المسلمُ مأمورٌ أن يجتنبَ الفتن والشُّبهات، وأن يفرِّ منها فِرارهُ من السّباع والمهلكات فسلامةُ الدينِ غاليةٌ، جدُّ غالية، سلامةُ الدينِ لا يعدِلها شيء، بل إنّ أعزَّ ما على المسلم سلامةُ دينِه، وثباتهُ على إيمانه وعقيدته..
الحمدُ للهِ الكريمِ الشّكورِ، الحليمِ الصبورِ، {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك:2]، {لهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [آل عمران:109]..
وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ، وحدهُ لا شريكَ لهُ: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]..
وأشهدُ أن محمدًا عبدهُ ورسولهُ، ومصطفاهُ وخليلهُ، المبعوثُ بالهدى والرحمةِ والنّورِ، صلى اللهُ وسلَّم وباركَ عليه وعلى آله وصحبهِ ذوي الفضلِ المشهورِ، والعملِ المبرورِ، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم البعثِ والنشورِ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا..
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وجالِسُوا مَن مجالِسُهم غنِيمَة، وصاحِبُوا مَن قلوبُهم صافيةً سليمَة، وعاشِرُوا مَن أخلاقُهم حسنةً كريمَة، أولئك كالمِسكِ كلما مرَّ عليه الزمنُ ازدادَوا قِيمَة.. {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]..
معاشر المؤمنين الكرام: في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ظهر رجلٌ اسمهُ صَبيغُ بن عسل، سيدٌ من سادات بني تميم بالعراق، لكنه صاحبُ شُبهات، يضربُ القرآن والأحاديث بعضها ببعض، كقوله إذا كان محمدٌ أفضلَ من عيسى عليهما السَّلام فلا بد أنَّ محمدًا سيعودُ للدنيا مثل عيسى، وفي القرآنِ ما يؤيدُ ذلك: وهو قوله تعالى: {إنَّ الذي فرضَ عليك القرآنَ لرادك إلى معاد} [القصص:85]..
وغيرها من الشبه التي يثيرها بقصد الصيتَ والشّهرة، فلما شاعَ أمرهُ وعلِمَ به أميرُ المؤمنين الفاروق، أمرَ بإحضاره، فلما دخلَ على عمر، قال له: من أنت؟ فقال: أنا عبد الله صَبيغُ بن عسل، فقال الفاروق: وأنا عبد الله عمرُ بن الخطاب، ما وراءك، فأخذَ يطرحُ ما عنده من الشُّبه، وعمرُ يقول: هيه وماذا أيضًا.. وماذا أيضًا.. حتى إذا فرغَ قال: فهل عندك يا أمير المؤمنين إجابةٌ لأسئلتي؟،
فقال عمر رضي الله عنه: نعم سأجيبك حالًا، وكان عمر رضي الله عنه قد أعدَّ له مجموعةً من جريد النّخلِ الأخضر الرطب، فنادى الجلاد وقال له: ياجلاد اجلد، فجلده حتى شجَّ رأسهُ وسالَ دمهُ وأُغمي عليه، ثمَّ ضربهُ على ظهره حتى تسلّخ وسالت دِمائه، ثم حُبسَ في بيتٍ ليُعالج، فلمّا برأَ دعا به فضُربَ ثانيةً حتى تسلّخ ظهره وسالت دِمائه، ثم حبسُ ليعالج، حتى إذا برأ، دعا به للمرة الثالثة، فلما أرادَ أن يضربه، قال صَبيغ: يا أمير المؤمنين: إن كنت تريدُ قتلي، فاقتلني قتلًا جميلًا، وإن كنت تريدُ أن تداويني، فوالله لقد تبت وذهبَ ما بي.. فأعادهُ الفاروقُ إلى العراق، وأمرَ بعدم مجالسته، فلما ضاق به الحال، شكا إلى أبي موسى، وحلفَ له بالأيمان المغلظةِ أنه ما عادَ يجدُ في نفسه شيئًا مما كان.. فكتب أبو موسى لعمر: أن قد حسنت توبته، فسمح للناس بمجالسته، ولكنه لم يزل بعدها وضيعًا في قومه بعد أن كان سيدًا فيهم.. وبعد نهاية عُهودِ الخلافة الراشدة، وعندما ظهرَ المعتزلةُ وأهلُ الكلامِ قيل له: يا صَبيغ قد ظهرَ من يقولُ بقولك فلم لا تنظمُّ إليهم، فتحسَّس ظهرهُ بيده، وقال: لا والله، فقد أدبني الرجلُ الصالح، أدبني الرجلُ الصالح..
