كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ
{بسم الله الرحمن الرحيم}
{كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) }
{{كَيْفَ}} الاستفهام هنا للاستبعاد، فإنهم آمنوا وعلموا ما في كتب الله، ثم كفروا بعد ذلك بأنبيائهم، إذ عبد اليهود الأصنام غير مرة، وعبد النصارى المسيح، وقد شهدوا أن محمدا صادق لقيام دلائل الصدق، ثم كابروا، وشككوا الناس. وجاءتهم الآيات فلم يتعظوا، فلا مطمع في هديهم بعد هذه الأحوال، وإنما تسري الهداية لمن أنصف وتهيأ لإدراك الآيات دون القوم الذين ظلموا أنفسهم.
كما روى أحمد عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- « أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شُجَّ فِي وَجْهِهِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، وَرُمِيَ رَمْيَةً عَلَى كَتِفَيْهِ، فَجَعَلَ الدَّمُ يَسِيلُ عَلَى وَجْهِهِ، وَهُوَ يَمْسَحُهُ عَنْ وَجْهِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: (كَيْفَ تُفْلِحُ أُمَّةٌ فَعَلُوا بِنَبِيِّهِمْ، وهو يَدْعُوهُمْ إِلَى اللهِ؟)»
{{يَهْدِي اللَّهُ}} إلى الإيمان واتباع الحق.. والهداية الخروج من الضلال، وهي هداية خاصة ناشئة عن عناية الله بالعبد ولطفه به، وإسنادها إلى الله ظاهر.
{{قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ}} نزلت في أهل الكتاب آمنوا بالتوراة والإنجيل وفيهما ذكر محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فغيروه وكفروا بعد إيمانهم بنبوّته.. قاله الحسن.
وقيل: هم يهودُ قُريظةَ والنَّضِير ومَنْ دان بدينهم كفروا بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد أن كانوا مؤمنين به قبل مَبْعثِه.
{{وَشَهِدُوا}} عطفٌ على {{بعد إيمانهم} } كما في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً} [الحديد:18]
{{أَنَّ الرَّسُولَ}} محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.. (ال) للعهد الذهني؛ لأنه لم يسبق له ذكر، لكنه معلوم ذهناً، فـ «ال العهدية» تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
1/ العهد الذكري: أن تكون داخلة على ما سبق ذكره، مثل قوله تعالى: {{إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ}} [المزمل:15-16]
2/ العهد الحضوري: أن تكون داخلة على شيء حاضر. وهذه أكثر ما تكون في (ال) الواقعة بعد اسم الإشارة للحضور، للعهد الحضوري؛ لأن الإشارة تدل على المشار إليه. والمشار إليه يكون حاضراً، فنقول: “هذا اليوم شديد الحر” أي اليوم الحاضر. وقوله تعالى: {{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}} [المائدة:3] اليوم يعني اليوم الحاضر.
3/ العهد الذهني:أن تكون داخلة على شيء معلوم في الذهن. مثل قوله تعالى هنا: {وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ} فالمراد به رسول الله محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ لأن قوله: {{كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} } معناه أن يستبعد أن يُهدون، وهذا لا يمكن بعد نزول القرآن إلا أن يكون الرسول محمد. وتقول مثلاً وأنت في البلد: “جاء القاضي”، أي قاض هو؟ قاضي البلد المعروف.
وقسيمة لـ «ال» العهدية هي «ال» الجنسية والتي تكون لبيان الحقيقة ولبيان استغراق الحقيقة.
فإذا قلت: الرجال أكمل من النساء، هذه لبيان الحقيقة (الجنس)؛ جنس الرجال أفضل من جنس النساء. ولا يعني أن كل واحد من الرجال أكمل من كل امرأة من النساء. ففي النساء من هي خير من كثير الرجال.
وتكون للعموم مثل قوله تعالى: {{إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} } [العصر:٢] يعني كل إنسان، وهذه علامتها أن يحل محلها «كلّ» بتشديد اللام.
{{حَقٌّ}} حق ثابت صادق فيما أخبر، عادل فيما حكم به.
{{وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ}} الحُجَجُ والبراهين من معجزات الرسل وآيات القرآن المبيّنة للحق في المعتقد والعمل، ثم ارتدوا إلى ظُلْمة الشرك، فكيف يستحق هؤلاء الهداية بعد ما تَلَبَّسُوا به من العماية؟!
وهذا استبعادٌ لأن يهديَهم الله تعالى، فإن الحائدَ عن الحق بعد ما وضَحَ له منهمِكٌ في الضلال بعيدٌ عن الرشاد.
فكيف هنا استفهام بمعنى الاستبعاد، أي: يبعد جداً -إن لم يمتنع- أن يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم، يعني: ارتدوا بعد أن آمنوا، وعرفوا الحق، فإن هدايتهم بعيدة، وذلك لأن من عرف الحق ثم ارتد عنه، فهو أعظم جرماً ممن لم يعرف الحق، ولم يدخل فيه وبقي على كفره، فالكافر المرتد أعظم من الكافر الأصلي في الدنيا وفي الآخرة، ففي الدنيا يترك الكافر الأصلي على دينه ولا يُجبر على تركه، لكن المرتد لا يُقر على ردته، بل يُجبر على أن يعود إلى الإسلام أو يُقتل؛ لقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: « (مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ) » [البخاري]
فالله -عز وجل- يبعد أن يهدي الله قوماً كفروا بـعد إيمانهم، أما من كانوا على الكفر أصلاً فما أكثر الذين اهتدوا بعد أن كانوا على الكفر وشهدوا أن الرسول حق.
** وفيه أن الكفر بعد الإيمان أغلظ من الكفر الأصلي؛ لأن الله تعالى استبعد أن يهتدي هؤلاء. وأما الكافرون فإن الله سبحانه وتعالى ذكر في سورة الممتحنة أن الله تعالى قد يهديهم فقال: {{عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً}}
وذلك بالإيمان، {{وَاللهُ قَدِيرُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}} [الممتحنة:٧].
** وفيه أن الهداية والإضلال بيد الله؛ لقوله: { {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا}} فنسب الهداية إليه. وفي آيات أخرى أن الله نسب الإضلال إليه مثل: {{وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}} [إبراهيم:٢٧].
ولكن يجب أن يعلم أن هداية الله وإضلاله لحكمة؛ فمن كان أهلاً للهداية هداه الله، ومن كان أهلاً للضلال أضله الله.. قال الله تعالى: {{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}} [الأنعام:١٢٤] وقال تعالى: {{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}} [الصف:5]
والله عز وجل يعلم.. إذا علم من المرء أنه لا يريد الهداية أضله. وإذا علم أنه يريد الهداية، وأنه حريص عليها يطلبها أينما كانت، ويسلك ما دل عليه الدليل، فإن الله تعالى يهديه ويعينه ويوفقه ويفتح بصيرته حتى يرى الحق كأنما يتلقاه عن في رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
** وفيه أن الله سبحانه وتعالى لم يدع الخلق هملاً، بل أقام لهم الحجج، وأقام البينات، حتى لا يكون للناس على الله حجة؛ لقوله: {{وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ}} .
هذه البينات تنقسم إلى أقسام: شرعية، وعقلية، وحسية؛ أما الشرعية فهي القرآن، وأما العقلية فهي أن كل عاقل يتدبر ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام يعلم أنه حق، فإنه ما أمر بشيء فقال العقل ليته لم يأمر به، ولا نهى عن شيء فقال العقل ليته لم ينه عنه. وأما الحسية فظاهرة، انتصاراته العظيمة في هذه المدة الوجيزة، وانتصار أصحابه حتى فتحوا مشارق الأرض ومغاربها مع أنهم كانوا أذلة مستضعفون في الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس.. هذا من أكبر الأدلة على أنه رسول الله حقا.
{{وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}} جملة استئنافية، وهي كالتعليل لما قبلها من حيث المعنى كأنه يقول: إنما لا يهديهم الله لأنهم ظلمة.
أي والله حسب سنته في خلقه لا يهدي من أسرف في الظلم وتجاوز الحد فيه فأصبح الظلم طبعاً من طباعه، فلهذا كانت هداية من هذه حاله مستبعدة للغاية، وإن لم تكن مستحيلة.
