عندما تحلُّ الفتَن ولا يَدري المرء أحيانًا ماذا يعمل، يغفل كثيرٌ عن أعظم سِلاح كان عُدَّةً الأقوياء مِن الأنبياء والصالحين على مرِّ الزمان، قال سبحانه عن نبيِّه نوح {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ}
إنَّنا حين نرَى الأمور بنظرةِ العقل الواقِع تحتَ تأثير الحسِّ مرَّة.
وبنظرةِ العاطفة الحاصِلة تحت تأثير الحدَث مرةً أخرى، لا يستقيم لنا الأمرُ حتى يكونَ هناك مقياسٌ منضبط، ومعيار لا يتحول، يضبط الأمور ويَهدي للتي هي أقومُ؛ قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء: 9].
وقال – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «تركتُ فيكم ما لن تَضِلوا ما تمسكتُم بهما: كتاب الله وسُنَّة رسوله – صلَّى الله عليه وسلَّم»؛ رواه مالك في الموطأ!!
فهذه وقفة انضباط وبصيرة في الفِتن والأزمات.
قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [الأنعام: 104]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء: 174].
فما أحوجَنا إلى هذا النور في زمنٍ كقِطع اللَّيل المظلِم، إذا كان للمؤمِن في كلِّ زمان وظائفُ يُؤدِّيها المؤمِن عبوديةً لله تعالى، واستثمارًا لذلك الزمان، وتحصيلاً للبركات منه.
فإنَّ المؤمن لا يفوته في زمان الفتن التي تختلط فيها الأمورُ وتشتبه فيها المسائِل، وتنطلق فيها الانفعالاتُ والحماسات، ويقل فيها الحِلم والتأنِّي، وترى المعروف والمنكر، والخير والشر، وتذهب عقولُ الرجال، وخصوصًا إذا كانت الفتنة في الأمور المهمَّة، والمصالح العامَّة، تجد الفِتنة تقع؛ وسرعان ما تتطوَّر وتخرُج عن حدود السيطرة، حينئذٍ يلزم المؤمن وظائف لا لمجرَّد استثمار ذلك الزمان، ولا تحصيل الثواب فيه، وإنما للبحث عن أسباب النجاة وطلب السلامة مِن تلك الفِتن.
• مواجهة الفِتن بتقوى الله والعمل الصالح:
والانشغال بها بدلاً مِن الانشغال بتتبُّع النشرات والأخبار، فكيف كان هديُه – صلَّى الله عليه وسلَّم – إذا أهمَّه أمرٌ أو أحزنه، أو في الفِتَن عُمُومًا؟
وهذا الهدي هدْي محمَّد – صلَّى الله عليه وسلَّم – يقول: «بادروا بالأعمال الصالحة، فستكون فتنٌ كقِطع الليل المظلِم، يصبح الرجل مؤمنًا، ويُمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دِينه بعرَض من الدُّنيا»؛ (رواه مسلم).
والعمل الصالح وسيلةٌ للثبات عندَ الفتن التي يضطرب الواحدُ فيها ويتشكَّك من أمرها، فيُمسي على حال ويُصبح على أخرى، ويرى وكأنَّه في حُلْم؛ قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66].
وهذه الأعمالُ الصالحة والعبادة عمومًا حصانةٌ لنفس المرء وداخلِه مِن الظروف البيئيَّة المحيطة به، حتى لا تؤثِّر فيه؛ قال – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «العبادةُ في الهَرْج كهِجرة إليَّ»؛ رواه مسلم، (والهرج: الفِتنة واختلاط الأمْر).
فكما أنَّ المهاجر فرَّ بدِينه ممَّن يصده عنه إلى رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – كذلك الذي انشغل بالعبادة، فرَّ عن الناس بدِينه إلى عبادة ربه مهاجرًا إلى الله؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [الحجر: 97]؛ لذلك عند فِتنة القتال ولقاء أعداء الله مِن المشركين؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} [الأنفال: 45].
