منذ حوالي ساعة
يترتب على هذه الفتنة آثار سيئة متعددة؛ منها: العمى عن رؤية نِعَم الله تعالى – الحسد – الشك في عدل الله وحكمته – الحزن)
إن ربنا الحكيم سبحانه قد ضمن للعباد أرزاقهم، فهو يسوقها إليهم وفق مقتضى عدله وحكمته، فيبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، ويوسع لمن يشاء في بعض أصناف الرزق، ويضيق عليه في أخرى، ويعطي من يشاء ما يشاء، ويمنع من يشاء ما يشاء، وهو سبحانه أعلم بعباده، وبما فيه صلاح معاشهم ومعادهم، قال تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد: 26]، وقال: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} [النحل: 71]، وقال: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء: 30]، وقال: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى: 27].
غير أن ضعف الإيمان وقلة اليقين في الله عز وجل يوقعان الناس في فتنة عظيمة، يترتب عليها عواقبُ سيئةٌ وخطيرةٌ؛ ألا وهي فتنة المقارنات؛ حيث ينظر أحدهم بعين الإعجاب إلى من فضل عليه في بعض أصناف الرزق الظاهرة، فيرى سيارة خيرًا من سيارته، وبيتًا أوسع من بيته، ووظيفة وعملًا خيرًا من وظيفته وعمله، وزوجةً أجمل من زوجته، وخِلقةً وهيئة أحسن من خلقته وهيئته…إلخ.
أولًا: آثار وعواقب فتنة المقارنات:
يترتب على هذه الفتنة آثار سيئة متعددة؛ منها:
(أ)- العمى عن رؤية نِعَم الله تعالى، وازدراؤها واحتقارها، وكفرانها وعدم شكرها، وتعريض النفس بذلك لغضب الله وعذابه، فقد قال الحق سبحانه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].
(ب) – الحسد، وهوتمني زوال نعمة الله عز وجل عن الغير، سواء كانت النعمة مالًا أو جاهًا أو علمًا أو غير ذلك، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الحسد كراهة ما أنعم الله به على الغير، وإن لم يتمنَّ الزوال[1].
ويكفي الحاسد شرًّا في الدنيا ما ينزل به بسبب حسده من همٍّ وغَمٍّ وضيق وكآبة! قال الفقيه أبو الليث السمرقندي: ليس شيء من الشر أضرُّ من الحسد؛ لأنه يصل إلى الحاسد خمس عقوبات، قبل أن يصل إلى المحسود مكروه: أولاها: غَمٌّ لا ينقطع، والثانية: مصيبة لا يؤجر عليها، والثالثة: مذمَّة لا يُحمد بها، والرابعة: يسخط عليه الرب، والخامسة: تُغلق عليه أبواب التوفيق[2]، وقال بعض الحكماء: ما رأيتُ ظالمًا أشبه بالمظلوم من الحاسد[3].
(ج) ـ الشك في عدل الله وحكمته، ومن ثَمَّ السخط وعدم الرضا بما قسم، والاعتراض على قضائه وقدره، فمن شكَّ في عدل الله وحكمته، سخط ولم يرض بقضائه وقسمته، قال ابن القيم رحمه الله: فقَلَّ أن يسلم الساخط من شك يُداخِل قلبه ويتغلغل فيه، وإن كان لا يشعر به، فلو فتَّش نفسه غاية التفتيش لوجد يقينه معلولًا مدخولًا، فإن الرضا واليقين أخوان مصطحبان، والشك والسخط قرينان[4].
وإن الشك في عدل الله وحكمته، والسخط وعدم الرضا بقضائه وقسمته، لا يصح معه إيمانٌ، بل ذلك كفرٌ بالله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لكل شيء حقيقة، وما بلغ عبدٌ حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه» [5].
(د) ـ الحزن، والشعور بالألم النفسي، وفقدان الطمأنينة والسكينة، وهذا كله نتيجة للسخط وعدم الرضا بقسمة الله، فعن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل بقسطه جعل الفرح والروح في الرضا واليقين، وجعل الغَمَّ والحزن في السخط والشك» [6]، ففي الحديث أن الله تعالى ربط الغمَّ والحزن بالسخط والشك، فالساخطون والشاكُّون لا يذوقون للسرور طعمًا. إن حياتهم كلها سواد ممتد، وظلام متصل، وليل حالِك لا يعقُبه نهار، ولا يُرتقب له فجر… الساخط إنسان دائم الحزن، دائم الكآبة، ضيق الصدر، ضيقٌ بالحياة، وبالناس، وبنفسه، وبكل شيء…كأن الدنيا على سعتها في عينيه سَمُّ الخياط.
