منذ حوالي ساعة
وصلاة الليل: لها نور في الوجه، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الناس، وهي تقوي الجسم والأعصاب، وتجعل الجسم ذا منعة وصلابة، وتُباعد عنه الأمراض فشَمِّرُوا سواعد الجد في هذه العشر ختام الشهر،
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والصلاة والسلام على أشرف النبيين محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وعلى آله وأصحابه دعاة الهدى والحق، الذين نصروا هذا الدين وبذلوا فيه أغلى أموالهم ونفوسهم، فرضي الله عنهمْ أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد كان قيام الليل فرضًا في أول الإسلام ثم حُوِّلَ من الفرضية إلى السنية، أما نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – فقد صار واجبًا في حقه، وقد داوم عليه إلى أن رفع إلى الرفيق الأعلى.
وأفضل الأعمال الصلاة، وأفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل، وقد جاء ربيعة بن مالك الأسلمي إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «سَلْ يَا رَبِيْعَةُ»، فقال ربيعة: أسألك يا رسول الله مرافقتك في الجنة، فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «أَوَ غَيرَ ذَلِكَ»؟، يعني: أَوَ لَا تسأل عن شيء غير هذا؟، فقال ربيعة: لا أسألك غير هذا، فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بَكَثْرَةِ السُّجُودِ» [2]، (رواه مسلم).
فهذا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا يطلب من إنسان يريد مثل أجر النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؛ لا يطلب منه إلا أن يزيد في ركوعه وسجوده، وأن يحيي ليله بالتعبد والتهجد، فعند ذلك يصاحبهم في الجنة ويكون له مثل أجرهم ومثل ثوابهم.
وعباد الله الصالحون وأنبياؤه وخلفاؤهم كانوا يحيون لياليهم وأوقاتهم بالعبادة، وقد قال تبارك وتعالى في وصفهم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة: 16].
وقد قال الصحابي الجليل عبد الله بن رواحة في وصف رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:
يَبِيتُ يُجَافِى جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ ** إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالمُشْرِكِينَ المَضَاجِعُ
وقد أثنى الله على هذه الأمة في التوراة وفي الإنجيل وفي القرآن، ووصفها بكثرة العمل لله وكثرة السجود لوجهه الكريم، والإخلاص لله والاحتساب عنده جزيل الثواب وهو الجنة وَرِضَى الله تعالى، فقال جلَّ من قائل حكيم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح: 29].
ثم ذكر بعد ذلك أنهم يُعرفون بإضاءة وجوههم وحسن سيرهم وأخلاقهم من أثر عبادتهم، فقال تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29].
وكون عمل المرء وما أسرَّه يظهر على وجهه سواءً أكان نورًا أم ظلمة، أمر معروف متقرر عند سائر الناس، كما قال أمير المؤمنين خليفة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عثمان بن عفان رضي الله عنه: (ما أسرَّ أحدٌ سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه)[3].
وروي في ذلك آثار عديدة عن السلف الصالح أنهم قالوا: (من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار)، وروي عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مثل ذلك، ولكن الصحيح أنه موقوف[4].
وصلاة الليل: لها نور في الوجه، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الناس، وهي تقوي الجسم والأعصاب، وتجعل الجسم ذا منعة وصلابة، وتُباعد عنه الأمراض، قال ابن القيم: (ما أصيب اثنان بمصيبة أو حادثة إلا كان حظ صاحب الصلاة منهما أقل من صاحبه وأيسر)[5].
وحكمة القيام في الليل هو أنه أهدأ للأصوات، وأقرع للقلب لتدبر آيات الله وترتيلها، وأربح للضمير؛ لأن الأشغال والتكسب إنما تكون غالبًا في النهار، كما قال تعالى: {إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا} [المزمل: 7]؛ ولأن عبادة الليل بعيدة عن الرياء المحبط للأعمال، ولأنه أقرب لإجابة الدعاء، كما روى مسلم والبخاري أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «يَنزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنيَا حِينَ يَبْقَى مِنَ اللَّيلِ ثُلُثُهُ، فَيَقُولُ: مَنَْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُني فَأَعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُني فَأَغْفِرَ لَهُ» ؟[6]، (متفق عليه).