أيها الإخوةُ الكرام: استشرافُ الفتن، والتّطلعُ للشبهات، والبحث عن الأمور المحدثة في الدين، آفةٌ خطيرةٌ مِن أخطر الآفاتِ، وبابٌ كبيرٌ من أبواب الشرِّ والهلكات: وسواءً كانَ ذلك من باب الفضولِ القاتل، أو ثقةً بالنفس زائدةً، أو إحسانُ ظنٍ بالمضلين وأهلِ الفتن، أو لأيّ سببٍ كان.. فإنَّ المفتونَ يتنكّرُ للحقّ الذي طالما عرَفَهُ وآمنَ به وأطمأنّ إليه، والسببُ إمَّا شُبهةً نشرها أحدُ أئمَّةِ الضّلال، أو كلمةً مسمُومةً أطلقَها صاحبُ هوىً معسولِ الكلام، أو برنامجَ ضلالٍ بثتهُ إحدى وسائلِ الاعلام، أو حلقةَ مُسلسلٍ أُخرجَ بكلِّ عنايةٍ ليعبثَ بعقائد الناس، ويُشيعَ بينهم البلابلَ والشكوكَ القاتلة..
كيفَ يا عباد الله: والمسلمُ مأمورٌ أن يجتنبَ الفتن والشُّبهات، وأن يفرِّ منها فِرارهُ من السّباع والمهلكات.. وليس هذا من عندي؛ بل هو نصّ كلامِ القرآنِ الكريم وحديثِ سيدِ المرسلين صلى الله عليه وسلم، ففي القرآن الكريم أمرٌ للمسلم أن يبتعدَ عن مجالس الفتنِ والشُّبهات، وإلا فسيكونُ الجالسُ معهم بلا إنكارٍ، له ما لهم من الإثم والسيئات، قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68]، وقال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء:140].. وفي الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سمع بالدجال فلينأ عنه، فوالله إنّ الرجلَ ليأتيه وهو يحسبُ أنه مؤمنٌ فيتَّبعهُ، مما يُبعثُ به من الشُّبهات»، وقال أبو ذر الغفاري، سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «غيرُ الدَّجَّالِ أخْوَفُ على أُمَّتي منَ الدَّجَّالِ»، فقُلْتُ: يا رسولَ اللهِ، أيُّ شيءٍ أخْوَفُ على أُمَّتِكَ منَ الدَّجَّالِ؟، قال: «الأئمَّةُ المُضِلِّينَ..»
والأئمةُ المضلون: هم الذين أشار إليهم الرسولُ صلى الله عليه وسلم بقوله: «إنَّ أخوَفَ ما أخافُ على هذه الأُمَّةِ كُلُّ مُنافِقٍ عَليمِ اللِّسانِ»، صححهُ الألباني، وفي روايةٍ صحيحة: «إنَّ أخوفَ ما أخافُ على أمَّتي الأئمةُ المضلُّونَ»، وفي رواية أخرى صحيحة أيضًا: «إِنِّي لَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي إِلَّا الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ» .. والأئمةُ المضلون: هم الذين أشار إليهم المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديثِ الصحيح: «دُعَاةٌ عَلى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِليْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا» ».. فهم دُّعاةُ شرٍّ وضلال، أوتوا عِلمًا غزيرًا ولسانًا معسولًا.. يظلُ الواحدُ منهم فترةً من الزمن يُسايرُ الناس، ولا يقولُ إلا ما يعرفون، حتى إذا اُشتُهرَ وذاع صيتهُ، وأُطلقت عليه الألقابُ الرّنانة، انقلبَ على عقبيه، وراحَ يُهاجِمُ ثوابت الدين، ويثيرُ الشبهَ والفتن، ويأتي بالشاذِّ من الأقوال والآراء، ويلبِّسُ على الناس دينهم، ويقولُ في دين الله بما لم يأذن به الله، ويطعنُ في صحة النصوص وحُجيتها، ويحرّفُ الكلمَ عن مواضعه، ويشكّكُ في عدالة الصحابةِ والتابعين ورواةِ الحديث.. وغرضهُ من كل هذا بيّنٌ لا يخفى.. {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُون} [الصف:8]، وقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف:175]، وقال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُون} [آل عمران:78]، {فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُون} [البقرة:79]، ويلٌ لهم من خطاياهم وخطايا مِن يُضِلُّون، {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُون} [النحل:25]، وصحَّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «مَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا» ..