ثانيًا: المنهج النبوي لدرء فتنة المقارنات:
يتمثل هذا المنهج في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا نظر أحدكم إلى من فُضِّل عليه في المال والخلْق؛ فلينظر إلى من هو أسفل منه» [7]، وقوله: «انظروا إلى من أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدَرُ ألَّا تزدروا نعمة الله» [8].
ويشمل هذا المنهج قاعدتين رئيسيتين:
الأولى: عدم نظر العبد إلى من فُضِّل عليه في المال والخلْق ومتاع الدنيا:
لأن النظر بعين الإعجاب إلى ما عند الغير من متاع الدنيا وزينتها، يجعل العبد يزدري ما بين يديه من نِعَم، بل يعمى عن رؤيتها مع عظيم قدرها، ويوهمه الشيطان بأنه محروم وغيره مُنعَّم، فيقع في الكفر والجحود، ويُفوت على نفسه الاستمتاع والانتفاع بالنعمة الحاضرة، ويحل به البؤس والضنك والنكد.
ولتوقي الوقوع في هذه المفاسد، وجب تجنُّب النظر بعين الإعجاب والتمني إلى ما بين أيدي الناس من متاع الدنيا وزينتها، امتثالًا لقول ربنا سبحانه: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131]، مع النظر بعين التقدير والتعظيم إلى النعمة الحاضرة، حتى يستشعر العبد الغبطة والسرور، ويحظى بأهنأ عيش وأسعد حال، كما قال نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم: «من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافًى في جسده، عنده قوت يومه؛ فكأنما حيزت له الدنيا» [9].
الثانية: نظر العبد إلى من هو دونه تنعُّمًا وأشد منه بلاء:
فإن كل ناظر في أحوال من هم دونه، سيجد من هو أقل منه تنعُّمًا وتمتُّعًا بما تميل إليه النفس من زينة الحياة الدنيا، ومن هو أعظم منه بلاء، وثمرة ذلك أن يعرف قدر نعمة الله عليه، وأن يكون ذلك أيضًا أرضى لنفسه وأصلح لحاله، قال سلام بن أبي مطيع: دخلتُ على مريض أعوده، فإذا هو يئنُّ، فقلت له: اذكر المطروحين في الطريق، اذكر الذين لا مأوى لهم، ولا لهم من يخدمهم، قال: ثم دخلتُ عليه بعد ذلك فلم أسمعه يئنُّ، قال: وجعل يقول: اذكر المطروحين في الطريق، اذكر من لا مأوى له ولا له من يخدمه [10].
نسأل الله تعالى أن يرزقنا القناعة والرضا، وأن ينزل في قلوبنا السكينة والاطمئنان.
وصلِّ اللهم وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[1] شرح الأربعين النووية، الشيخ محمد بن صالح العثيمين/ ص377، دار المصطفى، ط1 (1433هـ/ 2012م). [2] تنبيه الغافلين، الإمام الفقيه أبو الليث السمرقندي، خرَّج أحاديثه: أحمد بن شعبان بن أحمد، ص: 125، مكتبة الصفا، القاهرة، ط1 (1423هـ / 2002م). [3] المرجع نفسه، ص: 126. [4] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، الإمام ابن قيم الجوزية، ج 1، ص: 561، صححه وخرج أحاديثه: محمد عبدالله، دار التقوى، شبرا الخيمة، بدون تاريخ. [5] رواه البيهقي في شعب الإيمان: 215، وصححه الألباني في الصحيحة: 1690. [6] الطبراني في الكبير: 10215. [7] صحيح البخاري، رقم الحديث: 6490. [8] صحيح مسلم، رقم الحديث: 2963/ 9. [9] سنن الترمذي، رقم الحديث: 2346، وحسَّنه الألباني في صحيح الترمذي. [10] نقلًا عن: أصول الوصول إلى الله تعالى، الشيخ محمد حسين يعقوب، ص: 102، المكتبة التوفيقية، القاهرة، بدون تاريخ.
______________________________________________________
الكاتب: عبدالقادر دغوتي
Source link