فيا أيها المسلمون:
شَمِّرُوا سواعد الجد في هذه العشر ختام الشهر، واستنوا بسنة نبيكم محمد عليه أفضل صلاة وأزكى تحية فقد روت عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا دخلت العشر شد مئزره، وأيقظ أهله، وأحيا ليله[7]، وصحَّ عنه صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: «الْتَمِسُوا لَيْلَةَ القَدْرِ في العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ» [8].
فبادروا بالعمل، يرحمكم الله ويرضى عنكم ويثيبكم جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، وتداركوا ما أضعتم في أيامكم السالفة، فإنما الأعمال بالخواتيم، وجدوا واجتهدوا في عبادة ربكم فما تنال المعالي قط بالكسل، قال الشاعر:
إذا نام غِرٌّ في دُجَى الليلِ فاسْهَر ** وقم للمعالي والعوالي فَشَمِّر
نعم أيها الإخوة!
بادروا بالسعي واغتنموا الفرصة قبل فوات وقتها، وما تقدموا لأنفسكم من خير وعمل صالح فستجدونه محفوظًا لكم مسجلًا باسمكم، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8].
أيها المسلمون:
ازرعوا خيرًا؛ لكي تحصدوا جزاءكم كاملًا موفورًا، وتباعدوا عن الشرور والآثام؛ فإنها لا تثمر إلا شرًّا ووبالًا، قال الشاعر:
مَا ينالُ الخَيْرُ بالشَّرِّ ولا ** يَحْصِدُ الزَّارِعُ إلاَّ مَا زَرَعْ
وابتعدوا عن الكسل فما كان لكسول أن يربح في دنيا ولا في آخرة، كما قال الشاعر:
ليس البطالةُ والكَسَل ** بالجالِبَيْنِ لك العَسَـــــلْ
فاعمَلْ فإنَّ الله قـــد ** حثَّ المطيعَ على العَمَلْ
فأخلصوا أعمالكم لربكم، وثبتوا عزائمكم، وكونوا عباد الله إخوانًا على البر والتقوى، لا على الإثم والعدوان، واقتدوا بسلفكم الصالح فنعم القدوة هم، لقد شغلوا أوقاتهم بالصلاة والقيام ليلًا، والتسبيح والذكر نهارًا، لقد شُغِلُوا بعبادتهم فصارت لهم نسبًا، وعرفوا بها وعرفت بهم، كما قال الشاعر:
وإِذا تناسَبَتِ الرجالُ فما أرى *** نسبًا يكونُ كصالحِ الأعمالِ
أسأل الله العلي القدير أن يتقبل منا الصيام والقيام وسائر الأعمال، والله أعلم وأحكم، وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من كتاب رسالتان في القدر والربا ومقالات متنوعة للمؤلف.
[1] كلمة ألقيت في إحدى المساجد بتاريخ: 25/9/1375هـ. [2] أخرجه مسلم برقم (489)، عن ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه. [3] أورده شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (18/272)، وفي الجواب الصحيح (6/487)، وابن مفلح في الآداب الشرعية (1/177)، وابن كثير في تفسيره (3/550). [4] أخرجه ابن ماجه برقم (1333)، من حديث ثابت بن موسى، عن شريك، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر مرفوعًا. قال السخاوي في المقاصد الحسنة: لا أصل له، وإن روي من طرق عند ابن ماجه بعضها، وأورد الكثير منها القضاعي وغيره، وجاء في سنن ابن ماجة: حدثنا إسماعيل بن محمد الطلحى قال: حدثنا ثابت بن موسى عن شريك عن الأعمش عن أبى سفيان عن جابر قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: من كثرت صلاته… قال ابن العربي: هو مدسوس على وجه الغلط، وقد اتفق أئمة الحديث: ابن عدي والدارقطني والعقيلي وابن حبان والحاكم على أنه من قول شريك لثابت، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (5816). [5] ذكر ابن القيم رحمه في روضة المحبين (1/221) ما يفيد هذا المعنى. [6] أخرجه البخاري برقم (1145)، ومسلم برقم (758)، عن أبي هريرة رضي الله عنه. [7] أخرجه البخاري برقم (7494)، ومسلم برقم (1174)، عن أبي هريرة رضي الله عنه. [8] أخرجه البخاري برقم (2020)، ومسلم برقم (1169)، عن عائشة رضي الله عنها.
______________________________________________________
الكاتب: الشيخ محمد بن صالح الشاوي
Source link