وقال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45].
وكان – صلَّى الله عليه وسلَّم – إذا حزَبَه أمر – نابه وألَمَّ به أمرٌ شديد – صلَّى؛ رواه أبو داود.
استيقظ – صلَّى الله عليه وسلَّم – يومًا فزعًا يقول: «سبحان الله! ما أنزل الله من الفِتن؟ مَن يوقظ صواحبَ الحُجرات ( (يقصد أزواجه) ) لكي يُصلِّين»؛ (رواه البخاري).
• حرمة ما عصمه الله تعالى:
من دماء وأموال وأعراض.
قال – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «إنَّ دماءَكم وأموالكم وأعراضَكم عليكم حرامٌ كحُرْمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهرِكم هذا»؛ (رواه البخاري).
وهل أشدُّ مِن حُرْمة الكعبة والشهر الحرام ويوم عرَفة؟!
وهي أوَّل ما يقضي الله تعالى فيه بين العِباد من حقوقِ العباد، وقال – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «لا يزال الرجلُ في فُسْحةٍ مِن دِينه ما لَم يُصِبْ دمًا حرامًا» لمسلِمٍ كان أو لذِمِّي، أو مجاهد، أو مستأمن على غير الملَّة.
وتشتدُّ الحرْمة بالنسبة للمسلِم؛ فقال – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «لزوالُ الدنيا أهونُ على الله مِن قتْل رجل مسلِم»؛ (رواه الترمذي).
وقال – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «لحُرْمةُ المؤمن أعظمُ عند الله من حُرْمة الكعبة، ماله ودمه»؛ (رواه الترمذي).
قال عبدُالله بن عمرو بن العاص: “لله درُّ ابن عمر وأبي مالك (سعْد بن أبي وقَّاص)، لئن كان تخلُّفهم عن هذا الأمر خيرًا، كان خيرًا مبررًا، ولئن كان ذنبًا كان ذنبًا مقصورًا”؛ العزلة (75، 74).
وكان عليُّ بن أبي طالب – الخليفة الرابع الذي خرَجتْ عليه الفئة الباغية، ولم يخرج معه لقتالهم قومٌ ممَّن اعتزلوا الفِتنة كسعد بن أبي وقَّاص وعبدالله بن عمر – قال عليٌّ – رضي الله عنه -: “للهِ دَرُّ مقام قامَه عبدالله بن عمر وسعد بن مالك، إن كان بِرًّا إنَّ أجره لعظيم، وإنْكان إثمًا إنَّ خطأه ليسير”.
وقال مطرِّف بن عبدالله – مِن خيار التابعين الذين عاصروا فِتنةَ خروج ابن الأشعث بالسَّيْف على عبدالملك بن مرْوان (ت80 هـ) -: “لأن آخذَ بالثِّقة في القعود، أحبُّ إلي مِن أن ألتمس فضلَ الجهاد بالتغرير”.
وقال – رحمه الله – أيضًا: “لأن يسألني ربِّي – عزَّ وجلَّ – يومَ القيامة فيقول: يا مطرف، ألاَ فعلت، أحب إليَّ مِن أن يقول لِمَ فعلتَ؟”؛ حلية الأولياء.
• معرفة الدِّين والرجوع لعلمائه:
فإنَّ المرء على قدْر فِقهه ومعرفته بدِينه وتقوى الله في قلْبه يستبعد الأمورَ وتستوضح لديه الحوادث؛ قال الله تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157].
قال حذيفةُ – رضي الله عنه -: ((لا تضرُّك الفِتنةُ ما عَرَفتَ دِينك، إنما الفتنةُ ما اشتبه عليك الحق والباطِل)).
قال الحسنُ البصريُّ – رحمه الله -: “إنَّ الفِتنة إذا أقبلت عرَفَها كلُّ عالم، وإذا أدبرت عرَفها كلُّ جاهِل”.
