة، ويمهد لوصفه تعالى بالعزيز الحكيم.
{{الْعَزِيزُ} } العزة تفسَّر بثلاثة معانٍ: عزة القدر، وعزة القهر، وعزة الامتناع؛ أما عزة القدر فمعناها أن الله تعالى ذو القدر العظيم والسيادة والشرف والعظمة، إلى غير ذلك من معاني القدر والرفعة، والثاني: عزة الامتناع، يعني أنه يمتنع أن يناله السوء، ومن هذا قولهم في الأرض الشديدة الصلبة: أرض عزازٌ، يعني: قوية وصلبة لا ينالها شيء، والثالث: عزة القهر، أي أنه الغالب لكل شيء، ومنه قوله تعالى: { {فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ}} [ص:٢٣]، يعني: غلبني.
{{الْحَكِيمُ}} مأخوذ من الحُكم ومن الإحكام، فهو ذو الحكم وذو الإحكام؛ أما الحكم فإنه ينقسم إلى كوني وشرعي، والإحكام بمعنى الإتقان، والإتقان يستلزم الحكمة وهي وضع الأشياء في مواضعها.
وفيه أن عزة الله تعالى مبنية على الحكمة، وتنزيل الأشياء منازلها، لأن العزيز من المخلوقين قد تأخذه العزة بالإثم فلا يقول الحق، أما الله عز وجل فإنه يقول الحق مع كمال عزته.
قال السعدي: واعلم أن هذا الأصل الذي هو «توحيد الله، وإفراده بالعبودية» قد دلت عليه الأدلة النقلية والأدلة العقلية، حتى صار لذوي البصائر أجلى من الشمس، فأما الأدلة النقلية فكل ما في كتاب الله وسنة رسوله، من الأمر به وتقريره، ومحبة أهله وبغض من لم يقم به وعقوباتهم، وذم الشرك وأهله، فهو من الأدلة النقلية على ذلك، حتى كاد القرآن أن يكون كله أدلة عليه،
وأما الأدلة العقلية التي تدرك بمجرد فكر العقل وتصوره للأمور فقد أرشد القرآن إليها ونبه على كثير منها، فمن أعظمها: الاعتراف بربوبية الله، فإن من عرف أنه هو الخالق الرازق المدبر لجميع الأمور أنتج له ذلك أنه هو المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلا له، ولما كان هذا من أوضح الأشياء وأعظمها أكثر الله تعالى من الاستدلال به في كتابه.
ومن الأدلة العقلية على أن الله هو الذي يؤله دون غيره: انفراده بالنعم ودفع النقم، فإن من عرف أن النعم الظاهرة والباطنة القليلة والكثيرة كلها من الله، وأنه ما من نقمة ولا شدة ولا كربة إلا وهو الذي ينفرد بدفعها وإن أحدا من الخلق لا يملك لنفسه -فضلا عن غيره- جلب نعمة ولا دفع نقمة، تيقن أن عبودية ما سوى الله من أبطل الباطل، وأن العبودية لا تنبغي إلا لمن انفرد بجلب المصالح ودفع المضار، فلهذا أكثر الله في كتابه من التنبيه على هذا الدليل جدا،
ومن الأدلة العقلية أيضا على ذلك: ما أخبر به تعالى عن المعبودات التي عبدت من دونه، بأنها لا تملك نفعا ولا ضرا، ولا تنصر غيرها ولا تنصر نفسها، وسلبها الأسماع والأبصار، وأنها على فرض سماعها لا تغني شيئا، وغير ذلك من الصفات الدالة على نقصها غاية النقص، وما أخبر به عن نفسه العظيمة من الصفات الجليلة والأفعال الجميلة، والقدرة والقهر، وغير ذلك من الصفات التي تعرف بالأدلة السمعية والعقلية،
فمن عرف ذلك حق المعرفة عرف أن العبادة لا تليق ولا تحسن إلا بالرب العظيم الذي له الكمال كله، والمجد كله، والحمد كله، والقدرة كلها، والكبرياء كلها، لا بالمخلوقات المدبرات الناقصات الصم البكم الذين لا يعقلون،
ومن الأدلة العقلية على ذلك ما شاهده العباد بأبصارهم من قديم الزمان وحديثه، من الإكرام لأهل التوحيد، والإهانة والعقوبة لأهل الشرك، وما ذاك إلا لأن التوحيد جعله الله موصلا إلى كل خير دافعا لكل شر ديني ودنيوي، وجعل الشرك به والكفر سببا للعقوبات الدينية والدنيوية، ولهذا إذا ذكر تعالى قصص الرسل مع أمم المطيعين والعاصين، وأخبر عن عقوبات العاصين ونجاة الرسل ومن تبعهم، قال عقب كل قصة: {{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً}} أي: لعبرة يعتبر بها المعتبرون، فيعلمون أن توحيده هو الموجب للنجاة، وتركه هو الموجب للهلاك، فهذه من الأدلة الكبار العقلية النقلية الدالة على هذا الأصل العظيم، وقد أكثر الله منها في كتابه وصرفها ونوعها ليحيى من حي عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة فله الحمد والشكر والثناء.
والآية تمهيد لقوله: {{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإسْلامُ}} ذلك أن أساس الإسلام هو توحيد الله. وإعلان هذا التوحيد، وتخليصه من شوائب الإشراك، وفيه تعريض بالمشركين وبالنصارى واليهود، وإن تفاوتوا في مراتب الإشراك، وفيه ضرب من رد العجز على الصدر: لأنه يؤكد ما افتتحت به السورة من قوله: {{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ}} [آل عمران:2-3].
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
Source link