هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ
بسم الله الرحمن الرحيم
{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41) }
{هُنَالِكَ} أصل: هنالك، أن يكون إشارة للمكان، وقد يستعمل للزمان وقيل بهما في هذه الآية.. أي في ذلك المكان الذي وجد فيه ذلك الرزق عند مريم.
وقال بعضهم: هذا اسم إشارة إلى المكان. واللام للبعد والكاف حرف خطاب؛ والإشارة هنا يحتمل أن تكون للزمن أي في ذلك الزمن، ويحتمل أن تكون للمكان، أي في ذلك المكان الذي هو محراب مريم.
قال ابن عاشور: “أي في ذلك المكان، قبل أن يخرج، وقد نبهه إلى الدعاء مشاهدة خوارق العادة مع قول مريم: {إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37] والحكمة ضالة المؤمن، وأهل النفوس الزكية يعتبرون بما يرون ويسمعون، فلذلك عمد إلى الدعاء بطلب الولد في غير إبانه، وقد كان في حسرة من عدم الولد كما حكى الله عند في سورة مريم.
وأيضا فقد كان حينئذ في مكان شهد فيه فيضا إلهيا. ولم يزل أهل الخير يتوخون الأمكنة بما حدث فيها من خير، والأزمنة الصالحة كذلك، وما هي إلا كالذوات الصالحة في أنها محال تجليات رضا الله.
وسأل الذرية الطيبة لأنها التي يرجى منها خير الدنيا والآخرة بحصول الآثار الصالحة النافعة. ومشاهدة خوارق العادات خولت لزكريا الدعاء بما هو من الخوارق، أو من المستبعدات، لأنه رأى نفسه غير بعيد عن عناية الله تعالى، لاسيما في زمن الفيض أو مكانه، فلا يعد دعاؤه بذلك تجاوزا لحدود الأدب مع الله على نحو ما قرره القرافي في الفرق بين ما يجوز من الدعاء وما لا يجوز”.
وعن جَابِرٌ يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَعَا فِي مَسْجِدِ الْفَتْحِ ثَلَاثًا: يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَيَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، فَاسْتُجِيبَ لَهُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ [أي الظهر والعصر]، فَعُرِفَ الْبِشْرُ فِي وَجْهِهِ. قَالَ جَابِرٌ: “فَلَمْ يَنْزِلْ بِي أَمْرٌ مُهِمٌّ غَلِيظٌ، إِلَّا تَوَخَّيْتُ تِلْكَ السَّاعَةَ، فَأَدْعُو فِيهَا فَأَعْرِفُ الْإِجَابَةَ “
[قال المنذري في الترغيب والترهيب: رواه أحمد والبزار وغيرهما، وإسناد أحمد جيد، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: حسن. أ هـ، ورواه البخاري في “صحيح الأدب المفرد” لكن الشيخ شعيب الأرنؤوط قال في تحقيق المسند: إسناده ضعيف، كثير بن زيد ليس بذاك القوي، خاصة إذا لم يتابعه أحد، وقد تفرَّد بهذا الحديث عن عبد الله بن عبد الرحمن بن كعب، وهذا الأخير في عداد المجاهيل]
قال الإمام ابن تيمية – رحمه الله – في “اقتضاء الصراط”: وهذا الحديث يعمل به طائفة من أصحابنا وغيرهم، فيتحرون الدعاء في هذا، كما نقل عن جابر ولم يُنقل عن جابر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أنه تحرى الدعاء في المكان بل في الزمان.
وقال البيهقي في “شعب الإيمان“: ويتحرى للدعاء الأوقات والأحوال والمواطن التي يرجى فها الإجابة تماما، فأما الأوقات فمنها ما بين الظهر والعصر من يوم الأربعاء.
وقال الشيخ حسين العوايشة في “شرح صحيح الأدب المفرد”: فاستُجيب له بين الصلاتين مِنْ يوم الأربعاء: قال شيخنا (أي: الألباني) حفظه الله مجيباً سؤالي عن ذلك: لولا أَنَّ الصحابي -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أفادنا أَنَّ دعاء الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في ذلك الوقت من يوم الأربعاء كان مقصوداً، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب وليس الخبر كالمعاينة، لولا أَنَّ الصحابيّ أخبَرنا بهذا الخبر؛ لكنّا قُلْنا هذا قد اتفق لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَّنه دعا فاستجيب له، في ذلك الوقت من ذلك اليوم. لكن أَخذ هذا الصحابي يعمل بما رآه من رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوماً ووقتاً ويستجاب له. إِذاً هذا أمرٌ فهمناه بواسطة هذا الصحابي وأَنّه سنّةٌ تعبدية لا عفوية. انتهى كلامه.
{دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} فإنه لما رأى هذا الخارق العظيم لمريم، وأنها ممن اصطفاها الله، ارتاح إلى طلب الولد واحتاج إليه لكبر سنه، ولأن يرث منه ومن آل يعقوب -كما قصه تعالى في سورة مريم- ولم يمنعه من طلب كون امرأته عاقراً، إذ رأى من حال مريم أمراً خارجاً عن العادة، فلا يبعد أن يرزقه الله ولداً مع كون امرأته كانت عاقراً، إذ كانت حنة قد رزقت مريم بعدما أيست من الولد.
