مقالات

معاناة الكبار – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة

أول ما يُعين الشخص كي يَسْلَمَ من الأتعاب النفسية أن يعرف واقعه حقَّ المعرفة، وأن يعرف ظروفه ومحيطه وقدراته.

الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:

فإن الكبار هِمَمُهم كبيرة، وأهدافهم أكبر، وقد يُحاطون بظروف لا تُمكِّنهم من بلوغ أهدافهم، أو تحقيق طموحاتهم، فيُصابون بخيبةِ أمَلٍ، ثم يدخلون في أتعاب نفسية قد تُعيقهم عن حياتهم العادية، فضلًا عن حياة أصحاب الهمم والطموح، وقد يهربون من أنفسهم إلى الضياع في وديان الموبقات النفسية والشرعية.

 

وفي هذه المقالة سأذكر – بحول الله – بعض الأسباب التي تتعب طلبة العلم نفسيًّا، وقد تصدهم عن أهدافهم، وبعض الطرق للتعامل مع هذه الأسباب.

 

• فأول ما وجدتُ أنه يتعب أذهان الكبار أنهم يرسمون حياة في أذهانهم غير موجودة في الواقع، أو لا يمكن تحقيقها في واقعهم هم، وقد يكون بعض ما في أذهانهم متحققًا لغيرهم، إما في الزمن البعيد، أو في مكان آخر، أو في زمنهم وأماكنهم، ولكن في ظروف غير ظروفهم.

 

وقد كان ابن تيمية رحمه الله يذكر في كتبه كثيرًا في حواره مع بعض المخالفين في الوجود في الأذهان، والوجود في الأعيان، ويبين أن “ليس ما في الأذهان يكون موجودًا في الأعيان”، وأن بعض المتفلسفة “يشتبه عليهم ما يتصورونه في الأذهان بما يوجد في الأعيان”.

 

وما يقوله ابن تيمية رحمه الله يصلح أن يكون مقياسًا يقيس به الشخص الأمورَ، فلا يشتبه عليه ما في الذهن بما يمكن تحقيقه في الواقع، فالإنسان إذا جلس مع نفسه، وسبح في خياله، فإنه سيجد حياة كاملة لا منغِّصات فيها، وزوجة كاملة، وأولادًا كاملين، ويتخيل نفسه وهو ممسك بالشهادة والناس تصفق، ويتخيل.. ويتخيل مما هو غير موجود إلا في جنة الخلد.

 

وكثير مما يتخيله ويرسمه في ذهنه لم يتحقق في الواقع لخيرة البشر من الأنبياء، والصحابة، والصالحين.

 

فأول ما يُعين الشخص كي يَسْلَمَ من الأتعاب النفسية أن يعرف واقعه حقَّ المعرفة، وأن يعرف ظروفه ومحيطه وقدراته، وأن يسعى على هذا القدر فقط، فإن حقَّق، فالحمد لله، وإن لم يحقق فسيكون من خيرة الناس في عصره، ويكفيه شرفًا أنه حاول.

 

• ومن الأمور التي تكون سببًا في تعب الكبار، وكثرة إحباطاتهم، أنهم يُكْثِرون القراءة في سِيَرِ الناجحين والعلماء والصالحين، وهذه السِّيَرُ يُكتب فيها أجمل وأفضل ما في حياتهم، فيظل جاهدًا أن يكون مثلهم في كل شيء، حتى في ساعات نومهم ويقظتهم، فإذا وقع منه خطأ أو تقصير، وقارن نفسه بهم، أُصيب بإحباط وضيق، يُعطِّله عن حياته.

 

وإن المكتوب من سِيَرِ كمالات الكبار هو أشبه بما في الذهن، وفي واقعهم أشياء لم تُكتب حبًّا لهم، وحفاظًا على مكانتهم، فلو قُرئت سيرهم بأن فيها جانبَين، وأن ما يقرؤه هو الجانب الأجمل والأكمل، لَتقبَّل المرء نفسه بكل حالاته؛ بكماله ونقصه، ونجاحه وفشله.

