إنه يوم طويل الوقوف، الشمس فوق الرؤوس دانية، الخلق أعياهم التعب، وعلاهم العَرَق، وتقطَّعت أكبادهم من الظمأ، حتى باقي أولي العزم من الرُّسُل يقول كل منهم: نفسي نفسي…
المرء منا يستيقظ كل صباح على صوت منبِّه أو نداء حبيب يوقظه لصلاة أو دوام مدرسي أو موعد وظيفة أو للاستمتاع بيوم إجازة سعيد، وقد تَعوَّد أن يرى- أول ما تتفتح عيناه- وجه أمه أو أبيه أو زوجه أو أحد أولاده وعلى مُحيَّاه ابتسامة حانية، يبدؤه بالسلام والتحية بأعذب الكلمات، فتدب الطمأنينة في النفس، وتمضي في يومك ذاك سعيدًا مبتهجًا.
ولكن هناك استيقاظ آخر يومًا ما، من نوع مختلف، تختلف ظروفه وحيثياته.
قد مضت عليك السنون، وعلاك التراب، تستيقظ على صوت مفزع جَهْوَري، إنها النفخة، تقوم فزعًا خائفًا، تفتح عينيك لترى التراب يواري جسدك العاري، تنفضه عنك بيديك، تنتفض من قبرك، ترى وجوهًا لا تعرفها وأناسًا تنكرهم.
أحوال الأرض قد تغيَّرت، الأرض تبدَّلت، والسماء انكدرت وتشقَّقَت، أين الجبال الرواسي؟! أين البحار والأنهار؟! أين الزرع والأشجار؟! الجبال نُسِفت وصارت كالعِهْن المنفوش، والبحار سُجِّرت واشتعلت، والعشار عُطِّلت، ذهبت زينة الدنيا ورونقها، وأخرجت الأرض أثقالها، حينها يقول الإنسان: ما لها؟!
ترى الفزع والهلع على أوجه الخلق، الكل مثلك يتمنَّى لو يرى قريبًا أو حبيبًا، تبحث عنهم ولكن هيهات، حتى لو رأيتهم الكل في همِّه مشغول، وعن مودَّتك بخطاياه مذهول، ولمعرفة مصيره متلهِّف قلق مضطرب.
سعت الخُطا حثيثةً إلى مكان معلوم، ومحشر مورود، اجتمع الأوَّلون والآخرون، والبيض والسُّود، المؤمنون والعصاة، الإنس والجان، والوحش والطير. يا له من موقف عظيم عصيب! تجتمع فيه الخلائق كافةً على صعيد واحد لا يحصي عددهم إلا الله وحده.
أين المصير؟! وإلامَ الحال والمآل؟! ومتى يحل الحساب؟! عرش الرحمن جل جلاله منصوب، الخلائق واجمون، كل بما قدمت يداه مشغول، يود لو يفديه أحدهم بحسنة أو يأخذ عنه سيئة، أين الأم الحانية والأب الرؤوم؟! أين الصاحبة الوفية؟! وأين فلذات الأكباد؟! أين الأهل والخلَّان؟! لقد تفرَّقوا عنك وتركوك لمصيرك، قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 34 – 37].
لقد تقطَّعت الأواصر، وانعدمت الصلات، الكل يقول: نفسي نفسي، حتى أكرم الخلق على الله وصفوته من خلقه رُسُله الكِرام يقولون: نفسي نفسي. يجيء الخلق لأبيهم آدم عليه السلام يقولون له: اشفع لنا عند ربك، فيقول: نفسي نفسي.
إنه يوم طويل الوقوف، الشمس فوق الرؤوس دانية، الخلق أعياهم التعب، وعلاهم العَرَق، وتقطَّعت أكبادهم من الظمأ، حتى باقي أولي العزم من الرُّسُل يقول كل منهم: نفسي نفسي، فينتهون إلى خاتم النبيين والرسل محمد صلى الله عليه وسلم فيخر تحت العرش ما شاء الله له، إلى أن يأذن له ربُّ العزة؛ فيشفع للخلائق أجمعين ببدء الحساب والعرض على ربِّ الأرباب.
قبل ذلك انظر إلى هؤلاء القوم، إنهم في ظل ظليل تحت العرش، من هم يا ترى؟! إنهم السبعة الذين يظلُّهم الله في ظلِّ عرشه يوم لا ظِلَّ إلا ظله، انظر هناك كذلك، إنه رجل في ظل صدقته إلى أن يقضي الله بين العباد!
ها قد بدأ الحساب والعرض، وعما قليل تتطاير الصُّحُف، فالسعيد من تناول كتابه بيمينه، والشقي من أخذه بشماله أو من وراء ظهره. وتبدأ فصول فصل القضاء، ويصير المكلفون إلى فريقين لا ثالث لهما: فريق في الجنة، وفريق في السعير.
جعلنا الله وإياكم إخوتي من السعداء الآمنين الفائزين بجنات النعيم في ذلك اليوم العصيب، آمــــــــــــــــــين.
Source link