** وفيه إثبات القياس؛ لأنه لما رأى أن الله يرزق هذه المرأة بدون سبب معلوم علم أن الذي يسوق لها الرزق وهي منقطعة عن التكسب في محرابها قادر أن يرزقه، فيكون الانتقال من الشيء إلى نظيره، وهذا هو نفس القياس؛ إذن هو استدل أو أخذ من هذه القصة عبرة وهو أن يسأل الله أمراً وإن كان مستبعداً .
** وفيه أن جميع الخلق مفتقرون إلى الله، حتى الأنبياء لا يستغنون عن دعاء الله؛ لقوله: {دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ}
** وفيه دلالة على أن يتوخى العبد بدعائه الأمكنة المباركة والأزمنة المشرفة.
** وفيه أن الصيغة التي يتوسل بها غالباً في الدعاء هي اسم الرب لقوله (ربه)، ولم يقل: (الله)، ولهذا تجد أكثر الأدعية مصدرة بالرب؛ لأن إجابة الداعي من مقتضى الربوبية لأنها فعل، وكل الأفعال من مقتضى الربوبية، فلهذا يتوسل الداعي دائماً باسم الرب، كما في الحديث الذي رواه مسلم: (ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ..)
{قَالَ رَبِّ هَبْ لِي} الهبة هي التبرع بالشيء بلا عوض.. لكن قال العلماء: إن هناك صدقة، وهدية، وهبة: فالصدقة ما أريد به ثواب الآخرة. والهدية: ما أريد به التودد والتقرب بين المهدي والمهدى إليه .والهبة ما قصد به مجرد انتفاع الموهوب له.
{مِنْ لَدُنْكَ} من عندك، وأضاف العنـدية إلى الله -عز وجل- ليكون أبلغ وأعظم؛ لأن «هدية الكريم أكرم».
وفي الحديث الذي رواه البخاري عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي قَالَ: (قُلْ اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي إِنَّك أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)
{ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} صالحة.. وفيه أنه لا ينبغي للإنسان أن يسأل مطلق الذرية؛ لأنهم قد يكونون نكداً وفتنة، وإنما يسأل الذرية الطيبة.
** وفيه أنه ينبغي للإنسان أن يفعل الأسباب التي تكون بها ذريته طيبة، ومنها الدعاء؛ دعاء الله، وهو من أكبر الأسباب، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى عن الرجل يبلغ أشده أنه يقول: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:15]، ولا شك أن صلاح الذرية أمر مطلوب؛ لأن الذرية الصالحة تنفعك في الحياة وفي الممات؛ لقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ) [رواه الترمذي وقال هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ]
وهذه الجملة شرح للدعاء وتفسير له، وناداه بلفظ: {رب}، إذ هو مربيه ومصلح حاله، وجاء الطلب بلفظ: {هب}، لأن الهبة إحسان محض ليس في مقابلتها شيء يكون عوضاً للواهب، ولما كان ذلك يكاد يكون على سبيل ما لا تسبب فيه: لا من الوالد لكبر سنه، ولا من الوالدة لكونها عاقراً لا تلد، فكان وجوده كالوجود بغير سبب، أتى هبة محضة منسوبة إلى الله تعالى بقوله: {مِنْ لَدُنْكَ} لدن، لما قرب.. أي من جهة محض قدرتك من غير توسط سبب.
{إِنَّكَ سَمِيعُ} مجيب {الدُّعَاءِ} والدعاء: هو سؤال العبد ربه حاجته إما بجلب
منفعة وإما بدفع مضرة.
لما دعا زكريا ربه بأنه يهب له ولداً صالحاً، أخبر بأنه تعالى مجيب الدعاء. عبر بالسماع عن الإجابة إلى المقصد، واقتفى في ذلك أثر جده الأعلى إبراهيم عليه السلام إذ قال: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء} [إبراهيم:39] فأجاب الله دعاءه ورزقه على الكبر كما رزق إبراهيم على الكبر، وكان قد تعود من الله إجابة دعائه.
قيل: وذكر تعالى في كيفية دعائه ثلاث صيغ: أحدها: هذا، والثاني: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} [مريم:4] والثالث: {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء:89]
وهذه الحكاية في هذه الصيغ إنما هي بالمعنى، إذ لم يكن لسانهم عربياً، ويدل على أنه دعاء واحد متعقب بالتبشير، العطف بالفاء في قوله: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ} {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء:90]
** وفيه أن التوسل إلى الله تعالى بأسمائه المناسبة للحاجة؛ لقوله: {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ}، أي مجيبه، وهكذا ينبغي أن تكون الأسماء التي يتوسل بها الإنسان في دعائه مناسبة للمدعو به، فالداعي بالمغفرة يتوسل باسم الغفور وبالرحمة، والداعي بالرزق يتوسل باسم الرزاق وهكذا، ويدل لهذا أيضاً قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:۱۸۰]
وقوله: {فَادْعُوهُ بِهَا}، يتناول دعاء المسألة ودعاء العبادة؛ دعاء المسألة أن تجعلها وسيلة لدعائك، ودعاء العبادة أن تتعبد الله تعالى بمقتضاها، فإذا علمت أنه سبحانه (غفور) فتعرض لمغفرته، وإذا علمت أنه (رحيم) كذلك وهكذا.
** وفيه إثبات سمع الله وكرم الله وقدرته على الإجابة، فهنا زكريا يقول: {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء}، وقال إبراهيم: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم:٣٩]
{فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ} الفاء للتعقيب أي استجيبت دعوته للوقت.
