إن قراءة القرآن من أعظم الأعمال الصالحة التي يمكن يتقرب بها المرء إلى الله، وبها يمكن جمع الكثير من الحسنات في وقت قصير وبجهد قليل.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
إن قراءة القرآن من أعظم الأعمال الصالحة التي يمكن يتقرب بها المرء إلى الله، وبها يمكن جمع الكثير من الحسنات في وقت قصير وبجهد قليل. وهجر القرآن من الأمور التي نهى الله عنها وجاء فيها وعيد. فلا ينبغي للمسلم أن يترك قراءته حتى لا يقع في شباك الغفلة والانغماس في ملذات الحياة. وقراءة القرآن توقظ القلب من غفلته وتجنبه مزالق الشيطان. والمداومة والحرص عليه تزيد من إيمان المسلم وتثقل من موازينه وترفع درجته. قال صلى الله عليه وسلم: «يُقالُ لصاحِبِ القرآنِ اقرأ وارتَقِ ورتِّل كما كنتَ ترتِّلُ في الدُّنيا فإنَّ منزلَكَ عندَ آخرِ آيةٍ تقرؤُها» [1]. وقارئ القرآن وحافظه له فضل كبير، لقوله صلى الله عليه وسلم: « (من قرأ القرآنَ وتعلَّمه وعمِل به؛ أُلبِسَ والداه يومَ القيامةِ تاجًا من نورٍ، ضوؤه مثلُ ضوءِ الشمسِ، ويُكسَى والداه حُلَّتانِ لا تقوم لهما الدُّنيا، فيقولان: بمَ كسبْنا هذا؟ فيقال: بأخْذِ ولدِ كما القرآنَ)» [2]. كل هذا الفضل يشجع المسلم للسعي إليه والفوز به. ولقد يسر الله تعالى قراءة القرآن للناس وجعلها سهلة؛ حتى أن بعض الأعاجم الذين لا ينطقون العربية يقرؤونه بالتجويد والإتقان، وقد حفظ كثير منهم كلام الله. وأكثر آيات القرآن سهلة الفهم لمن يجيد العربية ومعظمها مفهوم بالسليقة. وما يحتاج التفسير منها يكون عادة في أسباب النزول والناسخ والمنسوخ. وهناك خصائص تساعد على فهمه وتدبره واستخراج أحكامه، ومنها ما ذكرها علماء القرآن الكريم، مثل معرفة “المحكم والمتشابه والناسخ والعام والخاص والمطلق والمقيد والمنطوق والمفهوم والمجاز والتفسير والتأويل والمكي والمدني وغيرها”[3].
وقد وردت فتاوى منتشرة على الإنترنت بأن قراءة القرآن دون تحريك الشفاه لا تعد قراءة، ولا يكون بها أجر. وكان حجة من قال بذلك أن القراءة لابد فيها من تحريك الشفاه، ودون ذلك تعتبر قراءتهم تفكير. وسألت سائلة قائلة: “منذ أن قرأت هذه الفتوى صار عندي عائق في القراءة لأوقات طويلة. فقد كنت أقرأ القرآن بشكل شبه منتظم ودون عائق. وأنا أحب القرآن وأرغب في الأجر، ولكن يصعب علي تحريك الشفاه في القراءة لأسباب صحية؛ حيث لدي مشكلة في التنفس منذ صغري، ويصعب علي معها التنفس عند القراءة بتحريك الشفاه؛ مما يسبب لي إجهاد كبير يوقفني عن القراءة لأوقات طويلة”. فشجعني سؤالها عن بحث هذا الأمر وتجميع أطرافه عسى الله أن يجعل لها – ولمن لديه مشكلة مماثلة – مخرجاً وحلاً. وابدأ بسم الله في هذه المسألة بما يلي:
أولاً: الناحية اللغوية:
بالبحث عن كلمة “قرأ” في بعض المعاجم اللغوية نجد ما يلي:
- في معجم اللغة العربية المعاصرة: قرأ من “يَقرَأ، قِراءةً وقُرْآنًا، فهو قارئ، والمفعول مَقْروء، قرَأ الكتابَ ونحوَه: أي تتبَّع كلماته نظرًا، نطق بها أوْ لا”[4].
- في معجم الغني: قرأ من “قَرَأْتُ، أَقْرَأُ، اِقْرَأْ، مص. قِرَاءةٌ، قُرْآنٌ قَرَأَ القَصِيدَةَ: نَطَقَ بِكَلِمَاتِهَا الْمَكْتُوبَةِ قَرَأَ آيَاتٍ مِنَ القُرْآنِ: نَطَقَ بِأَلْفَاظِهَا عَنْ نَظَرٍ أَوْ عَنْ حِفْظٍ يَقْرَأُ الكِتَابَ: يَتَتَبَّعُ كَلِمَاتِهِ وَلاَ يَنْطِقُ بِهَا قَرَأَ عَلَيْهِ السَّلاَمَ: أَبْلَغَهُ إِيَّاهُ”[5].
- في الرائد: “قرأ الكتاب: نطق بكلماته أو ألقى النظر عليه وطالعه ولم ينطق بكلماته”[6].
- في المعجم الوسيط: “قَرَأَ الْكتاب قِرَاءَة وقرآنا تتبع كَلِمَاته نظرا ونطق بهَا وتتبع كَلِمَاته وَلم ينْطق بهَا وَسميت (حَدِيثا) بِالْقِرَاءَةِ الصامتة وَالْآيَة من الْقُرْآن نطق بألفاظها عَن نظر أَو عَن حفظ فَهُوَ قَارِئ قراء وَعَلِيهِ السَّلَام قِرَاءَة أبلغه إِيَّاه وَالشَّيْء قرءا وقرآنا جمعهوضم بعضه إِلَى بعض”[7].
مما سبق نرى أن معنى “قرأ كتاب” في اللغة أي تتبع كلماته نظراً، نطق بها أو لا. وهذه أربعة من كتب اللغة ترد على قول “أنه يجب تحريك الشفاه حتى تكون قراءة”. فإذن المعنى في اللغة هو الملاحظة الأولى والأهم في هذه المسألة. ثم هناك أمور أخرى تدعم هذا الرأي وتقويه بعض الشيء، منها ما يلي من ملاحظات:
الملاحظة الأولى
أن الله تعالى أمرنا بقراءة القرآن في قوله تعالى: { (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ)} [8]. والتيسير من اليسر وهو السهولة وما تقدر عليه النفس. والله تعالى ما كان ليأمرنا بما لا نقدر عليه، حيث قال: { (لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)} [9].وإذا كان الأمر بقراءة القرآن لابد أن يكون بتحريك الشفاه واللسان لما استطاع كل الناس قراءته. فهناك الأبكم الذي لا يستطيع الكلام، والمشلول شلل كامل، ومن تمزق عصب الوجه لديه ففقد المقدرة على تحريك عضلات وجهه. وهناك من ينقطع نفسه عند قراءة القران بتحريك الشفاه، فيصعب عليه ذلك كما هو حال السائلة. وهذا فيه مشقة عليهم وبعضهم لا يستطيعه أو يتحمله. فينتج من ذلك هجرهم للقرآن وحرمانهم من الأجر، ولا يجدوا الفرصة التي يجدها الأصحاء ومن يستطيعون القيام بهذا. والإسلام دين اليسر وليس فيه تشديد. قال تعالى: { (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)} [10]. وقال: { (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)} [11]. وقال صلى الله عليه وسلم: «(يَسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا، وسَكِّنُوا ولا تُنَفِّرُوا)» [12].
الملاحظة الثانية:
إذا كانت القراءة تتطلب تحريك الشفاه واللسان فما نسمي فعل الطالب الذي يذاكر دروسه دون صوت؟ هل لأنه لم يحرك شفاهه لا يعتبر أنه قرأ؟ وكذلك ما نسمي فعل من يقرأ بعينيه دون تحريك شفتيه: هل نسميه تفكير؟ الإجابة لا لأن فعله ذلك أكثر من التفكير. فالفكر أمر يتعلق بالمخ دون الحاجة للنظر في كتاب ونحوه.
الملاحظة الثالثة:
أن من يقرأ كتاب بعينيه فإنه يتقدم فيه ويقلب الصفحة تلو الأخرى حتى ينهيه. وإن لم يكن قرأه لما استطاع التقدم أو الوصول لنهاية الكتاب.
الملاحظة الرابعة:
أن من يقرأ كتاب بعينيه يفهمه ويعي عادة جل ما فيه. فكيف له بفهم الكتاب إن لم يكن فعله ذلك يعتبر قراءة.
الملاحظة الخامسة:
أن من يقرأ كتاب دون تحريك شفتيه ولسانه فإن عينيه لا تزالان تتحركان. وهما عضو مثلهما مثل اللسان والشفتين. فهل نتجاهل حركة العينين ونصر على حدوث حركة اللسان والشفتين؟؟ أليس كلاها أعضاء في جسم القارئ؟
الملاحظة السادسة:
أن الناس يجلسون في المكتبات بهدوء للقراءة، وكل منهم منهك في قراءة ما بين يديه. فما بال هؤلاء الأقوام يجلسون في المكتبة إن لم يكونوا يقرأون. هل يجلسون فقط لتضييع الأوقات؟ أم أنهم أتوا المكتبة للتفكير فقط؟ ولو كان التفكير هدفهم فهم لا يحتاجون الذهاب للمكتبة لأجله.
الملاحظة السابعة:
أنهم لو لم يكونوا يقرأون لما احتاجوا الكتب التي يحملونها بأيديهم أو موضوعة أمامهم على الترابيز لقراءتها. ولكن لسان حالهم يقول بغير ذلك لأنهم يحملون تلك الكتب أو يقرأون في أجهزتهم.
الفرق بين القراءة والتفكير والتلاوة
مما سبق نرى أن هناك ثلاث مصطلحات مرت علينا هنا وهي التفكير والقراءة والتلاوة. والفرق بينهم واضح وجلي كما يلي:
- التفكير: وهو إعمال العقل بالتفكر داخله دون الحاجة للجهر به أو تتبع كلمات مكتوبة سواء بالعين أو اللسان أو الشفاه. ولا يحتاج فيه الإنسان لكتاب لأن يقوم به. وهو متيسر للأمي والمتعلم في كل حين من أوقات اليقظة عندما يريد الإنسان.
- القراءة: وهي تتبع كلمات مكتوبة، سواء كان عن طريق النطق بها أو دونه. وتحتاج إلى مكتوب عادة. ويمكن القراءة من المحفوظ في الصدور. وكثيراً ما يكون فيها إعمال العقل بالتفكر في المقروء وهو الغالب. وهناك من يقرأ ويكون ذهنه غائبا عن التفكير فيما يقرأه، كالطالب الذي يقرأ لك صفحة ثم إن سألته ما المفهوم أجاب بأنه لا يدري واعتذر بأنه لم يكن منتبها لما يقرأه بأن يكون ذهنه شاردا في أمر آخر أو فقط غير مركز أو عنده مشكلة في الإبقاء على التركيز كما يحدث مع بعض المرضى مثل مرضى (ADD = Attention Deficit Syndrome) وغيرها.
- التلاوة: هي متابعة الكلمات وقراءتها بصوت، وتكون عادة بالتجويد. وهي تستلزم تحريك العينين واللسان والشفتين بالإضافة إلى الصوت الخارج من الحنجرة. ويفضل أن تكون بالتجويد لإعطاء كل حرف حقه ومستحقه اللازم له. ولتفادي الخطأ في كلام الله وتغيير المعاني لابد من القراءة بالتشكيل والنطق الصحيح للحروف حتى لا يقع القارئ في اللحن الجلي ويأثم بذلك. وقد جاء في حكم التجويد: “تعلم أحكام التجويد نظريًا فرض كفاية، وأما تطبيق الأحكام عمليًا عند التلاوة ففرض عين”[13].
التيسير في قراءة القرآن
لقد يسر الله تعالى على الناس الدين، وسهل لهم قراءة القرآن وفهمه. قال تعالى: { (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ۚ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَىٰ ۙ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ ۙ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ۚ)} [14]. والإسلام دين اليسر. قال تعالى: {(يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)} [15]. وقال: «(يَسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا، وسَكِّنُوا ولا تُنَفِّرُوا)» [16].
أفضلية قراءة القرآن بتحريك الشفاه واللسان والصوت
لا شك أن الأفضلية لقراءة القرآن أن تكون بصوت كما في التلاوة والترتيل. وذلك لأن تحريك اللسان مع العينين أفضل من تحريك العينين فقط. وتحريك اللسان والشفتين والعينين أفضل منها. وقراءة القرآن بصوت مع الثلاثة السابقة أفضل وأعلى وفيه جهد أكثر ويُرجَى به أجر أكبر من الله. وذلك لقوله تعالى: {(وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا)} [17]. وعلى القارئ فهم كلام الله وتدبره حتى يستفيد من القرآن ويتعلم أحكامه وحدوده ويتخذه منهجاً للحياة. قال صلى الله عليه وسلم: «(مَن قرأَ القرآنَ فأعربَهُ فلَهُ بِكُلِّ حرفٍ منه عَشرُ حَسَناتٍ، ومَن قرأَهُ ولحنَ فيهِ فلَهُ بِكُلِّ حرفٍ حَسنةٌ)» [18]. ونقل عن بعض العارفين أنه قال: “الذكر على سبعة أنحاء.. فذكر العينين بالبكاء، وذكر الأذنين بالإصغاء، وذكر اللسان بالثناء، وذكر اليدين بالعطاء، وذكر البدن بالوفاء، وذكر القلب بالخوف والرجاء، وذكر الروح بالتسليم والرضاء”[19]. وقد جاء تفصيل مراتب التلاوة في كتب التجويد كما يلي: “التحقيق وهو تلاوة القرآن بتؤدة واطمئنان مع تدبر المعاني ومراعاة مختلف أحكام التجويد وإعطاء كل حرف حقه ومستحقه مخرجا وصفة. والحدر وهو الإسراع في القراءة مع مراعاة أحكام التجويد. والتدوير ويكون التوسّط بتلاوة القرآن بسرعة متوسطة بين التحقيق والحدر”[20].
الخلاصة:
إذا كان يشق على الإنسان قراءة القرآن والذكر بتحريك الشفاه واللسان فلا بأس له من القراءة دون فعل ذلك حتى لا يتوقف عن القراءة؛ ولقوله تعالى: {(وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)} [21]. وإن كان يستطيعه فالأفضل له فعله. والتلاوة أفضل منهما جميعا. ولابد للقارئ من فعل ما يلزم لجعل قراءته محل قبول من الله عز وجل؛ وذلك بأن يخلص فيها النية لله تعالى وتكون بالكيفية التي شرعها الله تعالى. فينبغي له تعلم تلك الكيفية الصحيحة. ويُفضَّل تعلم القرآن على يد قارئ مجاز حتى يتعلمه بشكل صحيح ويتقن حفظه. فالمعلم ينتبه للحن ويسمع أخطاء لا يسمعها الطالب من نفسه. وتصحيح المعلم يزيد من جودة قراءة الطالب والحفظ. وينبغي للقارئ أن يتعلم التجويد ويتبع قواعده في القراءة وتكون قراءته بالتشكيل.
هذا والله تعالى أعلم. فإن أصبت فمن توفيق الله، وإن اخطأت فمن نفسي ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان. وأرجو أن تنفع هذه الورقة من يجد مشقة من الناس وتيسر عليهم ملازمة الذكر وقراءة القران في كل يوم، وتخرجهم من زمرة الهاجرين لكتاب الله والغافلين عن ذكره. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[1] ذكره الألباني في صحيح أبي داوود (1464)، وقال حسن صحيح. وأخرجه أبو داود (1464) واللفظ له، والترمذي (2914)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (8056)، وأحمد (6799).
[2] ذكره الألباني في صحيح الترغيب (1434)، وقال حسن لغيره. وأخرجه الحاكم (2086).
[3] انظر كتاب مباحث في علوم القرآن، لمناع بن خليل القطان.
[4] معجم اللغة العربية المعاصرة، معنى كلمة قرأ، نقلاً عن (عربي – عربي).
[5] معجم الغني، معنى كلمة قرأ، نقلاً عن (عربي – عربي).
[6] معجم الرائد، معنى كلمة قرأ، نقلاً عن (عربي – عربي).
[7] المعجم الوسيط، معنى كلمة قرأ، نقلاً عن (عربي – عربي).
[13] حكم من تعلم أحكام التجويد ولم يطبقها عند القراءة، الشبكة الإسلامية، فتوى رقم (253360).
[16] أخرجه البخاري (6125)، ومسلم (1734).
[18] ذكره ابن قدامة في الكافي لابن قدامة (1/187)، وقال حسن صحيح.
[20] القرآن الكريم، أحكام التلاوة، مراتب تلاوة القرآن الكريم.
Source link