 

• وكذلك من الأمور أن المرء يريد أن يجمع نوادر الرجال في نفسه، فهو يقرأ أن فلانًا قام الليل كله أو أكثره، وفلانًا ختم القرآن بركعة، وفلانًا إمام في الحديث، وفلًانا فقيهٌ لا يُشَقُّ له غبار؛ إلخ، فيريد أن يجمع كلَّ هؤلاء في نفسه، فيكون هو كلهم، فإذا أخفق في علم من العلوم، فتجده يتحسر، مع أنه إمام في علم آخر.

 

• ومن الإشكالات عند بعض هؤلاء الكبار عدمُ فَهمِ العبادة حقَّ الفهم، فتجد أنه قائم على أعمال كبيرة تنفع البلاد والعباد، ثم تجده متذمرًا شاكيًا باكيًا؛ لأنه لم يُلقِ درسًا، أو يؤلف كتابًا، أو يقضِ وقته في قراءة الكتب الشرعية.

 

فالقاضي يقوم بعمل جليل، وعبادة عظيمة، فهو يُقيم حكم الله في الأرض؛ وهو العدل، وبقاؤه سبب في بقاء الحياة واستمرارها، فبالعدل تستمر الحياة، ثم تجلس مع قاضٍ يشكو من كونه مشغولًا في قراءة قضية، وتمنى أن يكون مشغولًا في قراءة كتاب يحبه، ولو استشعر أن قيامه بعمله هذا عبودية لله، تَفُوقُ قراءته للكتب، لَما شكا، ولأنجز أعماله بلذة تشبه لذة القائم لله بالنوافل، يصلي أو يطوف، فكلها عبادة، وقد تَفُوق عبادته هذه كثيرًا من نوافل العبادات.

 

وقُلْ مثل ذلك في طالب العلم والطبيب، والمهندس والمدرس، وغيرهم ممن يقوم على أمور المسلمين، فهم في عبادات عظيمة، لو استشعروا ذلك.

 

• ولعل من الأسباب غياب الهدف الأسمى للحياة، فلو راجع هدفه، أو لو سألت أيَّ صاحب همة أو كبيرًا، السؤال الآتي: ما الهدف؟ أو لِمَ تصنع ذلك؟

 

لأجاب: المراد رضا الله تعالى، والفردوس وصحبة النبي صلى الله عليه وسلم.

 

فإن كان هذا الهدف، فإن كثيرًا من الأعمال التي تتذمر منها هي أسرع في دخولك الجنة من الأشياء التي تبكي على فراقها.

 

فقد يكون وقوفك مع المريض أو المظلوم، أو سدك لثغر من ثغور المسلمين خيرًا عند الله من الأمر الذي ندِمتَ على فواته.

 

وإن – والله – من المحزن أن تجد طالبَ علمٍ يجلس مع والديه، يحسب الدقائق كي يغادرهم؛ ليكمل قراءة كتابه، ووالداه قد تعلقت أنفسهما به وبحديثه، وببقائه معهم، وليته يُعيد السؤال على نفسه: ما الهدف من القراءة؟ فحتًما سيكون الجواب في المكان الذي غادره قريبًا، سيكون الجواب في بسمة أمِّه، وانشراح صدر والده.

 

• ومن الأمور التي تسبب التعب النفسي لهؤلاء الكبار كثرةُ المشاريع التي في أذهانهم، مع ضيق الوقت، وحاله كحال الأجهزة التي فتحتَ فيها أكثر من تطبيق، وأعطيتها أكثر من أمر في نفس الوقت، فإنها ستنفد بطاريتها بأسرع وقت، مع ثقلها وضعف استجابتها، وكثرة أعطالها.

 

والأفضل أن يفرِّغ ذهنه من المشاريع، ويكتبها في ورقة عنده، ويرتبها حسب الأهمية، ويسير فيها حسب وقته وظروفه، ويريح نفسه من التفكير فيها، فإن تحققت كلها، فالحمد لله، وإن لم تتحقق، فالحمد لله أيضًا، فمن سلك الطريق بصدقٍ، بلَّغه الله منازل النهايات.