فما أحوجَنا في طغيان الفِتنة إلى سفينة عالِم، فإن مَن تخلَّف عنها هلَك، ونعوذ بالله من الخذلان.
• التأني والحلم:
إنَّ للفتنة مظهرًا خدَّاعًا في مبدئها، حتى يستحسنَ الناس صورتها، وربما يعقدون الآمالَ عليها، لكنها سرعان ما تموت وتتلاشى، كمثل الزهرة التي تموت قبل أن تتفتَّح وتُعطي ثمرتها؛ قال ابن حزم: “نوار الفِتنة (زهرها) لا يَعْقِد”.
قال ابن القيم: “إنَّ الباطل له دهشة ورَوْعة في أوله، فإذا ثبت له القلبُ رُدَّ على عقبيه، والله يحبُّ مَن عِنده العلم والأناة، فلا يعجل، بل يتثبت حتى يعلمَ ويستيقن ما ورد عليه، ولا يعجل بأمرٍ مِن قبل استحكامه، فالعجلة والطيْش مِن الشيطان؛ قال – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «اللهمَّ إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد»، فإذا حصَل الثباتُ أولاً، والعزيمة ثانيًا، أفْلَح العبدُ كلَّ الفلاح”؛ مفتاح دار السعادة (ص: 170).
• الصبر:
إنَّ الثبات على الأمر، مهما كانتِ الظروف صعبة وقاسية، واحتمال المشقَّة في ذلك هو مفهومُ الصبر؛ قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: 20]، فلا يعني الصبرَ والاستسلام للأحوال السيِّئة لكنَّه يعني: عدمَ اللجوء إلى الحلول السريعة التي تظهر قويَّةً مندفعة، لكنَّها يعقبها الندامة، وتتعقد بسببها المشاكل، فتُحدِث اليأس والإحباط في النفوس.
هنا يأتي الصبرُ كأنه استخدامٌ للوقت في الخلاص مِن أوضاع صعْبة، لا نستطيع أن ننجح مِن الخلاص منها الآن، الصبر ليس سلبيةً، ولكنه حرَكة وجهد وعمل مستقيم؛ قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 110]، ويقول سبحانه وتعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45].
• حفظ اللِّسان والصمت في الفتنة أَوْلى:
حفظ اللسان واجبٌ عام في جميعِ الأوقات والأحوال، وقال – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «أكثرُ خطايا ابن آدمَ في لِسانه»؛ “السلسلة الصحيحة”.وقال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء: 53].
وعن سفيانَ الثقفي قال قلت: يا رسولَ الله: ما أخوفُ ما تخاف عليَّ؟ فأخَذ بلسان نفْسه – صلَّى الله عليه وسلَّم – ثم قال: «هذا»؛ (رواه مسلم).
لكن حِفظ اللِّسان عند الفتن مؤكَّد؛ لأنَّه في الفتن تزداد شهوةُ الإشاعات والمبالغات والأباطيل، وتكون عندها الآذان مستعدَّة لاستقبال كل ما يُقال؛ قال – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «مَن صمَت نجَا»؛ (رواه الترمذي).
وقال – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «مَن كان يؤمِن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت»؛ (متفق عليه).
فإن أردتَ أن تتكلَّم فانظرْ إن ظهرت مصلحةُ الكلام الذي تتكلَّم به فتكلَّم، وإن شككت في ظهورِ المصلحة مِن الكلام فلا تتكلَّم، ومِن باب أولى إن رأيتَ مفسدةً في الكلام فلا تتكلَّم.
قال وُهيب بن الورد – رحمه الله -: “وجدت العزلة في اللِّسان”، فكم ممَّن كفَّ يده وجسده عن المشاركة في الفِتنة، لكنَّه خائض فيها بلسانه.
• ليس كل قول يُقال:
قال ابنُ مسعود – رضي الله عنه -: “ما أنت بمحدِّث قومًا حديثًا لا تبلغُه عقولهم، إلا كان لبعضِهم فِتنة))؛ (رواه مسلم).
