صوم شعبان مثل السنن الرواتب بالنسبة للصلوات المكتوبة، ويكون كأنه تقدمة لشهر رمضان؛ أي: كأنه راتبة لشهر رمضان؛ ولذلك سُنَّ الصيام في شهر شعبان، وسُنَّ الصيام ستة أيام من شوَّال، كالراتبة قبل المكتوبة وبعدها.
لماذا هذه الموعظة؟
1- لبيان حال النبي صلى الله عليه وسلم في شهر شعبان؛ للاقتداء به.
2- لبيان سرِّ هذا الاهتمام بشهر شعبان، والتحذير من الغفلة.
3- التذكير بفضل العمل الصالح في هذا الشهر، وأنه شهر ختام أعمال السنة؛ حيث تُرفَع فيه إلى الله تعالى.
4- بيان أهم الأعمال المستحبة في هذا الشهر.
5- للاقتداء بالسلف الصالح، والحصول على الأجر والثواب.
مقدمة:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
إن المؤمن لَيتقلب في هذا الزمان، ويمد الله له في الأجل، وكل يوم يبقى فيه في هذه الدنيا هو غنيمة له ليتزود منه لآخرته، ويحرُث فيه ما استطاع، ويبذُر فيه من الأعمال ما استطاعتْهُ نفسه وتحمَّلته.
ولا يستطيع أي إنسان كلما داعبه هلال شهر شعبان المبارك في كل عام أن يمنع نفسه من تذكُّر شهر رمضان المعظم، وصيامه، وقيامه، والأعمال الصالحة التي تُظلله، لا سيما وشهر شعبان هو التمهيد الزماني لشهر رمضان وما فيه من الطاعات، وهو رياضة عبادية للقلب والجوارح على الاجتهاد في الطاعة في رمضان؛ حيث انطلاقُ الإنسان من قيوده الشيطانية، وأغلال هوى نفسه، وتكبيل مَرَدَةِ الجن بها؛ لينطلق الإنسان في فضاء الطاعة الرحيب، وسمائها الواسعة، لا يدَّخر وُسعًا، ولا يبخل بجهد يبذله في سبيل تحصيل ما يقدر على حمله من باقات الحسنات والطاعات.
أيام مضت، وشهور انقضت، ودار العامُ دورته، فأقبلت الأيام المباركة تبشِّر بقدوم شهر القرآن، وبين يدي هذا القدوم يهلُّ علينا شهر شعبان، مذكِّرًا جميع المسلمين بما يحمله لهم من خير، والمسلم يعلم أن شهر شعبان ما هو إلا واحد من شهور السنة: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ} [التوبة: 36]، ولكن المسلم يشعر أن لشهر شعبان مذاقًا خاصًّا، فيفرح بقدومه، ويستبشر به خيرًا؛ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 57، 58].
ومن هنا كانت تلك الوقفات التربوية مع هذا الشهر الكريم:
1- الإكثار من الصوم في شعبان:
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الصيام في شهر شعبان؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان أحب الشهور إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصومه شعبان، ثم يصِله برمضان))؛ (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: ((ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان))؛ (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: لا يُفطر، ويُفطر حتى نقول: لا يصوم، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صيامًا منه في شعبان))، وفي رواية: ((يصوم شعبان كله))، وفي رواية: ((كان يصوم شعبان إلا قليلًا))؛ قال العلماء: في اختلاف الروايات يحتمل أن يكون حصل كل ذلك في أعوام مختلفة.
وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم علة إكثاره من الصيام؛ فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، قال: ((قلت: يا رسول الله، لَمْ أرَك تصوم شهرًا من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: «ذلك شهر يغفُل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر تُرفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأُحب أن يُرفع عملي وأنا صائم»؛ (رواه أحمد، والنسائي، وصححه الألباني).
قال أهل العلم: وصوم شعبان مثل السنن الرواتب بالنسبة للصلوات المكتوبة، ويكون كأنه تقدمة لشهر رمضان؛ أي: كأنه راتبة لشهر رمضان؛ ولذلك سُنَّ الصيام في شهر شعبان، وسُنَّ الصيام ستة أيام من شوَّال، كالراتبة قبل المكتوبة وبعدها.