 

ومن الأمور المعينة أن ينتخب المشاريع اللائقة بعلمه ومكانه وقدراته، ويترك المشاريع التي يستطيعها كثير من الناس لهم، فمثلًا: هناك في بعض الوظائف كثيرون يقومون بولاية بعض الإدارات، ووجود صاحب الأهداف الكبيرة فيها لا يختلف عن وجود غيره، إلا بتحقيق شهوات نفسه، لكن هناك في تخصصه ومجاله قلة من يستطيعون تحقيق الدراسات الجادة والمهمة، فالأولَى أن يترك هذه المشاريع لغيره، ويتولى هو المشاريع المهمة والنادرة.

 

ومما يُعين أن هناك كثيرًا من الأعمال التي تؤخر إنجاز المشاريع ليس بالضرورة أن يقوم بها، فلْيُوكِّل أولاده أو أهله أو أحدًا بالقيام بها، كأمور السوق وغيرها.

 

• وأكثر ما يتعب المرء المقارناتُ، وأفضل ما يعمله ألَّا يقارن نفسه بغيره، وإنما يقارن نفسه بنفسه فقط، وأن يعرف نفسه ويتصالح معها، وأن يحقق أهدافه بعيدًا عن المقارنات، وأن يكون صادقًا مع نفسه، فالهدف الذي لا يجد نفسه فيه، وإنما وضعه لأجل أن أصحابه حققوه، فهذا وإن حققه، فلن يجد سعادة ولا ارتياحًا، وإنما يسمع حديثًا من الناس وثناءً على اسمه، دون أن يجد روحه.

 

• ومن الأمور التي تتعب النفس أن يُلزِم نفسه بما ليس بلازم، فتجد أنه يضع لنفسه جدولًا كالآلة الكهربائية التي يتم توقيتها، فتشتغل في الوقت، وتقف في الوقت، فمن ألزمك بهذا؟ ومن أوجب عليك ذلك؟

 

الترتيب شيء مهم وضروري، ولكن ليس بهذه الجدية التي تجعل المرء قلقًا في يومه، فهو من الصباح إلى النوم وهو في دوامة الإنجاز، وأي عائق يسبب له ضيقًا، فيظل يومه يركض، وإذا أتاه واجب من الواجبات الاجتماعية، اعتذر عنه؛ بسبب هذه اللوازم التي لا تلزم.

 

فإن أتاك ضيف وأكرمته بطِيبِ نفسٍ، وإن وقف معك رجل يسألك بعد الصلاة، فقضيتَ حاجته بطيب نفس، أو طلب منك أحد الوالدين طلبًا فقمت فورًا بطيب نفس، فإن هذه الأمور قد تكون خيرَ ما في يومك كله.

 

وهذا الكلام كلُّه عن الهموم المعوِّقة التي تتعب نفوس الكبار وتعطلهم عن أعمالهم، وأما مطلق الهموم فلن تخلو منها نفس، وقد تكون سببًا لأن يُعيد ترتيب حياته، أو لتبين له أنه في الطريق غير الصحيح، أو ليكفر الله ذنبه بهمٍّ خفيف، فمن رحمة الله أنْ جَعَلَ الهموم كفَّاراتٍ للذنوب.

 

وفي الختام على الإنسان أن يتضرع إلى الله، ويتذلل بين يديه أن يُريح باله، وأن يعيذه من الهم والغم والحزن، فإن راحة البال من مقاصد الشريعة، فما نهت عن قول (لو)، إلا لتغلق باب الشيطان الذي يفرح بحزن المؤمن، وليظل باله مرتاحًا، وأعطته عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر، ليكمل طريقه راضيًا عن الله شاكرًا له، مسلمًا مستسلمًا، وعليه أن يدعو الله أن يضعه في المكان الذي يرضى عنه فيه، وأن يرزقه الرضا والشكر، وأن يدعو الله ألَّا يتعب ذهنه ولا جسمه، بعملٍ لا بركة فيه ولا نفع.

 

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

___________________________________________________________

الكاتب: د. مرضي بن مشوح العنزي


Source link

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى