هذه الآية الكريمة من الموازين القرآنية المهمة في اتخاذ المواقف من الآخرين إذا صدرت منهم مخالفة أو قعود عن أمر أو خطأ في اجتهاد ونحو ذلك من الأمور، فإنهم إن كانوا محسنين فما من سبيل إلى لومهم أو عقابهم.
هذه الآية الكريمة من الموازين القرآنية المهمة في اتخاذ المواقف من الآخرين إذا صدرت منهم مخالفة أو قعود عن أمر أو خطأ في اجتهاد ونحو ذلك من الأمور، فإنهم إن كانوا محسنين فما من سبيل إلى لومهم أو عقابهم.[1]
وقد جاء هذا النص القرآني في سياق قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْـمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْـمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 91 وَلا عَلَى الَّذِينَ إذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة: 91، 92]، قال ابن كثير رحمه الله: ثم رد الله تعالى الملامة على الذين يستأذنونك في القعود وهم أغنياء، وأنَّبَهم في رضاهم بأن يكونوا مع النساء الخوالف في الرحال[2]، يعني قوله تعالى: {إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْـخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [التوبة: 93].
فهذا أول المعاني التي يومئ إليها قوله تعالى: {مَا عَلَى الْـمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ}؛ وهو أن من تخلف عن أمر اضطرارًا أو لعذر وهو في نفسه محسن ناصح لله ورسوله صادق النية والعزيمة على فعل الأمر لولا الضرورة التي حالت بينه وبينه، ولم يعمد إلى تثبيط غيره، ولم يطمع في مشاركة غيره له في هذا التخلف وإقراره عليه؛ فهذا لا سبيل إلى لومه، والحرج عنه مرفوع ولذلك يُتسامح معه ومع أمثاله.
قال ابن كثير رحمه الله: «بيّن تعالى الأعذار التي لا حرج على من قعد معها عن القتال، فذكر منها ما هو لازم للشخص لا ينفك عنه؛ وهو الضعف في التركيب الذي لا يستطيع معه الجلاد في الجهاد، ومنه العمى والعرج ونحوهما، ولهذا بدأ به. ومنها ما هو عارض بسبب مرض عنَّ له في بدنه، شغله عن الخروج في سبيل الله، أو بسبب فقره لا يقدر على التجهيز للحرب، فليس على هؤلاء حرج إذا قعدوا ونصحوا في حال قعودهم، ولم يرجفوا بالناس ولم يثبطوهم وهم محسنون في حالهم هذا، ولهذا قال: {مَا عَلَى الْـمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: ١٩][3].
وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن بالمدينة أقوامًا ما قطعتم واديًا، ولا سرتم مسيرًا، إلا وهم معكم» قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: «نعم حبسهم العذر» [4].
وقال ابن العربي في هذه الآية إنها: «أقوى دليل على قبول عذر المعتذر بالحاجة والفقر عن التخلف في الجهاد إذا ظهر له من حاله صدق الرغبة مع دعوى المَعجَزة، كإفاضة العين وتغيُّر الهيئة، لقوله: {تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} ويدل على أنه لا يلزم الفقير الخروج في الغزو والجهاد تعويلًا على النفقة في المسألة، حاشا ما قاله علماؤنا – يعني المالكية – دون سائر الفقهاء: لأن ذلك إذا كان له عادة لزمه ذلك»[5].
ومن المعاني أيضًا التي فهمها السلف من هذه الآية التفريق بين المسيء المعترف بذنبه[6] المقر بالإساءة المشفق منها، والمسيء المستهين بإساءته أو غير المقرِّ بها.
قال الأوزاعي رحمه الله: خرج الناس إلى الاستسقاء فقام فيهم بلال بن سعد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا معشر من حضر: ألستم مقرين بالإساءة؟ قالوا: اللهم نعم، فقال: اللهم إنا نسمعك تقول: {مَا عَلَى الْـمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ} اللهم وقد أقررنا بالإساءة فاغفر لنا وارحمنا واسقنا، ورفع يديه، ورفعوا أيديهم فسُقوا[7].
واستنبط القاضي ابن العربي رحمه الله من هذه الآية قاعدة فقال: «وهذا عموم ممهّد في الشريعة أصل في رفع العقاب عن كل محسن»[8].
كما دلت هذه الآية على أن من قام بعمل ضروري للمسلمين وقت تخلي الآخرين عنه أو اعتذارهم عن القيام به لعدم قدرة أو نحوه، فقام به مع نقص في الجودة أو وقوع خطأ منه أو زلة فلا ينبغي أن تناله سهام النقد بألسنة حداد ودون رحمة أو تقدير لإحسانه، وهذا كما نرى في كثير من الأوقات حين تكاد تتعطل شعيرة من شعائر الإسلام كالجمعة وغيرها، فيغيب الإمام مثلًا عن خطبة الجمعة ويعتذر الجميع عن القيام بها فيقوم رجل فيصعد المنبر في وقت أحجم فيه الجميع، وهو في ذلك محسن بلا شك – وقد تأمَّر خالد بن الوليد رضي الله عنه في بعض السرايا من غير إمرة للضرورة – فإذا به يُفاجأ بعد الخطبة بتوجيهات مكثفة من الجميع واستدراكات والإشارة إلى هفوات وقعت في الخطبة، دون شكر له أو تقدير على تحمله المسؤولية التي كان لا بد أن يتحملها أحدهم، فأين كانت قدراتهم وعلمهم وألسنتهم وقت الورطة؟!
أقلوا عليهم من اللوم لا أبا لأبيكم
أو سدوا من الخلل مثل الذي سدوا[9]
واستنبط الرازي منها أصل براءة الذمة فقال: {مَا عَلَى الْـمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ}: هذا بعمومه يقتضي أن الأصل في حال كل مسلم براءة الذمة، وعدم توجه مطالبة الغير عليه في نفسه وماله، فيدل على أن الأصل في نفسه حرمة القتل إلا لدليل منفصل، والأصل في ماله حرمة الأخذ إلا لدليل منفصل، وأن لا يتوجه إليه شيء من التكاليف إلا لدليل منفصل؛ فتصير هذه الآية بهذا الطريق أصلًا معتبرًا في الشريعة في تقرير أن الأصل براءة الذمة[10].
ومن مكملات معنى هذه الآية في ميزانها هذا قوله تعالى: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الشعراء: 183]؛ أي أن نعترف بما لهم من رصيد خيري قدموه يستحقون عليه الشكر والعرفان منا، إذ «لا يشكر الله من لا يشكر الناس» كما في الحديث الصحيح[11].
وكذلك من مكملاتها قوله تعالى: {وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] وأحد معانيها: الإقرار بفضل من حاز سبب فضلٍ؛ من علم أو جهاد أو إنفاق أو سابقة، والتعامل معه باحترامه وتقديمه بمقدار فضله[12].
وتجتمع كل هذه المعاني المتقاربة لتقرر أن أصل التعامل مع أهل الإحسان ترجيحهم على غيرهم ممن لا إحسان لهم أو ممن تكون درجتهم في الإحسان أقل؛ في الإمارات والتوليات إن تساووا في الشروط الأخرى، وأنهم إن كانت منهم هفوة لم يعاقبوا[13]، وإن وقعوا في تقصير أو إبطاء لم يعاتبوا، إلا بإيماء ربما، وأمثال ذلك، وبهذا يفتي مفتي الدعوة، ويقضي حاكم المحكمة الدعوية، وهو سلوك القائد معهم أيضًا[14]، والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] انظر أحكام القرآن لابن العربي (2/995).
[2] تفسير ابن كثير (التوبة 93).
[3] تفسير ابن كثير (التوبة 91،92).
[4] فتح الباري (7/732) ومسلم (1911)، وذكر ابن أبي حاتم في تفسيره (6/1863) الحديث مرسلًا عن الحسن، ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد خلّفتم بالمدينة أقوامًا، ما أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم واديًا، ولا نلتم من عدو نيلًا، إلا وقد شركوكم في الأجر» ثم قرأ: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة: 92] الآية.
[5] أحكام القرآن لابن العربي (2/995).
[6] قال تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِـحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 102].
[7] ابن أبي حاتم(6/1862).
[8] أحكام القرآن(2/995).
[9] وفي الحديث الشريف «والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران»، (أجر القراءة وأجر المشقة)، رواه البخاري (244) ومسلم (4937) واللفظ له.
[10] تفسير الرازي (16/128).
[11] صحيح الجامع الصغير 7719.
[12] والسنة شاهدة بذلك كما في قوله صلى الله عليه وسلم في قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه في الصحيحين: «وما يدريك، لعل الله اطَّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» صحيح الجامع الصغير 7126، وقوله صلى الله عليه وسلم في عثمان رضي الله عنه لما أنفق نفقة كبيرة: «ما ضرَّ عثمان ما فعل بعد اليوم» صحيح سنن الترمذي للألباني (3/208-209) رقم 2920.
[13] وفي الحديث «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود» صحيح الجامع الصغير 1158.
[14] أصول الإفتاء والاجتهاد التطبيقي في نظريات فقه الدعوة الإسلامية للشيخ محمد أحمد الراشد (1/296-297).
Source link