قيل: النداء يستعمل في التبشير وفيما ينبغي أن يسرع به وينهى إلى نفس السامع ليُسَر به، فلم يكن هذا إخباراً من الملائكة على عرف الوحي، بل نداءً كما نادى الرجل الأنصاري: كعب بن مالك، من أعلى الجبل. كما في البخاري وغيره: “فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي وَضَاقَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أَوْفَى عَلَى جَبَلِ سَلْعٍ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ أَبْشِرْ قَالَ فَخَرَرْتُ سَاجِدًا وَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ وَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلَاةَ الْفَجْرِ فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا وَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ وَرَكَضَ إِلَيَّ رَجُلٌ فَرَسًا وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ فَأَوْفَى عَلَى الْجَبَلِ وَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنْ الْفَرَسِ فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي نَزَعْتُ لَهُ ثَوْبَيَّ فَكَسَوْتُهُ إِيَّاهُمَا بِبُشْرَاهُ وَاللَّهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا”.
والمناداة عامة تكون للتبشير وللتحزين ولغير ذلك، كقوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} [غافر:36] وكما جاء في الحديث: (يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ) [مسلم] وإنما فهمت البشارة في الآية من قولهم: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ} لا أن لفظ نادته يدل على ذلك، لا بالوضع ولا بالاستعمال.
وفي الكلام حذف تقديره: فتقبل الله دعاءه، ووهب له يحيى، وبعث إليه الملائكة بذلك، فنادته جماعة من الملائكة.
ويجوز أن يكون الذي ناداه ملكا واحدا وهو جبريل عليه السلام، وإنما قيل الملائكة على قولهم: فلان يركب الخيل، لا يريد خصوصية الجمع، إنما يريد مركوبه من هذا الجنس. يعني: إن الذي ناداه هو من جنس الملائكة. وقد ثبت التصريح بهذا في إنجيل لوقا، فيكون إسناد النداء إلى الملائكة من قبيل إسناد فعل الواحد إلى قبيلته كقولهم: “قتلت بكر كليبا”.
وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف: فناداه الملائكة على اعتبار المنادي واحدا من الملائكة وهو جبريل.
{وَهُوَ قَائِمٌ} جملة حالية والمقصود من ذكرها بيان سرعة إجابته؛ لأن دعاءه كان في صلاته. ومقتضى قوله تعالى: {هُنَالِكَ} إن قلنا أنها للمكان، والتفريع عليه بقوله فنادته أن المحراب محراب مريم.
{يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} المحراب مكان الصلاة أو مكان العبادة، وسمي بذلك؛ لأنه مكان حرب الشياطين، فإن العبادة حرب للشياطين.
ذكر البغوي أن زكريا كان الحبر الكبير الذي يقرب القربان، ويفتح باب المذبح، فلا يدخلون حتى يؤذن. فبينما هو قائم يصلي في المحراب، يعنى المسجد عند المذبح، والناس ينتظرون أن يؤذن لهم في الدخول، إذا هو برجل عليه ثياب بيض، ففزع منه، فناداه، وهو جبريل: يا زكريا! إن الله يبشرك.
{أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ} البشارة هي الإخبار بما يسر، وسميت بذلك لتأثر البشرة بالخبر؛ لأن الإنسان إذا بُشِّر بما يسره يفرح ويظهر ذلك على وجهه، كما روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها- قَالَتْ دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ مَسْرُورٌ [وفي رواية تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ] فَقَالَ: (يَا عَائِشَةُ أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا الْمُدْلِجِيَّ [ينتهي نسبه إلى بني مدلج قبيلة من قبائل بني كنانة قيل سمي مجززاً لأنه كان يجز نواصي أسرى الحرب أو لحاهم ويتركهم وكانت بني مدلج مشهورة بالقيافة] دَخَلَ عَلَيَّ فَرَأَى أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَزَيْدًا وَعَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ قَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا فَقَالَ إِنَّ هَذِهِ الْأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ)
وفيه اعتبار «الْقِيَافَة»: وهو اعتبار الأشباه لإلحاق الأنساب، ولولا أن قوله ذلك صادر عن علم يلزم التعلق به لما سُر به النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والله أعلم وأحكم.. فقد زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زيد بن ثابت بمولاته أم أيمن «بركة الحبشية» وكانت حبشية سوداء فولدت له أسامة بن زيد، فكان أسامه بن زيد حب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وابن حبه، لكن كان أسامة بن زيد أسود مع أن أباه كان أبيض، فكانت قريش تطعن في نسبه، ولما جاء مجزز ورأى زيد بن حارثة وابنه أسامة بن زيد وقد غطيا رؤوسهما ووجوههما ببُرد وأقدامهما بادية مع أن أقدام زيد بيضاء وأقدام أسامة بن زيد سوداء فلكن لما نظر إليها قال إن هذه الأقدام بعضها من بعض فلذلك دخل النبي – صلى الله عليه وسلم – على عائشة مسروراً تبرق أسارير وجهه إذ كان في قول مجزز رد على المشركين الذين يطعنون في نسبه.
كما أن الإخبار بما يسوء بشرى؛ لأن البشرة تتأثر بذلك أيضا، ومنه قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:٣٤]، وقوله تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:١٣٨]
وتبليغ البشارة على لسان الرسول إلى المرسل إليه ليست بشارة من الرسول، بل من المرسل. ألا ترى إضافة ذلك إليه في قوله: {يُبَشِّرُكَ} وقد قال في سورة مريم: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} [مريم:7] فأسند ذلك إليه تعالى.
{بِيَحْيَى} معرب يوحنا بالعبرانية، فهو عجمي لا محالة نطق به العرب على زنة المضارع من حيي. وقتل يحيى -عليه السلام- في كهولته بأمر هيرودس قبل رفع المسيح بمدة قليلة.
والمعنى: يبشرك بولادة يحيى منك ومن امرأتك، والذي عليه كثير من المفسرين أنهم لاحظوا فيه معنى الاشتقاق من الحياة. وقال قتادة وغيره: إنما سُمِّي يحيى لأن الله تعالى أحياه بالإيمان.
{مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ} أي: بعيسى ابن مريم، لأن عيسى كلمة من الله، وسمي بذلك لأنه كان بكلمة الله ولم يكن من أب كما يكون البشر، قال الله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران:٥٩]
فكان يحيى أوّل من صدق بعيسى وشهد أنه كلمة من الله، وكان يحيى أكبر من عيسى بستة أشهر، وقتل قبل رفع عيسى، وكانت أمّ يحيى تقول لمريم: إني لأجد الذي في بطني يسجد، وفي رواية: يومي برأسه لما في بطنك، فذلك تصديقه، وهو أول التصديق.
وقيل: مصدقا بكتاب من الله التوراة والإنجيل وغيرهما، أوقع المفرد موقع الجمع، فالكلمة اسم جنس، وقد سمت العرب القصيدة «كلمة».. روي أن الحويدرة ذُكر لحسان، فقال: لعن الله كلمته، أي قصيدته. وفي الحديث: (إِنَّ أَصْدَقَ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ) [مسلم]
** وفيه الثناء على من صدّق المرسلين؛ لقوله: {مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ} فإن الله تعالى قال ذلك على سبيل الثناء على يحيى، ولا شك أن من صدق من قامت البينات على صدقه فإنه محمود حتى في الأمور الدنيوية، وأما إذا صدق من لم تقم البينة على صدقه فهذا استعجال، وأما إذا صدق من قامت البينة على كذبه فهذا خبال وسفه في العقل وضلال في الدين.
قال ابن عاشور: ولا شك أن تصديق الرسول، ومعرفة كونه صادقا بدون تردد، هدى عظيم من الله لدلالته على صدق التأمل السريع لمعرفة الحق، وقد فاز بهذا الوصف يحيى في الأولين، وخديجة وأبو بكر في الآخرين، قال تعالى: {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر:33]
{وَسَيِّدًا} السيد من ساد غيره وشرف عليه بالعلم والدين والخلق والمعاملة.. فيكون جامعاً لصفات الكمال الممكنة في المخلوق.
قال ابن عاشور: والسيد فيعل من ساد يسود إذا فاق قومه في محامد الخصال حتى قدموه على أنفسهم، واعترفوا له بالفضل. فالسؤدد عند العرب في الجاهلية يعتمد كفاية مهمات القبيلة والبذل لها وإتعاب النفس لراحة الناس.. وكان السؤدد عندهم يعتمد خلالا مرجعها إلى إرضاء الناس على أشرف الوجوه، وملاكه بذل الندى، وكف الأذى، واحتمال العظائم، وأصله الرأي، وفصاحة اللسان.
قال ابن عباس: السيد الكريم. وقال قتادة: الحليم. وقال الضحاك: السيد الحكيم المتقي. وقال سعيد بن المسيب: هو الفقيه العالم. وقال عطية: السيد في خلقه ودينه. وقال عكرمة: من لا يغلبه الغضب. وقال الضحاك: الحسن الخلق. وقال سالم: التقي. وقال ابن زيد: الشريف. وقال أحمد بن عاصم: الراضي بقضاء الله. وقال الخليل: المطاع الفائق أقرانه. وقال أبو بكر الورّاق: المتوكل. وقال الترمذي: العظيم الهمة. وقال الثوري: السيد مَن لا يحسد من قولهم: «الحسود لا يسود». وقال أبو إسحاق: السيد الذي يفوق في الخير قومه. وقال سلمة عن الفراء: السيد المالك، والسيد الرئيس، والسيد الحكيم، والسيد السخي.
وفي حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (يَا بَنِي سَلَمَةَ مَنْ سَيِّدُكُمُ الْيَوْمَ؟) قَالُوا: الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ، وَلَكِنَّا نُبْخِلُهُ، قَالَ: (وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى مِنَ الْبُخْلِ؟ وَلَكِنَّ سَيِّدَكُمْ عَمْرُو بْنُ الْجَمَوحِ) [الأدب المفرد للبخاري بنحوه] وسمى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أيضاً سعد بن معاذ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- سيداً في قوله: (قوموا إلى سيدكم). أي رئيسكم والمطاع فيكم.
والسيد في اصطلاح الشرع من يقوم بإصلاح حال الناس في دنياهم وأخراهم معا، وفي الحديث النبوي: (أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ) [الترمذي]
وسمي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الحسن بن علي: سيداً في قوله: (إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ يُصْلِحُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [سنن البيهقي] فقد كان الحسن -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- جامعا لخصال السؤدد الشرعي، وحسبك من ذلك أنه تنازل عن حق الخلافة لجمع كلمة الأمة، ولإصلاح ذات البين.
ووصف يحيى –عليه السلام- بالسيد لتحصيله الرئاسة الدينية من صباه، فنشأ محترما من جميع قومه، قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً} [مريم:12-13]
وقال الزمخشري: “السيد الذي يسود قومه أي يفوقهم في الشرف. وكان يحيى قائماً لقومه، قائماً للناس كلهم في أنه لم يرتكب سيئة قط، ويا لها من سيادة!”.
وقال ابن عطية: خصه الله بذكر السؤدد، وهو الاعتمال في رضا الناس على أشرف الوجوه، دون أن يوقع في باطل، وتفضيله: بذل الندى وهو الكرم، وكف الأذى وهي العفة في الفرج واليد واللسان، واحتمال العظائم وهنا هو الحلم من تحمل الغرامات وجبر الكسير والإنقاذ من الهلكات.
وقال ابن عمر: ما رأيت أسود من معاوية؟ قيل له: وأبو بكر وعمر؟ قال: هما خير منه، ومعاوية أسود منهما! انتهى كلامه.. قال ابن عطية: أشار إلى أن أبا بكر وعمر كانا من الاستصلاح وإقامة الحقوق بمنزلة هما فيها خير من معاوية، ولكن مع تتبع الجادة، وقلة المبالاة برضا الناس ينخرم فيه كثير من خصال السؤدد، ومعاوية قد برز في خصال السؤدد التي هي الاعتمال في إرضاء الناس على أشرف الوجوه ولم يواقع محذورا.
وفي قوله: {وَسَيِّدًا} دلالة على إطلاق هذا الاسم على من فيه سيادة، وهو من أوصاف المدح. ولا يقال ذلك للظالم والمنافق والكافر. ففي سنن أبي داود عنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَا تَقُولُوا لِلْمُنَافِقِ سَيِّدٌ فَإِنَّهُ إِنْ يَكُ سَيِّدًا فَقَدْ أَسْخَطْتُمْ رَبَّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ) [صححه الألباني]
وفي المستدرك عن عبد الله بن بريدة عن أبيه -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إذا قال الرجل للمنافق يا سيد فقد أغضب ربه تبارك وتعالى) [هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وحسنه الألباني]
وما جاء من قوله {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} [الأحزاب:67] فعلى ما في اعتقادهم وزعمهم.
وما جاء في حديث وفد بني عامر من قولهم لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “أنت سيدنا وذو الطول منا”، فقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (السيد هو الله، تكلموا بكلامكم)، فمحمول على أنه رآهم متكلفين لذلك، أو كان ذلك قبل أن يعلم أنه سيد البشر.
فعن أبي العلاء -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال: وفدت في بني عامر إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فقالوا: يا رسول الله، أنت سيدنا، وذو الطول منا، فقال: (مه مه، قولوا بقولكم، لا يستجرينكم الشيطان، فإنما السيد هو الله) [معرفة الصحابة لأبي نعيم]
{وَحَصُورًا} هو الذي لا يأتي النساء مع القدرة على ذلك، وإيراد الحصور وصفاً في معرض الثناء الجميل إنما يكون عن الفعل المكتسب دون الجبلة في الغالب، والذي يقتضيه مقام يحيى -عليه السلام- أنه كان يمنع نفسه من شهوات الدنيا من النساء وغيرهن، ولعل ترك النساء زهادة فيهن كان شرعهم إذ ذاك.
قال ابن عياض: عدم القدرة على النكاح نقص، وإنما الفضل في كونها موجودة ثم قمعها: إما بمجاهدة كعيسى أو بكفاية من الله عز وجل، كيحيى -عليه السلام-. ثم هي حق من أقدر عليها وقام بالواجب فيها ولم تشغله عن ربه درجة علياء، وهي درجة نبينا محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، الذي لم يشغله كثرتهن عن عبادة ربه، بل زاده ذلك عبادة، بتحصينهن وقيامه عليهن، واكتسابه لهن، وهدايته إياهن. بل قد صرّح أنها ليست من حظوظ دنياه هو، وإن كانت من حظوظ دنيا غيره، فقال: (حُبِّبَ إليَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ) [البيهقي والنسائي].
قال ابن عاشور: وذكر هذه الصفة في أثناء صفات المدح إما أن يكون مدحا له، لما تستلزمه هذه الصفة من البعد عن الشهوات المحرمة، بأصل الخلقة، ولعل ذلك لمراعاة براءته مما يلصقه أهل البهتان ببعض أهل الزهد من التهم، وقد كان اليهود في عصره في أشد البهتان والاختلاق، وإما ألا يكون المقصود بذكر هذه الصفة مدحا له لأن من هو أفضل من يحيى من الأنبياء والرسل كانوا مستكملين المقدرة على قربان النساء فتعين أن يكون ذكر هذه الصفة ليحيى إعلاما لزكريا بأن الله وهبه ولدا إجابة لدعوته، إذ قال: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي} [مريم:5-6] وأنه قد أتم مراده تعالى من انقطاع عقب زكريا لحكمة علمها، وذلك إظهار لكرامة زكريا عند الله تعالى. ووسطت هذه الصفة بين صفات الكمال تأنيسا لزكريا وتخفيفا من وحشته لانقطاع نسله بعد يحيى.
وقيل: الحصور الذي لا يدخل مع القوم في الميسر. فاستعير لمن لا يدخل في اللعب واللهو. وقد روي أنه: مر وهو طفل بصبيان فدعوه إلى اللعب، فقال: ما للعب خُلقت.
{وَنَبِيًّا} هذا الوصف الأشرف، وهو أعلى الأوصاف، فذكر أولاً الوصف الذي تبنى عليه الأوصاف بعده، وهو: التصديق الذي هو الإيمان، ثم ذكر السيادة وهي الوصف يفوق به قومه، ثم ذكر الزهادة وخصوصاً فيما لا يكاد يزهد فيه وذلك النساء، ثم ذكر الرتبة العليا وهي: رتبة النبوّة.
وفي هذه الأوصاف تشابه من أوصاف مريم عليها السلام، وذلك أن زكريا لما رأى ما اشتملت عليه مريم من الأوصاف الجميلة، وما خصها الله تعالى به من الخوارق للعادة، دعا ربه أن يهب له ذرية طيبة، فأجابه إلى ذلك، ووهب له يحيى على وفق ما طلب، فالتصديق مشترك بين مريم ويحيى، وكانت مريم سيدة بني إسرائيل بنص الرسول في حديث فاطمة، وكان يحيى سيداً، فاشتركا في هذا الوصف.
وكانت مريم عذراء بتولاً لم يمسسها بشر وكان يحيى لا يقرب النساء. وكانت مريم أتاها الملك رسولاً من عند الله وحاورها عن الله بمحاورات حتى زعم قوم أنها كانت نبية، وكان يحيى نبياً، وحقيقة النبوّة هو أن يوحي الله إليه، فقد اشتركا في هذا الوصف.
{مِنَ الصَّالِحِينَ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون المعنى من أصلاب الأنبياء، كما قال: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} [آل عمران:34]
ويحتمل أن يكون المعنى: وصالحاً من جملة الصالحين. وإنما قلنا ذلك لأن النبوة وصف أعلى من الصلاح، لكن هو في جملة الصالحين، فالنبوة صلاح وزيادة والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً} [النساء:٦٩]، فالصالحون في المرتبة الرابعة .
فإن مراتب الصلاح أربعة: النبوة، والصديقية، والشهادة، والصلاح، هذا إذا ذكرت جميعاً صارت مراتب، وإن لم تذكر جميعاً صار الصلاح عاماً؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: كُنَّا نَقُولُ: التَّحِيَّةُ فِي الصَّلاَةِ، وَنُسَمِّي، وَيُسَلِّمُ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ، فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: (قُولُوا: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَإِنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فَقَدْ سَلَّمْتُمْ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) [مسلم]
كما قال تعالى في وصف إبراهيم -عليه السلام- {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة:130]
وقد قال سليمان -عليه السلام- بعد حصول النبوّة له {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19] قيل: وتحقيق ذلك أن للأنبياء قدراً من الصلاح لو انتقص لانتفت النبوّة، ثم بعد اشتراكهم في ذلك القدر تتفاوت درجاتهم في الزيادة على ذلك القدر، فمن كان أكثر نصيباً من الصلاح كان أعلى قدراً.
وقيل: من الصالحين في الدنيا والآخرة، فيكون إشارة إلى الدوام على الإيمان، والأمن من خوف الخاتمة.
{قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ} هذا باعتبار ما سيكون، والتعبير بما سيكون أمر سائغ في اللغة وارد في القرآن: {قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} [يوسف:٣٦]، يعني أعصر عنباً يكون خمراً؛ لأن الخمر لا يعصر، فعبر عن الشيء بما يؤول إليه.
{لِي غُلاَمٌ} كان قد تقدّم سؤاله به: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} فلا شك في إمكانية ذلك وجوازه: وإذا كان ذلك ممكناً وبشرته به الملائكة، فما وجه هذا الاستفهام؟.
وأجيب بوجوه:
أحدهما: أنه سؤال عن الكيفية، والمعنى: أيولد لي على سن الشيخوخة وكون امرأتي عاقراً؟ أي بلغت سن من لا تلد، وكان قد بلغ تسعاً وتسعين سنة، وامرأته بلغت ثمانياً وتسعين سنة، وقال ابن عباس: كان يوم بشر ابن عشرين ومائة سنة، وقال الكلبي: ابن اثنتين وتسعين سنة.
أم أُعاد أنا وامرأتي إلى سن الشبيبة وهيئة من يولد له؟ فأجيب: بأنه يولد له على هذه الحال.. قال معناه: الحسن، والأصم.
لأنه لما سأل الولد فقد تهيأ لحصول ذلك فلا يكون قوله {أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ} إلا تطلبا لمعرفة كيفية ذلك على وجه يحقق له البشارة، وليس من الشك في صدق الوعد، وهو كقول إبراهيم {لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260]، فأجيب بأن الممكنات داخلة تحت قدرة الله تعالى وإن عز وقوعها في العادة.
الثاني: أنه لما بشر بالولد استعلم: أيكون ذلك الولد من صلبه نفسه أم من بنيه؟.
الثالث: أنه كان نسي السؤال، وكان بين السؤال والتبشير أربعون سنة، ونقل عن سفيان أنه كان بينهما ستون سنة.
الرابع: أن هذا الاستعلام هو على سبيل الاستعظام لقدرة الله تعالى، يحدث ذلك عند معاينة الآيات وهو يرجع معناه إلى ما قاله بعضهم: إن ذلك من شدّة الفرح، لكونه كالمدهوش عند حصول ما كان مستعبداً له عادة.
{وَقَدْ} الواو هذه يسميها العلماء: «واو الحال»؛ يعني أنها تدل على أن الجملة التي بعدها في موضع نصب على الحال، يعني: والحال أنه قد بلغني الكبر.
{بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ} أسند البلوغ إلى الكبر توسعاً في الكلام، كأن الكبر طالب له، لأن الحوادث طارئة على الإنسان، فكأنهما طالبة له وهو المطلوب .