وفي الصيام في شعبان فائدة أخرى: وهي توطين النفس وتهيئتها للصيام؛ لتكون مستعدة لصيام رمضان؛ فيسهل عليها أداؤه؛ قال ابن رجب رحمه الله: “صوم شعبان كالتمرين على صيام رمضان؛ لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكُلفة، بل يكون قد تمرَّن على الصيام واعتاده، ووجد حلاوة الصيام ولذته، فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط”.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: “وفي صومه صلى الله عليه وسلم أكثر من غيره ثلاثة معانٍ: أحدها: أنه كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، فربما شُغل عن الصيام أشهرًا، فجمع ذلك في شعبان؛ ليدركه قبل الصيام الفرض.
الثاني: أنه فعل ذلك تعظيمًا لرمضان، وهذا الصوم يشبه سُنة فرض الصلاة قبلها تعظيمًا لحقِّها.
الثالث: أنه شهر تُرفع فيه الأعمال؛ فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يُرفع عمله وهو صائم”.
2- رفع الأعمال إلى الله تعالى:
فقد جعله الله تعالى بمثابة الختام لأعمال السنة، ففيه تُرفع أعمال السنة؛ كما في الحديث: «… وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم»، فشهر شعبان هو الموسم الختامي لصحيفتك وحصاد أعمالك عن هذا العام، فبِمَ ستختم عامك؟ ثم ما الحال الذي تحب أن يراك الله عليه وقت رفع الأعمال؟ إنها لحظة حاسمة في تاريخ المرء، حين تصعد الملائكة بحصاد عامه كله، لتعرض هذه الأعمال على الله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10].
فهل تحب أن يُرفع عملك وأنت في طاعة لله، وثبات على دينه، وفي إخلاص وعمل واجتهاد وتضحية، أم تقبل أن يُرفع عملك وأنت في سكون، وضعفِ هِمَّة، وقلةِ بذلٍ وإعراض عن الله؟ راجع نفسك، يا عبدَالله، وبادر بالأعمال الصالحة قبل رفعها إلى الله في شهر رفع الأعمال؛ واعلم «إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبًا».
3- إحياء مواسم الغفلة:
لقد تضمن حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما المتقدم الحكمةَ لإكثار النبي صلى الله عليه وسلم من الصيام في شعبان؛ حيث قال: «ذلك شهر يغفُل الناس عنه بين رجب ورمضان»، فإن الناس يهتمون بشهر رمضان لِما فيه من الفضائل، ويعظِّمون شهر رجب لمكانته وحرمته، فأراد أن يبين لهم فضيلة شهر شعبان، ولو تأملت لأحوال الناس تجد أن الكثير منهم يستعدون لشهر رمضان بإنجاز أعمالهم الدنيوية في شعبان للتفرغ لشهر رمضان؛ ومن ثَمَّ يتحول شعبان إلى شهر دنيوي بحت، ومن هنا تكون الغفلة.
قال أهل العلم، في قوله: «يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان» دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، وأن ذلك محبوب لله عز وجل؛ ففي حديث الثلاثة الذين يحبهم الله تعالى عن أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «ثلاثة يحبهم الله، وثلاثة يبغضهم الله؛ أما الثلاثة الذين يحبهم الله، فرجل أتى قومًا فسألهم بالله، ولم يسألهم بقرابة بينهم فمنعوه، فتخلف رجل بأعقابهم، فأعطاه سرًّا، لا يعلم بعطيته إلا الله، والذي أعطاه، وقوم ساروا ليلتهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يعدل به، نزلوا فوضعوا رؤوسهم، فقام أحدهم يتملَّقُني ويتلو آياتي، ورجل كان في سريَّة، فلقوا العدو فهُزموا، فأقبل بصدره حتى يُقتل، أو يفتح الله له»؛ (رواه الترمذي، والنسائي، وأحمد، واللفظ له)، فإننا حينما ننظر ونتأمل جيدًا إلى الجامع المشترك لهذه الأعمال الثلاثة، والسر في محبة الله تعالى لهم، لَوجدنا أنه بعد الإخلاص لله تعالى هو الخفاء والسر، واليقظة في وقت غفلة الآخرين.
فيظفَر هذا المجتهد في أوقات غفلة الناس بمضاعفة الأجور والحسنات؛ لأن الأعمال والقُرُبات التي في غفلة الناس يعظُم أجرها وثوابها عند الله تعالى؛ فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي يتقرب إلى الله تعالى في الهَرْجِ وأوقات الفتن أجره عظيم: «إن من ورائكم أيامًا الصبرُ فيهن مثلُ القبض على الجَمْرِ، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلًا يعملون مثل عملكم» ، قيل: يا رسول الله، أجر خمسين منا أو منهم؟! قال: «بل أجر خمسين منكم»، الخطاب موجه للصحابة رضي الله عنهم؛ أي: إن للعامل في أزمان الفتن ووقت الهرج أجرَ خمسين منكم، ثم بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم عِلَّةَ ذلك بقوله: «إنكم تجدون على الخير أعوانًا ولا يجدون»؛ (رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة)، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا، كما بدأ، فطوبى للغرباء، قيل: يا رسول الله، من الغرباء؟ قال: الذين يصلُحون إذا فسَد الناس».
وتأمل هذه الأعمال التي تضاعف أجرها؛ وذلك لغفلة الناس عنها: لماذا هذه الأجور العظيمة للمحافظين على صلاة الفجر؟ وتأمل إلى فضل قيام الليل، وثواب وأجر ركعتي الضحى، وكذلك كان من يدخل السوق الذي هو محل الغفلات والاشتغال بالبيع والشراء، ثم يذكر الله تعالى، فقد ملأ صحيفته حسنات كثيرة.
4- القرآن والقيام:
ألَا وإن مما يُسنُّ عمله في شهر شعبان أيضًا الإكثار من قراءة القرآن؛ قال أنس بن مالك رضي الله عنه: “كان المسلمون إذا دخل شعبان أكبًّوا على المصاحف فقرؤوها، وأخرجوا زكاة أموالهم؛ تقويةً لضعفيهم على الصوم”، وقال سلمة بن كهيل رحمه الله: “كان يُقال: شهر شعبان شهر القرآن”.
وتأمل إلى الترجمة العملية لأحوالهم مع القرآن في شعبان؛ فقد كان عمرو بن قيس رحمه الله، إذا دخل شهر شعبان أغلق حانوته – أي دكانه – وتفرَّغ لقراءة القرآن.
ومما ينبغي أن نتواصى به هذه الأيام أن نعوِّد أنفسنا على قيام الليل، فلقد قدِم عهد بعضنا به، ولو أن نبدأ من الليلة بثلاث ركعات، ثم بخمس، وهكذا، حتى ننشَط له في رمضان، وما أسرع تصرُّم الأيام!
5- سلامة الصدر:
ففي هذا الشهر ليلة عظيمة، ينظر الحق سبحانه وتعالى إلى عباده فيمُنُّ عليهم بالغفران، وتتنزل عليهم الرحمات؛ فقد روى ابن ماجه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لَيطَّلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خَلْقِه، إلا لمشرك أو مشاحِن»؛ (حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة)، ففي شهر شعبان تعُم مغفرته سبحانه وتعالى جميع خلقه، غربًا وشرقًا، شمالًا وجنوبًا، عربًا وعجمًا، إلا صِنفين من الخلق يُحرمون من هذه الرحمة والمغفرة، فمن هم هؤلاء المحرومون؟! قال صلى الله عليه وسلم: «فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن».
أما الصنف الأول: فهو المشرك، الذي صرف ما هو حق لله لغيره سبحانه وتعالى، بأي نوع من أنواع العبادة من الدعاء أو النذر، أو الذبح أو الحج، وغير ذلك من العبادات التي لا تكون إلا لله تعالى، فمن فَعَلَ ذلك، فقد أشْرَكَ واستحق العقوبة؛ وهي عدم المغفرة.
وأما الصنف الثاني: فهو المشاحن، الذي بينه وبين أخيه المسلم شحناء وخصومة وعداوة، وهذا هو حال كثير من المسلمين عندما تركوا هَدْيَ سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، تكاد الشحناء تكون هي داء الأمة اليوم، ومرض كثير من المسلمين، مع انفتاح الدنيا، وشدة التنافس فيها، فكيف نستقبل شهر رمضان بقلوب مُثْقَلة بالأحقاد والبغضاء؟ وقد سُئِلَ ابن مسعود رضي الله عنه: كيف كنتم تستقبلون شهر رمضان؟ قال: “ما كان أحدنا يجرؤ أن يستقبل الهلال وفي قلبه مثقالُ ذرةِ حقدٍ على أخيه المسلم”، الله أكبر، إنها قلوب سليمة، فلم يسبقنا السلف إلى الله تعالى بكثرة الركوع والسجود فقط، ولكنهم سبقونا بنقاء القلوب، وسلامة الصدور.
فإن أولَى ما ينبغي علينا تفقُّده استعدادًا لهذه المواسم الفاضلة هو أن نتفقَّد قلوبنا؛ قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: «ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب»، قال ابن رجب رحمه الله: “ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كلمةً جامعة لصلاح حركات ابن آدم وفسادها، وأن ذلك كله بحسب صلاح القلب وفساده، فإذا صلح القلب صلحت إرادته، وصلحت جميع الجوارح، فلم تنبعث إلا إلى طاعة الله واجتناب سخطه، فقنعت بالحلال عن الحرام، وإذا فسد القلب فسدت إرادته، ففسدت الجوارح كلها، وانبعثت في معاصي الله عز وجل وما فيه سخطه”.
6- الحياء من الله تعالى.
ففي الحديث السابق بُعْدٌ آخَرُ يجب أن نقف معه وقفة تربوية، فالناظر إلى حال الحبيب صلى الله عليه وسلم في شعبان، يظهر له أكمل الهَدْيِ في العمل القلبي والبدني في شهر شعبان، ويتجسَّد الحياء من الله ونظره إليه بقوله: «فأُحب أن يُرفع عملي وأنا صائم»، ففي الحديث قمة الحياء من الله عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بألَّا يراه الله إلا صائمًا، وهذا هو أهم ما يجب أن يشغلك أخي المسلم، أن تستحي من نظر الله إليك، تستحي من نظره لطاعاتٍ قدمتها امتلأت بالتقصير، وتستحي من أوقات قضيتها في غير ذكر لله، وتستحي من أعمال لم تخدُم بها دينه ودعوته، وتستحي من كل ما كتبته الملائكة في صحيفتك من تقاعسٍ وتقصير، وتستحي من كل ما يراه الله في صحيفتك من سوءات وعورات، كل ذلك وغيره يستوجب منك – أخي الحبيب – الحياء من الله والخشية منه.
7- احذر البدع:
اعلم – رحمك الله – أن بعض الناس يُخصِّص يوم النصف من شعبان بالصيام، وليلتها بالقيام، وببعض الأدعية، والأذكار، وإنشاد بعض الأشعار، ولم يثبت ذلك كله في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، إنما جاءت في أحاديث ضعيفة، أو موضوعة، ومكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كما قال ابن رجب رحمه الله، وغيره: “وكل هذا لا تقوم به حُجَّة، ولا يُعمَل به في الأحكام”.
نعم، مَن كان مِن عادته قيام الليل فلا يترك قيام الليل في تلك الليلة، ومن كان من عادته صيام النوافل، فوافق ذلك يوم النصف من شعبان، فَلْيَصُمْ ولا يترك الصيام، وكذلك مَن كان مِن عادته أن يصوم في شعبان، فليصمه؛ اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم، فسيروا على هَدْيِ نبيكم الموصِّل إلى طريق الجِنان، واجتنبوا طريق الغواية، والبدع والضلال الموصِّلة إلى دار البوار.
8- التهيئة قبل رمضان:
شهر شعبان هو شهر التدريب والتأهيل التربوي والرباني، يُقبِلُ عليه المسلم ليكون مؤهلًا للطاعة في رمضان، فيقرأ في شهر شعبان كل ما يخص شهر رمضان ووسائل اغتنامه، ويجهز برنامجه في رمضان، ويجدول مهامه الخيرية، فيجعل من شهر شعبان دورة تأهيلية لرمضان، فيحرص فيها على الإكثار من قراءة القرآن والصوم وسائر العبادات، ويجعل هذا الشهر الذي يغفل عنه كثير من الناس بمثابة دفعة قوية، وحركة تأهيلية، لمزيد من الطاعة والخير في رمضان، فهو دورة تأهيلية لصيام رمضان؛ حتى لا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكُلْفة، بل يكون قد تمرن على الصيام واعتاده، ووجد في صيام شعبان قبله حلاوة الصيام ولذته، فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط، وحتى يتحقق هذا الأمر، فهذا برنامج تأهيلي تربوي يقوم به المسلم في شهر شعبان؛ استعدادًا لشهر رمضان المبارك:
التهيئة الإيمانية التعبُّديَّة:
• التوبة الصادقة أولًا، والإقلاع عن الذنوب والمعاصي، وترك المنكرات، والإقبال على الله، وفتح صفحة جديدة بيضاء نقية.
• الإكثار من الدعاء: (اللهم بلغنا رمضان)؛ فهو من أقوى صور الإعانة على التهيئة الإيمانية والروحية.
• الإكثار من الصوم في شعبان؛ تربيةً للنفس واستعدادًا للقدوم المبارك.
• العيش في رحاب القرآن الكريم، والتهيئة لتحقيق المعايشة الكاملة في رمضان، وذلك من خلال تجاوُز حدِّ التلاوة في شعبان لأكثر من جزء في اليوم والليلة، مع وجود جلسات تدبُّر ومعايشة القرآن.
• تذوُّق حلاوة قيام الليل من الآن بقيام ركعتين كل ليلة بعد صلاة العشاء، وتذوُّق حلاوة التهجد والمناجاة في وقت السحر بصلاة ركعتين قبل الفجر مرةً واحدةً في الأسبوع على الأقل.
• تذوُّق حلاوة الذكر، وارتع في (رياض الجنة) على الأرض، ولا تنسَ المأثورات صباحًا ومساءً، وأذكار اليوم والليلة، وذكر الله على كل حال.
تهيئة العزيمة بالعزم على:
• فتح صفحة جديدة مع الله.
• جعل أيام رمضان غير أيامنا العادية.
• عمارة بيوت الله وشهود الصلوات كلها في جماعة، وإحياء ما مات من سنن العبادات؛ مثل: المكث في المسجد بعد الفجر حتى شروق الشمس، والمبادرة إلى الصفوف الأولى وقبل الأذان بنية الاعتكاف؛ إلخ.
• نظافة الصوم مما يمكن أن يلحق به من اللغو والرفث.
• سلامة الصدر.
• العمل الصالح في رمضان، واستحضار أكثر من نية من الآن، ومن تلك النيات: نية التوبة إلى الله، ونية فتح صفحة جديدة مع الله، ونية تصحيح السلوك وتقويم الأخلاق، ونية الصوم الخالص لله، ونية ختم القرآن أكثر من مرة، ونية قيام الليل والتهجد، ونية الإكثار من النوافل، ونية طلب العلم، ونية نشر الدعوة بين الناس، ونية السعي إلى قضاء حوائج الناس، ونية العمل لدين الله ونصرته، ونية العمرة، ونية الجهاد بالمال…؛ إلخ.
9- جاهد نفسك:
منع النفس من بعض ما ترغب فيه من تَرَفِ العيش، والزهد في الدنيا وما عند الناس، وعدم التورط في الكماليات من مأكل ومشرب وملبس، كما يفعل العامة عند قدوم رمضان.
التدريب على جهاد اللسان فلا يرفُث، وجهاد البطن فلا يستذل، وجهاد الشهوة فلا تتحكم، وجهاد النفس فلا تطغى، وجهاد الشيطان فلا يمرح.
إن معالجة النفس ومجاهدتها من أعظم أنواع الجهاد؛ لأنه جهاد يستغرق العمر كله، وإذا طال الأمد ضعُفت النفس؛ فاحتاجت إلى مجاهدة أكثر؛ يقول سفيان الثوري رحمه الله: “ما عالجتُ شيئًا أشد عليَّ من نفسي، مرة لي، ومرة عليَّ”، وكان عمر رضي الله عنه يخاطب نفسه، ويقهرها حتى لا تجمح به فتخرجه عن الجادة، دخل حائطًا فبدأ يخاطب نفسه ويحاسبها؛ قال أنس رضي الله عنه: فسمعته يقول: “عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، بخ بخ، والله يا بن الخطاب، لَتتقِيَنَّ الله أو ليعذبنك”.
فإن الإنسان قد يجاهد غيره، لكنه قد ينسى نفسه التي تحتاج إلى جهاده، فيذرها تركب هواها، وتنال مطلوبها، ولا يحسب أنها تحتاج إلى مجاهدة، ويرى أنه على أحسن حال، أو على الأقل ليس أسوأ الناس، وهذا يقعده عن المجاهدة، فيسير في الردى، ويوشك أن يهلك؛ وفي هذا المعنى قال عليٌّ رضي الله عنه: “أول ما تنكرون من جهادكم أنفسكم”، ولما سأل رجلٌ عبدَالله بن عمر رضي الله عنهما، عن الجهاد، قال رضي الله عنه: “ابدأ بنفسك فجاهدها، وابدأ بنفسك فاغزُها”.
10- إياك والتسويف:
إن في حرصه عليه الصلاة والسلام على الإكثار من الصيام في شهر شعبان لَدرسًا عمليًّا لكل مسلم، مفاده أن يحرص على البدء بالخير مبكرًا، وأن يسارع إليه متقدمًا، وأن يحذر التسويف والتأجيل، ولا يعتاد التباطؤ والتأخير، وليس ذلك خاصًّا بالصيام فحسب، ولكن لأنه أخص أعمال رمضان، كان هو المذكور والمنصوص عليه من فِعْلِ الحبيب عليه الصلاة والسلام، وإلا فإن في رمضان أعمالًا صالحةً كثيرةً، وفرصًا للخير عظيمةً، من صيام وقيام، وتلاوة ودعاء، وصدقة وتفطير وإطعام، وإذا كان تجار الدنيا يبادرون بالتأهب قبل كل موسم بما يناسبه، ويتجهزون مع دخوله بالبضاعة اللائقة للتكسُّب وطلب الربح، فكذلك ينبغي أن يكون تجار الآخرة، بل يجب عليهم ألَّا يتكاسلوا، ويقتل التسويف عزائمَهم، ويُميت هِمَمَهم، وما أحب أحدهم أن يأتيه في رمضان من عمل صالح، وما نوى التقرب به إلى ربه في ذلك الشهر العظيم، فليبدأ بالتجهز له من الآن، فإن أحدنا لا يدري هل يبلغ رمضان أم لا يبلغه، ولَأنْ يقبِضَ الله روح المؤمن وهو يترقب موسم الخير بكل شوق وصدق، متجهزًا له تجهز الصادقين، آخذًا له عُدَّتَه كفعل العاملين خير من أن يُؤخَذ على غِرَّة، وتُفْلِت نفسه وهو في غفلة، وكم من نية للخير صادقة، بلغت صاحبها منازل أهل الخير، وإن هو لم يعمله لعذر أو مانع!
ألا فاتقوا الله: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]، كونوا مع الصادقين في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، وتجنَّبوا الكسل والفتور، والمقاصد السيئة، والنوايا الباطلة؛ فإن الصِّدْقَ يهدي إلى البِرِّ، وإن البِرَّ يهدي إلى الجنة؛ وقد قال ربكم جل وعلا: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد: 21]؛ قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “ليس للعبد شيءٌ أنفع من صدقه ربَّه في جميع أموره… ومن صدق الله في جميع أموره، صنع الله له فوق ما يصنع لغيره”.
وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سأل الله الشهادة بصدقٍ، بلَّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه»؛ (رواه مسلم).
أخي: هذا شعبان، موسم من مواسم الاستعداد لرمضان، فاللهَ اللهَ في تقديم كل خير، والله الله بالمساهمة في كل بِرٍّ، والعزيمة العزيمة والمبادرة المبادرة لكل غنيمة.
فالبِدارَ البِدارَ، والمسارعة المسارعة، فإن السابقين إلى الخير والطاعة في الدنيا، هم السابقون في دخول الجِنان في الآخرة، وكلما غفل الناس عن الطاعة وتركوها وزهِدوا فيها، كان ذلك أدعى للمسلم المريد وجهَ ربِّه لِأنْ يحرِصَ عليها، ويحتسب الأجر في إقامتها.
نسأل الله العظيم أن يوفقنا للعمل الصالح، وأن يبلغنا شهر رمضان ونحن في صحة وعافية.
________________________________________________________
الكاتب: رمضان صالح العجرمي
Source link