فما أخسرَ صفقَتهم، ويا خيبةَ من يستمعُ لهم، ويا هلَكةَ من يقتدي بِهم، ففي الصحيحين قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْحَلالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أمورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ» .. وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ» .. وفي محكم التنزيل: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [يونس:108]، وفي الحديث الصحيح: «مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ المرء تركهُ مالا يَعْنِيهُ» .. و «دع ما يُريبك إلى ما لا يُريبك» .. وقل آمنت بالله ثم استقم.. وقال الصحابي الجليل مصعب بن سعد رضي الله عنهما: لا تجالس مفتونًا؛ فإنه إمّا أن يفتنك فتتابعه، أو يؤذيك قبل أن تفارقه، ويقول التابعي الجليل أبو قلابة: لا تجالسوا أهل الأهواءِ ولا تجادلوهم، فإني لا آمنُ أن يغمسوكم في ضلالتهم، أو يلبِسوا عليكم ما كنتم تعرفون.. ويختصر ذلك الامامُ الحسنُ البصري رحمه الله فيقول: لا تجالس صاحبَ بدعةٍ؛ فإنهُ يُمرضُ قلبك..
فاتقوا اللهَ يا عباد الله: ولا يستخِفَّنَّكم الذين لا يُوقِنُون، ولا يستهوينّكم ما يزخرفون، تثبَّتُوا في دينكم، فهو أغلى ما عندكم، ويا أيها الموفقون: احذَروا أئمةَ الضلال، ومن سمعَ بفتنَةٍ أو شُبةٍ، فليبتعد عنها، وليبحث عن الحقِّ عند علماءِ السلفِ الصالح الذين ما تركوا شيئًا من الدينِ إلا بينوهُ أحسنَ بيان، وفي صحيح البخاري، قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، ولَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أحَدٌ إلَّا غَلَبَهُ» ..
معاشرَ المؤمنين الكرام: سلامةُ الدينِ غاليةٌ، جدُّ غالية.. سلامةُ الدينِ لا يعدِلها شيء، بل إنّ أعزَّ ما على المسلم سلامةُ دينِه، وثباتهُ على إيمانه وعقيدته.. وما من عاقلٍ يُغامرُ بدينه وعقيدتهِ ولو أُعطى الدنيا بكلِّ ما فيها.. والأمرُ يا عباد الله: جديرٌ بالحذر واليقظةِ والانتباه، ففِي الصَّحيحَين: قال صلى الله عليه وسلم: «سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، وَمَنْ يُشْرِفْ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، وَمَنْ وَجَدَ مَلْجًَا أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ» .. فكلَّما كان الانسانُ أبعدَ عن الفتن والشُّبهات، كان ذلك أسْلَمَ لدينه وآمن، كيفَ وهي فتنٌ كقطع الليلِ المظلمِ.. يلتبسُ فيها الحقُ بالباطل، وتدعُ الحليمَ حيران.. فلا نجاةَ منها إلا بالبعد عنها..
وحُقَّ للعاقل أن يتعجب يا عباد الله، كيف يتعاملُ البعضُ مع الفتن والشُّبهاتِ بلا حذرٍ ولا مبالاة.. أإلى هذه الدرجةِ هانَ عليهم دينهُم.. الدينُ الذي هو أغلى وأعزُّ شيءٍ في حياة المسلم، الدينُ الذي لا فوزَ ولا نجاةَ إلا به، يُصبحُ عند البعض هينًا رخيصًا، يُصبحُ قابلًا لأن تُناقشَ أحكامُه، وممكنٌ ألا تُقبلَ بعضُ مُسلماتِه، فأين هم من قول الحقِّ جلَّ وعلا: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء:65]، وقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُستَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُم عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].. وأين هم من الحديث الصحيح، «تُعْرَضُ الفِتَنُ علَى القُلُوبِ كالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فأيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَها، نُكِتَ فيه نُكْتَةٌ سَوْداءُ، وأَيُّ قَلْبٍ أنْكَرَها، نُكِتَ فيه نُكْتَةٌ بَيْضاءُ، حتَّى تَصِيرَ علَى قَلْبَيْنِ، علَى أبْيَضَ مِثْلِ الصَّفا فلا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ ما دامَتِ السَّمَواتُ والأرْضُ، والآخَرُ أسْوَدُ مُرْبادًّا كالْكُوزِ مُجَخِّيًا، لا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، ولا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إلَّا ما أُشْرِبَ مِن هَواهُ» .. وأين هم من الحديث الصحيح: «عَلَيكُم بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ المَهدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُم وَمُحدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحدَثَةٍ بِدعَةٌ، وَكُلَّ بِدعَةٍ ضَلالَةٌ» .. وأين هم من حديث وابصةُ: «يا وابصةُ استَفْتِ قلبَك، البِرُّ ما اطمأنَّت إليه النفسُ، واطمأنَّ إليه القلبُ، والإثمُ ما حاكَ في القلبِ، وتردَّدَ في الصدرِ وإن أفتاك الناسُ وأفتَوْك»، (والحديث صححهُ الألباني) ..
وخلافًا للحذر من الفتن والشُّبهات والبعدِ عنها، وسؤالِ أهلِ العلمِ الثقاتِ عمَّا أشكلَ منها.. فإنَّ هناكَ اسبابًا ووسائلَ تُعينُ المسلمَ بإذن الله على الصبرِ والثبات، وعلى السّلامةِ من فتن الشُّبهات.. أولهَا: المداومةُ على تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّره: فاللهُ جلَّ وعلا يقول: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت:44]، وَقَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان:32]، وقال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا} [النحل:102].. وَمِنْهَا: الدُّعَاءُ: فَلَقَدْ كَانَ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُ رَبَّهُ الثَّبَاتَ فَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ»، وَكَانَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: «اللَّهُمَّ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»، وفي صحيح مسلم: «اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ» وَمِنْ الأسباب الهامّة: صُحْبَةُ الصَّالِحِينَ الثَّابِتِينَ: ففي الحديث الحسن، قَالَ صلى الله عليه وسلم: «الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ»، وفي حديثٍ متفقٍ عليه، قَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسُّوءِ، كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ»، والمعنى أنَّ مَنْ صَاحبَ الثَّابِتِينَ ثَبَتَ بإذن الله، وَمَنْ صَاحَبَ الْمُذَبْذَبِينَ تذبذب معهم..
أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ عِبَادَ اللهِ وَلنستمسِكَ بِديننا العَظِيمِ، وَلنستِقم عَلَى مَنهَجِه القَوِيمِ، وَلنستبشِر ببشرى الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، القَائل: «إِنَّ مِن وَرَائِكُم أَيَّامَ الصَّبرِ، لِلمُتَمَسِّكِ فِيهِنَّ يَومَئِذٍ بِمَا أَنتُم عَلَيهِ أَجرُ خَمسِينَ مِنكُم»، قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ أَو مِنهُم، قَالَ: «بَلْ مِنكُم» والحديث صَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ.. أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [ابراهيم:27]..
ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان..
اللهم صل على محمد….
_____________________________________________________
الكاتب: الشيخ عبدالله محمد الطوالة
Source link