وقيل: هو من المقلوب، كما جاء: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً} [مريم:8].. قال الراغب: إذا بلغت الكبر فقد بلغك الكبر.
جاء على طريق القلب، وأصله وقد بلغت الكبر، وفائدته إظهار تمكن الكبر منه كأنه يتطلبه حتى بلغه، كقوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} [النساء:78].
{وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} يعني لا تحمل، وعاقر لفظ مذكر لكن معناها هنا مؤنث، لأنها تطلق على الذكر والأنثى، يقال: رجل عاقر وامرأة عاقر، وهو الذي لا يولد له أو هي التي عقم رحمها من الكبر.
وهذا تعريض بأن يكون الولد من زوجه العاقر دون أن يؤمر بتزوج امرأة أخرى وهذه كرامة أيضا لامرأة زكريا.
** وفيه جواز وصف الإنسان بما يكره إذا كان المراد مجرد البيان لا القدح والعيب ونظيره أن رسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: (أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ)، وهذا من باب المشورة، لما أخبرته فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها- أن معاوية وأبا جهم خطباها، فلم يقصد الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يعيب الرجل، بل قصد أن يبين حاله ليكون الإنسان على بصيرة .
{قَالَ} أي الملك {كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} الكاف: للتشبيه، و «ذلك»: إشارة إلى الفعل، أي: مثل ذلك الفعل وهو تكوّن الولد بين الفاني والعاقر، يفعل الله ما يشاء من الأفعال الغريبة فيكون إخباراً من الله أنه يفعل الأشياء التي تتعلق بها مشيئته فعلاً، مثل ذلك الفعل لا يعجزه شيء، بل سبب إيجاده هو تعلق الإرادة: سواء كان من الأفعال الجارية على العادة أم من التي لا تجري على العادة. وإذا كان تعالى يوجد الأشياء من العدم الصرف بلا مادة ولا سبب، فكيف بالأشياء التي لها مادة وسبب وإن كان ذلك على خلاف العادة.
فكل ما شاءه الله تعالى فعله؛ لأنه عزّ وجل لا يمنعه مانع، كما نقول نحن في دبر كل صلاة: (اللهمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ) [البخاري]، فالله عز وجل يفعل ما يشاء؛ لأن له المُلك المطلق في خلقه، فلا أحد يمنعه ولا أحد يسأله لم فعلت؟ {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:۲۳]
** وفيه إثبات فعل الله؛ لقوله: {قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} ومذهب أهل السنة والجماعة: إثبات أفعال الله الاختيارية المتعلقة به والمتعدية إلى غيره؛ أفعال الله الاختيارية: يعني التي تقع باختياره، ولا شيء يقع من أفعال الله إلا باختياره، لكن منها شيء متعلق به مثل الاستواء والنزول والضحك والفرح، وأشياء متعلقة بغيره مثل الخلق، فإن الخلق يتعدى إلى الغير، فأهل السنة والجماعة يثبتون النوعين، ويقولون بلا شك: إن الرب الذي يفعل ما يشاء أكمل من الرب الذي لا يستطيع الفعل، وغالب الأشاعرة -إن لم أقل كل الأشاعرة- والمعتزلة ومن ضاهاهم يقولون: إن الله ليس له أفعال اختيارية؛ لا يستوي، ولا ينزل، ولا يجيء، ولا يضحك، ولا يفرح، ولا يحب، ولا يكره.. إلى آخر ما يقولون في نفي الأفعال الاختيارية، وعلتهم أوهى من أي علة حيث قالوا: “إن الحوادث لا تقوم إلا بحادث، والله عز وجل أزلي أبدي” .
فيقال لهم أولاً: من قال لكم أن الحوادث لا تقوم إلا بحادث، فهذا قياس عقلي فاسد فإن الحوادث لا يلزم أن لا تقوم إلا بحادث؛ لأنه من المعلوم أن المُحدث سابق عن الحدث، وإذا كان المحدث سابقاً على الحدث لم يلزم أن يكون المحدث حادثاً، أنت الآن تأكل الغداء اليوم، والغداء اليوم بالنسبة لك حادث وقت حدوثه وأنت موجود من قبل، فالرب عز وجل يفعل الأفعال هذه في وقت فعلها وهو لم يزل موجوداً.
لكن على زعمكم أنتم وعلى مذهبكم الباطل يلزم أن يكون الله سبحانه وتعالى لا يفعل أي فعل معطل عن الأفعال، وهذا عيب؛ لأن من يفعل أكمل ممن لا يفعل باتفاق الناس، وليس يعتري الله عز وجل من إثبات الفعل في حقه أي نقص بأي وجه من الوجوه، والآيات كثيرة في إثبات فعل الله: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [البروج:١٦]، {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:٢٧]. والنصوص في هذا كثيرة، والحمد لله أن أهل السنة والجماعة يؤمنون بها.
{قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} أراد علامة على وقت حصول ما بشر به، وهل هو قريب أو بعيد، فالآية هي العلامة الدالة على ابتداء حمل زوجه.
والآية في اللغة: العلامة، وآيات الله عز وجل كونية وشرعية، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام أيدوا بالآيات الدالة على صدقهم، الآيات الكونية والآيات الشرعية.