فإن قيل في ظاهر الآية أن من كفر بعد إسلامه، لا يهديه الله، ومن كان ظالماً لا يهديه الله، وقد رأينا كثيراً من المرتدين، أسلموا وهداهم الله، وكثيراً من الظالمين تابوا عن الظلم؟!.
قيل له: لا يهديهم الله ما داموا مقيمين على كفرهم وظلمهم، ولا يُقْبِلُون إلى الإسلام، فأما إذا جاهدوا، وقصدوا الرجوع، وفقهم الله لذلك لقوله تعالى: {{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}} [العنكبوت:69]
{{أُولَئِكَ}} أتى بصيغة الإشارة على وجه البعد إشارة إلى انحطاط مرتبتهم؛ لأن الإشارة إلى القريب بصيغة البعد قد تكون إشارة إلى علو المرتبة، وقد تكون إشارة إلى انحطاط المرتبة، وهنا إشارة إلى انحطاط مرتبتهم، فهم لانحطاط مرتبتهم بعيدون، يُشار إليهم إشارة البعد.
وقيل: الإشارة للتنبيه على أنهم أحرياء بما يرد بعد اسم الإشارة من الحكم عليهم
{{جَزَاؤُهُمْ}} جزاء كفرهم {{أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ}} ولعنة الله هي طردهم وإبعادهم عن رحمته مع الخذلان.
{{وَالْمَلَائِكَةِ}} الملائكة هم جنس من المخلوقات، عالم غيبي خلقهم الله تعالى من نور وجعلهم صمداً، لا يأكلون ولا يشربون. وإذا لم يأكلوا، ولم يشربوا، فهم لا يبولون ولا يتغوطون، ولهذا وصفهم الله بأنهم مطهرون فقال: {{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}} [الواقعة:٧٧-٧٩]
{{وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}} توكيد لما قبلها.
وفي البقرة: {{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}} [البقرة:161] لأنه جاء الإخبار عن من مات كافراً، فلذلك تحتمت اللعنة عليهم، وهنا ليس كذلك، ألا ترى إلى سبب النزول؟ وأن أكثر الأقوال إنها نزلت في قوم ارتدوا ثم راجعوا الإسلام.
{{خَالِدِينَ فِيهَا}} أي في تلك اللعنة الموجبة لهم عذاب النار، أو خالدين في النار وإن لم تُذكر لدَلالة الكلامِ عليها.
{لَا يُخَفَّفُ} لا يهون {{عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} } ولا هم يمهلون ويؤخرون، بل يبادرون بالعذاب.. من أَنْظَره إذا أمهله ولم يعجِّل بعذابه، فلا يُفتَّر عنهم العذاب ولا يُخَفَّف عنهم ساعة واحدة.
وتأمل قوله تعالى: {{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنكُمْ}} [الزمر:٧١]. وقال في أهل الجنة: { {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}} [الزمر:٧٣].. جاءوها وفتحت، فصار هناك فرق بين هؤلاء وهؤلاء؛ لأن أهل النار يبادرون لفتحها فيقابلهم العذاب أول ما يقدمون عليها .
وأما أهل الجنة فإنهم إذا وصلوا إلى الجنة وقفوا على قنطرة بين الجنة وبين النار، فيقتص لبعضهم من بعض، اقتصاصاً خاصا، غير الاقتصاص الأول الذي يكون في عَرَصَاتِ القيامة [جمع عَرْصَة.. المكان الواسع الذي يقف فيه الناس للحساب] من أجل أن يزال ما في قلوبهم من الغل والحقد، حتى يدخلوا الجنة وهم على أصفى ما يكونون من المودة، إخواناً على سرر متقابلين.
بل إنهم يبادرون به قبل أن تقوم الساعة. كما قال الله تعالى في آل فرعون: {{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} } [غافر:٤٦]
ويبادرون بالعذاب قبل أن يموتوا: {{وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ}} [الأنفال:٥٠]
ويوبخون قبل أن يموتوا: {{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}} [الأنعام:٩٣].
ثم لم تكن توبتهم مستحيلة ولأن الله تعالى يحب توبة عباده ويقبلها منهم قال تعالى فاتحاً باب رحمته لعباده مهما كانت ذنوبهم:
{{إِلَّا الَّذِينَ}} استثناء متصل {{تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}} الكفر والظلم والارتداد {{وَأَصْلَحُوا}} أصلحوا ما أفسدوه من أنفسهم بالتوبة والإِيمان وصالح الأعمال، ومن غيرهم فأصلحوا من أفسدوا من الناس.
فمثلاً إذا كان هؤلاء أئمة قادة، لما كفروا كفر من يتبعهم، فإن توبتهم لا تكفي حتى يصلحوا من فسد على أيديهم، وذلك بمحاولة إرجاع الذين كفروا تبعاً لهم إلى الإيمان. إذا كان الإنسان كفر بكتابة ما يخالف الدين، فلا يكفي أن يقول: “أستغفر الله وأتوب إليه، ولن أعود إلى كتابة ما يخالف الدين”، حتى يصلح ما أفسد بأن يكتب ردا على ما كتب أولاً؛ لأن المفاسد المتعدية لا بد فيها من إصلاح.
{{فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}} وهما صيغتا مبالغة دالتان على سعة رحمته، أي: فيَقبلُ توبتَهم ويتفضّلُ عليهم وهو تعليلٌ لما دل عليه الاستثناءُ.
وهذا من لطفه وبره ورأفته ورحمته وعائدته على خلقه: أنه من تاب إليه تاب عليه.
والجواب هنا قد يبدو غير مطابق لما سبق؛ لأنه قد يتوقع السامع أن يكون الجواب فإن الله يتوب عليهم، ولكن الجواب كان ثناء على الله باسمين من أسمائه وهما الغفور والرحيم، قال: {{فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمُ}} فيؤخذ من هذين الاسمين أن هؤلاء الذين تابوا وأصلحوا يغفر الله لهم؛ لأن مقتضى هذين الاسمين يعمهم فيغفر الله لهم ويرحمهم.
ومغفرة الذنوب هو سترها والتجاوز عنها. والرحيم هو من يرحم العباد. والرحمة صفة تقتضي الإحسان والإنعام. وفي الجمع بين الغفور والرحيم زيادة معنى على ما يتضمنه الاسمان، وهو أن الله تعالى قد جمع بين المغفرة التي بها زوال المكروه، وآثار الذنب، والرحمة التي بها حصول المطلوب وهو النعمة والإحسان.
قيل: نزلت في الحارثِ بنِ سويد حين ندِم على رِدَّته، فأرسل إلى قومه أن يسألوا: هل لي من توبة؟ فأرسل إليه أخوه الجُلاّس الآيةَ فرجَع إلى المدينة فتاب.
وقال مجاهد: حمل الآيات إلى الحارث رجل من قومه فقرأها عليه. فقال له الحارث: “إنك والله ما علمت لصدوق، وإن رسول الله لأصدق منك، وإن الله تعالى لأصدق الثلاثة”. قال فرجع الحارث فأسلم وحسن إسلامه.
** وفيه إثبات اسمين من أسماء الله، وهما: الغفور والرحيم.. وكل اسم من أسماء الله فإنه دال على ثلاثة أشياء: على ذات الله، وعلى الصفة، وعلى الأثر الذي يترتب على هذه الصفة.
لكن هذا الثالث لا يطرد في كل اسم من أسماء الله؛ لأن الأسماء غير المتعدية لا يدخل فيها إثبات الأثر.
فالعلي مثلاً فيه إثبات الاسم والصفة، والعظيم كذلك، والكبير كذلك، لكن السميع فيه إثبات الاسم والصفة والأثر؛ الاسم: السميع، والصفة السمع، والأثر: أنه يسمع.
ومن هنا نعلم أن كل اسم فلا بد أن يكون متضمناً لصفة بدون استثناء، وليس كل صفة مستلزمة لاسم.. قد يوصف الله بالشيء ولا يسمى بما دلت عليه هذه الصفة. فالصفات أوسع من الأسماء، لأن كل اسم متضمن لصفة، ولا عكس.
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
Source link