وقال أبو هريرة – رضي الله عنه -: “حفظتُ من رسولِ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – وِعاءين: أما أحدهما فبثثتُه، وأما الآخَر، فلو بثثتُه لقُطِع هذا البلعوم؛ (رواه البخاري).
فكتَم – رضي الله عنه – الأحاديثَ التي في الفِتن (في بني أُمية) بعد أنِ اجتمع الناسُ عليهم بعدَ فرقة وقتال، رغم أنَّ ما معه من كلامِ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – هو الحق.
لكن ليس كل ما يقال (ولو مِن الحق) حان وقتُه، وليس كل ما حان وقتُه وُجِد مَن يسمعونه، فليس كل ما يُعلم يقال، وليس كل ما يُقال يُقالُ في كلِّ الأحوال.
• التثبُّت منَ الأخبار وعدم إشاعتها:
لا تُصدِّق خبرًا قبل أن تتثبت مِن صِحَّته، وما أكثر الأخبارَ في وقت الفتَن! وما أقلَّ الثابتَ منها! فكيف يسمح لنفسه أن يكون مجترًّا للكلام ناقلاً له كنقل الذباب للعَدْوى يُذيع وينشر قبل أن يتثبَّت من الخبر؟!
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].
وقال – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «كفَى بالمرء إثمًا أن يُحدِّث بكلِّ ما سمع»؛ (رواه مسلم).
ونهَى – صلَّى الله عليه وسلَّم – عن ((قِيل وقال))؛ (رواه مسلم).
ثم لو فُرِض صِحَّة الخبَر يقينًا، فإنَّه ينبغي بعدَ ذلك النظر في مصلحة نشْرِه من عدمها؛ لأنَّه ليس كل ما يعلم يقال، وإنَّ مِن الأخبار ما لا يُلقَى إلا إلى الخاصَّة؛ قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 83].
• إذا تغيَّرت الأحوال واضطربت الأمورُ، فلا تحكم على شيءٍ مِن تلك الفتن أو من تغيُّر الحال إلا بعد تصوُّره:
قال الله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]؛ لأنَّ القاعدة تقول: (الحُكم على الشيء فرعٌ عن تصوُّره).
ولا يُمكن الحُكم على الأمور بالاعتمادِ على تحليلات أو تقاريرَ وبيانات، أو نشرات أو أخبار شائعات، وإنما بنُقول المسلمين العدول الثقات.
وقد وضَع حذيفةُ – رضي الله عنه – مقياسًا للمرء منا يَقيس به تأثيرَ الفِتنة على قلبه، فقال – رضي الله عنه -: “إنَّ الفِتنة تُعرَض على القلوب، فأي قلْب أُشربها نُكتت فيه نكتة سوداء، فإنْ أنكرها نُكتت فيه نكتةٌ بيضاء، فمَن أحب منكم أن يعلم: أصابته الفتنة أم لا؟ فلينطر: فإن كان يرى حرامًا ما كان يراه حلالاً، أو يرى حلالاً ما كان يراه حرامًا فقد أصابتْه الفتنة”؛ حلية الأولياء (1/ 272 – 273).
• الدُّعاء والتضرُّع في الفِتن:
الضَّراعة من أسبابِ كشْف الغُمَّة وتفريج الكُرُوب؛ قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام: 42]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف: 94]
عندما تحلُّ الفتَن ولا يَدري المرء أحيانًا ماذا يعمل، يغفل كثيرٌ عن أعظم سِلاح كان عُدَّةً الأقوياء مِن الأنبياء والصالحين على مرِّ الزمان، قال سبحانه عن نبيِّه نوح {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر: 10]، وقال – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «أعْجَزُ الناس مَن عجَز عن الدعاء»؛ (صحيح الجامع).
ولا يعرف العبدُ طريقَ الهُدى ولا يجده إذا اشتبهتِ الأمور، والْتبس على الجمهور حتى يهديَه الله تعالى؛ «يا عبادي، كلُّكم ضالٌّ إلا مَن هديتُه فاستهدوني أهْدِكم».
لذا كان – صلَّى الله عليه وسلَّم – يفتتح صلاتَه إذا قام مِن الليل قائلاً: «اللهمَّ ربَّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطِرَ السموات والأرض، عالِمَ الغيب والشهادة، أنت تحكُم بين عبادِك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلف فيه من الحقِّ بإذنك، إنَّك تَهدي مَن تشاء إلى صراطٍ مستقيم»؛ ( رواه مسلم).
• لكن أي دعاء:
عن أبي هُرَيرَة – رضي الله عنه -: ((تكون فِتنة لا يُنجي منها إلا دعاء كدُعاء الغَرَق))؛رواه ابن أبي شيبة.
والدُّعاء سلاحُ المؤمن، والسلاح البارِد لا يَقطع، فليس الدعاء مجرَّدَ ألفاظ بارِدة، وقلب غافل، إنما هي كلماتٌ خرجَتْ مِن شعور اضطرار، وقلْب حاضِر عندَه في ربه يقين بالإجابة.
• الدُّعاء بطلب الحماية مِن شرِّ الفِتنة أن يطالنا شرُّها بسوء؛ قال – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «تعوَّذوا بالله من الفِتن، ما ظهَر منها وما بطَن»؛ (رواه مسلم).
• وعاصَر الحسن البصري – إمام مِن التابعين – زمنَ الحجاج بن يوسف – إمام من المفسدين في عصره – وكان الحسنُ البصريُّ يقول: “إنَّ الحجاج عذابُ الله، فلا تدفعوا عذابَ الله بأيديكم، ولكن عليكم بالاستكانةِ والتضرُّع؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76]”.
• التراحم والتكاتف والتعاطف:
قال – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «مَثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحمِهم وتعاطفهم مَثَل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضوٌ تَدَاعى له سائرُ الجسد بالسَّهَر والحمَّى»؛ (رواه مسلم).
أي: دعا بعضُه بعضًا إلى المشارَكة.
لكن الأنانية والأثرة، والبحث عن المنفعة ولو على حسابِ الغَيْر، والولاء للمصلحة، والخيبة – آفة.
فيستغل البعضُ حاجةَ الناس فيتغالَى في الثمن ليربحَ أكثر، أو يخرُج البضاعة المعيبة والفاسِدة والكاسدة؛ لتباعُ في وقت الأزمات ونُدرة السلعة؛ قال – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «إنَّ التجَّار يُبعثون يومَ القيامة فجَّارًا، إلا مَن اتَّقى وبرَّ وصدَق»؛ صحيح الترغيب والترهيب.
وقال – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «لا يُؤمن أحدُكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسِه».
قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188].
• حفظ الأمن:
الأمن مطلبٌ شرعي، ومنحة إلهية؛ قال تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 3 – 4].
وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].
قال الشاطبيُّ – رحمه الله -: “أهم ما تقوم عليه حياةُ الناس الأمْن الذي تطمئنُّ به الناس على دِينهم وأنفسِهم، وأموالهم وأعراضهم، فالأمن مقصودٌ به سلامة النفْس والمال، والعِرض والدِّين والعقل، وهي الضروريات التي لا بدَّ منها لقيام مصالح الدِّين والدنيا، وقد اتَّفق الفقهاءُ على أنَّ أمْنَ الإنسان على نفْسه وماله وعِرضه شرْطٌ في التكليف بالعبادات”؛ “الموافقات” (1/ 346 – 347).
فالمحافظة على أمْنِ بلادنا عبادةٌ نتقرَّب بها إلى ربِّنا، كيف لا والضروريات الخمس التي هي مقاصد الشريعة تقتضيه؟!
________________________________________________________
الكاتب: حسين الدسوقي
Source link