وكثير من الناس يسمي آيات الأنبياء «معجزات» وهذه التسمية وإن اشتهرت على الألسن لكن فيها قصوراً، والتعبير الصحيح السليم أن نسميها آيات كما سماها الله، نسمي ما يحصل من خوارق العادات على أيدي الأنبياء؛ نسميها آيات، ولهذا لا تجد آية في القرآن سمى الله فيها هذه الخوارق معجزات أبداً، بل كان يسميها آيات.
والمعجزات لو أخذناها على ظاهرها لشملت ما يأتي به السحرة وما تأتي به الجن؛ لأن ما يأتي به السحرة أو الجن معجز .
** وفيه جواز البحث عما يزيد به الإيمان، وإن كان الإيمان موجوداً، بل قد نقول: وجوب البحث عما يزيد به الإيمان؛ لأن الإنسان مطلوب منه أن يقوي إيمانه بكل وسيلة.
{قَالَ آيَتُكَ} أضافها إلى زكريا مع أنه ليس هو الذي أوجدها، لكن لأنها علامة له.
{أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} بلياليها، بدليل قوله تعالى في سورة مريم: {قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} [مريم:١٠]
{إِلَّا رَمْزًا} إشارة باليد والرأس، أو إيماء: وهو الإشارة لكنه لم يعين بماذا أشار.. وهذا «استثناء منقطع»، إذا الرمز لا يدخل تحت التكليم. لأن الرمز ليس بكلام، ولذلك لو رمز الإنسان في الصلاة لم تبطل صلاته، ولو كانت كلاماً لبطلت؛ لقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: (إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ) [مسلم من حديث مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ]
وقيل: هو «استثناء متصل» وفيه دلالة على أن الإشارة تتنزل منزلة الكلام، وأن الإشارة تقوم مقام العبارة، لأن الكلام هو ما يعبر عما في النفس من قول أو إشارة أو كتابة.
وذلك موجود في كثير من السنة. ففي البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: “عَدَا يَهُودِيٌّ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى جَارِيَةٍ فَأَخَذَ أَوْضَاحًا كَانَتْ عَلَيْهَا [جمع وضح وهو نوع من الحلي يصنع من الفضة سميت بها لبياضها وصفائها] وَرَضَخَ [دق] رَأْسَهَا، فَأَتَى بِهَا أَهْلُهَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهِيَ فِي آخِرِ رَمَقٍ [بقية روح] وَقَدْ أُصْمِتَتْ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَنْ قَتَلَكِ؟ فُلَانٌ؟) لِغَيْرِ الَّذِي قَتَلَهَا. فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَنْ لَا. قَالَ: فَقَالَ لِرَجُلٍ آخَرَ غَيْرِ الَّذِي قَتَلَهَا. فَأَشَارَتْ أَنْ لَا. فَقَالَ: (فَفُلَانٌ؟) لِقَاتِلِهَا فَأَشَارَتْ أَنْ نَعَمْ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَرُضِخَ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ.
فأجاز الإسلام بالإشارة وهو أصل الديانة التي تحقن الدم وتحفظ المال وتدخل الجنة، فتكون الإشارة عامة في جميع الديانات، وهو قول عامة الفقهاء.
فمن لاحظ المعنى قال «الاستثناء متصل» وهذه الفائدة مبنية على أن الإشارة تقوم مقام العبارة لاسيما عند العجز عن التعبير.
ومن لاحظ اللفظ وأن الكلام هو الصوت قال: «الاستثناء منقطع»، ولكن على القولين المعنى واحد، لن يستطيع أن ينطق بلسانه مع الناس ولكن يشير إليهم إشارة.
{وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا} قالت طائفة من المفسرين: لم تكن آفة، ولكنه منع مجاورة الناس، فلم يقدر عليها، وكان يقدر على ذكر الله. فكانت الآية حبس اللسان لتخلص المدة لذكر الله لا يشغل لسانه بغيره، توفراً منه على قضاء حق تلك النعمة الجسيمة وشكرها، وكأنه لما طلب الآية من أجل الشكر قيل له: آيتك أن يحبس لسانك إلاَّ عن الشكر.
وهنا لم يقل له: وإنك ستذكر ربك، بل قال: واذكر ربك، فأمره بذكر الله ليكون ذكره الله تعالى في حال امتناع مكالمة الناس عبادة خاصة خالصة مأموراً بها .
{وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} العشي: آخر النهار، والإبكار: أول النهار، وهذان الوقتان قد أمر الله بذكره فيهما في أكثر من آية، فقال تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه:13] {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق:٣٩] {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} [ص:18] {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الأحزاب:42]
والتسبيح يشمل تنزيه الله عز وجل عن كل ما لا يليق به. فتسبيح الله يكون تنزيها عن أمور ثلاثة: عن صفة النقص، وعن نقص في كمال، وعن مماثلة المخلوقين؛ فصفة النقص كقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان:٥٨]، والنقص في الكمال مثل قوله: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} [البقرة:٢٥٥]، وقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} [ق:٣٨]، ومماثلة المخلوقين مثل قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١]، وقوله: {هَل تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:٦٥]، وقوله: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4]
والتسبيح: يكون بالقول ويكون بالفعل؛ فكل من عبد الله فقد سبحه بالقول وبالفعل وإن لم يكن فيها كلمة: «سبحان» إلا أن العابد تستلزم عبادته المعبود أن يكون كاملاً؛ لأن الناقص لا يمكن للعاقل أن يعبده، فكونه يعبد الله يستلزم أن يكون مقرا له بالكمال مسبحاً له عن النقص.
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
Source link