يعيش الإنسان في هذه الحياة في صراع دائم، معركة الإنسان في هذه الحياة تدور مع أربعة أعداء كلهم عليه: “إبليس – والدنيا – ونفسي – والهوى”
يعيش الإنسان في هذه الحياة في صراع دائم، وفي معركة مستمرة، وفي معاناة، وفي تعب، يقول ربنا عز وجل: {يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق: 6].
ويقول عز وجل: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4] أي: تعب، ونكد، ومعاناة.
وهذا الصراع وهذه المعركة هي الابتلاء الذي يمحص الله به بين المؤمنين والمنافقين، وبين الصادقين والكاذبين، فإما فوز أو خسارة، إما جنة أو نار، فريقٌ في الجنة، وفريقٌ في السعير. {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ}[آل عمران: 185]، هذا هو الفوز، وهذا هو النصر إذا دُعيت باسمك يا عبد الله، ويسمعك أهل الموقف، ويقال لك: ألا إن فلان بن فلان قد سَعُد سعادة لا يشقى بعدها أبداً؛ سيَبْيَضُّ وجهُك؛ وتأخذ كتابك بيمينك؛ وتباهي بهذه الشهادة الربانية وبهذا الكتاب المليء بالحسنات، وتقول لأهل الموقف: {هَاؤُمُ اقْرَءوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ}[الحاقة: 19، 21] بدلاً عن عيشة الدنيا التي هي عيشة تعب ومعاناة ومكابدة وبلاء، وعيشة صبر على طاعة الله وعن معصية الله وعلى أقدار الله.
فيقول الله: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ}[الحاقة: 21 -24]، جزاءُ صبركم وجهادكم وصلاتكم وإحسانكم وصفاء قلوبكم وثباتكم.
معركة الإنسان في هذه الحياة تدور مع أربعة أعداء كلهم عليه.
إبليس والدنيا ونفسي والهوى
كيف الخلاص وكلهم أعدائي
فهذه المعارك الضارية والصراعات الطاحنة تدور في عدة جبهات مع النفس والإنسان؛ ولكن أبرز هذه المعارك تدور مع أربعة أعداء، جاء خبرهم في كتاب الله عز وجل، وإلا فالأعداء كثيرون؛ لكنهم يندرجون في النهاية تحت هؤلاء الأعداء الأربعة:
العدو الأول: الشيطان:
أول عدو وأبرز وأشر عدو: الشيطان أعاذنا الله وإياكم منه: أخبرنا الله عز وجل عن عداوته في القرآن الكريم: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء: 122] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} [النساء: 87]؟! يقول الله عز وجل: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} لماذا؟! قال: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6].
ويقول الله عز وجل: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يس: 60].
ويقول لآدم: {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ} انتبه! {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه: 117].
الشيطان الذي رفض السجود لأبينا آدم كبرا وغرورا وحسدا، وقال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [الإسراء: 61] {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12].
فالله عز وجل قال له: {فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [ص: 77-78]..
الشيطان الذي أخرج أبونا آدم من الجنة.
الشيطان راحته وانسه وسعادته يوم نقع في الخطايا والزلات ونعصي رب الأرض والسماوات.
عباد الله:
إنها الذنوب والمعاصي دمار الأفراد والأسر والأمم والشعوب.
رأيت الذنوب تُميت القلـوب ** وقد يُورث الذل إدمانها
و ترك الذنوب حياة القلـوب ** وخيرٌ لنفسك عصيانهــا
عباد الله:
لن نستطيع دفع شر إبليس لعنه الله، ولن نبطل مكائده، ولن ننجو من غوايته وفساده إلا بالاعتصام بالله تعالى، قال الله عز وجل: {وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَى صِراطٍ مّسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101].
فالنجاة من الشيطان بالعمل بالكتاب والسنة، ودعوة الناس إلى ذلك. قال الله تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَـانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأعراف: 200]. {وَقُلْ رَّبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيـاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبّ أَن يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 97].
والرسول استب عنده رجلان فاحمرّ وجه أحدهما وانتفخت أوداجه، فقال عليه الصلاة والسلام: « «إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد؛ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم».
ومما يدفع كيد الشيطان وشره المحافظة على الصلاة جماعة، قال الله تعالى: {وَأَقِمِ الصلاة إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ}[العنكبوت: 45]. وقال عن إبليس: {وَمَن يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطَـانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ} [النور: 21].
العدو الثاني: النفس:
أقسم الله أيمانا عظيمة على فلاح ونجاح من زكى نفسه وعلى خيبة وخسة من دسى نفسه فقال تعالى:
{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}[الشمس: 1-10]. والتزكية معناها التطهير.
قد أفلح وفاز وربح واعتز من زكى نفسه، بم زكاها؟
بالطاعة والقرآن والذكر والإيمان والصلاة على النبي العدنان. وقد خاب وخسر وضاع من دساها بالمعاصي والزلات وإتباع الشهوات ومعصية رب الأرض والسماوات.
وقد ذكر الله عز وجل النفس البشرية في القرآن وبيَّن أن لها ثلاث صفات:
نفسٌ أمَّارة بالسوء، و نفسٌ لوامة، ونفسٌ مطمئنة.
فالنفس الأمّارة بالسوء هي: طبيعة النفس، {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}[يوسف: 53] ليست آمرة، بل أمَّارة، صيغة مبالغة، أي: لا تأمر إلا بالسوء، ولا تحب إلا الشر، تكره القيود، وتحب الدَّعة والتفلُّت والنوم، تريد الاسترخاء والضياع واللعب.
هذه أصل طبيعة النفس، كل نفس بشرية أمارة بالسوء، لكن المؤمن يجاهد نفسه ويزكيها ويربيها فيغير من طبيعتها، ويجعلها أمارة بالخير وتنتقل إلى النفس اللوامة ما معنى لوامة؟! قال العلماء: تدعو إلى الباطل، ثم تلوم عليه، تدعوك إلى الباطل، فإذا فعلتَه جاءت النفس وقالت لك: أين إيمانك؟! أين دينك؟! أين أنت؟! ألست مؤمناً؟! ألست متديناً؟! تزني؟! تسكر؟! تكذب؟! أين خوف الله؟! هذه هي اللوامة، وهذه مرتبة جيدة، أحسن من النفس الأمارة؛ لأنها تلومك قليلاً؛ ولكنها ترتقي بالمجاهدة، وبالتدريب، وبالمعاندة لها، إلى أن ترتقي إلى النفس المطمئنة؛ وهي النفس التي اطمأنت إلى الله، وسكنت إليه، اطمأنت إليه عقيدةً، واطمأنت إليه عبادةً، فاطمأنت إليه، فانتقلت من الجهل إلى العلم، ومن الظلام إلى النور، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن الكذب إلى الصدق، ومن الشك إلى اليقين، ومن حياة اللعب والفوضى إلى حياة الجد والانتظام، سكنت نفسك، اطمأنت، هذه النفس إذا اطمأنت يقال لها عند الموت: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي} [الفجر: 27، 28] فقد أديتِ واجبكِ، وقمتِ بمسئوليتكِ {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} [الفجر: 28] إلى فاطرك وخالقك، إلى الذي استجبتي لأمره، وانتهيتي عن نهيه، {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً} [الفجر: 28] في حقيقتها {مَرْضِيَّة} [الفجر: 28] أي: مرضي عنها من قبل خالقها وفاطرها، {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 29، 30] نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من هذه النفوس.
لكن متى تكون نفسك مطمئنة؟! تحتاج منك إلى جهد وجهاد، تحتاج منك إلى تدريب هذه النفس، ومخالفة لهوى النفس، يقول الله عز وجل: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] نهاها.
النفس كالطفل إن تهمله شب
على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطمِ
ولذلك جاء في الحديث عند أحمد و الترمذي: يقول عليه الصلاة والسلام: « «الكيِّس –العاقل صاحب اللب- مَن دان نفسه– أي: أدانها، دائماً هي المدينة أمامه- وعمل لما بعد الموت، والعاجز مَن أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني».
هذه هي النفس، وهذه أقسامها، ثلاثة أقسام: نفسٌ أمَّارة بالسوء: وهي نفس الفاجر.
نفسٌ لوَّامة: وهي نفس المسلم الضعيف.
ونفسٌ مطمئنة: وهي نفس المؤمن القوي، الذي نسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعلنا وإياكم من أهل هذه النفوس.
العدو الثالث: الدنيا:
العدو الثالث، والميدان الثالث من ميادين الصراع: ميدان الدنيا.
إنها الدنيا؛ إذا حلّت أوحلَت، وإذا كست أركست، وإذا جلَت أوجلت، وإذا أينعَت نعَت، وإذا دنت أودنت.
الدنيا: – هذه الحياة الدنيا بما فيها من مغريات وشبهات وشهوات وملهيات، زينة وفتنة حتما ستتركها، يقول الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15].
هذه الدنيا مثلها مثل رجل بخيل بخل على أولاده ونفسه ومرض مرضا خطيرا كأنه مرض الموت فجاءه ابنه الأكبر الذي يعلم أن أبيه من الأغنياء لكنه يخفي ماله ويبخل به. فقال له: أبتاه ستموت قل لي أين وضعت المال، فبعد الإصرار عليه قال الأب: المال في المكان الفلاني فما أن أكمل الأب الكلام إلا وانطلق الابن وغيّر مكان المال.
قدّر الله أن يُشفى الأب من مرضه، ويمرض الولد الأكبر مرض الموت فجاءه أبيه مستغيثا قائلا: ابني أين وضعت المال ستموت قل لي أين وضعت المال، فمات الولد وحُرموا من المال، هذه هي الدنيا.
حذرنا الله عز وجل منها، ومثَّلها العلماء، وقالوا: إن الدنيا كامرأة عجوز شوهاء. مُسِنَّة قد عميت عيناها، وسقطت أسنانها، وانحنى جسمها، وتجعد وجهها، وانحنى ظهرها، وشاب رأسها؛ ولكنها لا زالت تحب التصابي.
فهي عجوز ليس معها سن، ولا معها شعرة سوداء في رأسها، وظهرها مُعْوَج، وحالتها تُشْكَى إلى الله، ومع هذا تعطَّرت، وتخضَّبت -تَحَنَّت- ولبست الذهب، ثم تَحَجَّبت، حتى لا يراها الخُطَّاب، فلو رأوها على حقيقتها فلن يلاحقها أحد، ولا أحد يدرك هذه الدنيا إلا عند نقطة الموت.
ولهذا يقولون عند الموت: {رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون: 99] يقول: رب أرجعني، لماذا؟! قال: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً} [المؤمنون: 100].
ولهذا يقول أصحاب قارون لما خرج في زينته وهم لا يعرفون حقيقة الدنيا: {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص: 79]؛ لكن أهل العلم ماذا قالوا؟! {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إلّا الصَّابِرُونَ} [القصص: 80] فأهل العلم بالحقيقة، أهل العلم بالدنيا، هؤلاء يعرفون أنها غدارة، خداعة، مكارة، ترضع؛ ولكنها تفطم، تعطي؛ ولكنها تمنع، تحيي؛ لكنها تميت، انظروا إلى عملها بأهلها! تجد الشخص بينما هو في عزته ومَنَعَته وسلطته وشغلته وإذا به يقال له: انزل، تفضل، هذا القبر الآن، وهو في قوته وإذا به يموت بين أولاده، وإذا به يخرج من قصره فيرجع إلى قبره، في نوره فيخرج إلى ظلامه.
والله عز وجل قد أنبأنا عن حقيقة الدنيا على صيغة العلم، يقول ربنا عز وجل في سورة الحديد: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الحديد: 20] هذه حقيقة الدنيا، الله يتحدث عنها وهو أعلم بها.
{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ} [الحديد: 20].
هذا هو العدو الثالث؛ الدنيا، فانتبه منها! فلا تخدعك، فتجمع المال من الحرام، وترفع أرصدتك؛ لكن في النار، وتدخل عليك دخولاً من نار، انتبه! لا تأكل إلا طيباً، ولا تكنِز إلا طيباً، ولا تقع بقدمك إلا في طيب، حتى تسلم، أما الحرام فإنه لا يورِّث إلا النار-والعياذ بالله-، يقول عليه الصلاة والسلام: «كل لحم نَبَتَ من سحت فالنار أولى به».
هي الدنيا تقول بملء فيها ** حذار حذار من بطشي وفتكي
فلا يغرركم مني ابتســــام ** فقولِي مضحِك والفعل مبكــي
احذر أن تفتن بها وأن تنقاد لزهرتها، وكن من الذين فطنوا لحالها والتزموا بأوامر خالقها وباريها.
إنّ لله عبادًا فُطَنًـــــــا ** طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلمّا علموا ** أنها ليست لحيّ وطنًـــــــا
جعلوها لجّة واتخذوا ** صالح الأعمال فيها سُفُنـــا
عباد الله:
معاشرَ المسلمين، الدنيا مَهلَكة، والفرح بها مَتلَفَة، والانخداع بها مصيبة، {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37 – 39].
وليس معنى ترك الدنيا أو معاداة الدنيا أننا لا نعمل فيها! لا.
هذا الفهم ليس فهماً شرعياً، ومعنى عداءك للدنيا، أي: عداءك للدنيا التي تضلك عن الله، أما الدنيا التي تعينك على طاعة الله فهي ليست دنيا إنها دين، وإذا توظفت وقبضت المال من حلال، واستعنت به على طاعة الله، فوظيفتك هذه وظيفة دينية؛ لأنك تخدم بلدك، وتساهم في بناء مجتمعك، وتسد ثغرةً من ثغرات المسلمين، وتؤدي واجباً من واجبات الأمة، وفي نفس الوقت استعنت بهذا المال على طاعة الله؛ أنفقت منه على زوجتك وعلى أبنائك، وأكرمت منه ضيفك، وأعطيت الفقير منه، وقمت بالواجبات، وأخرجت الحقوق والزكوات، هذا المال وهذه الوظيفة تعتبر دِيناً.
إذا كنت تاجراً وصدقت في تجارتك، ولم تكذب، ولم تغش، ولم تخدع، وأوردت للناس أي: لم تحتكر البضائع على الناس، فتجارتك هذه دِيناً.
إذا كنت مزارعاً وجلبت الأرزاق للناس، فزراعتك هذه دِيناً.
نِعْمَ المال الصالح في يد العبد الصالح، يقول عليه الصلاة والسلام لـ عثمان بعد أن جهز جيش العسرة: « «ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم» جهز ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها، ولما قَدِمَت على المدينة قافلته وتجارته، وقام التجار يرابحون فيها، وأعطوه في الريال ريالاً، أي: الربح -(100 %)- قال: قد جاءني أكثر، قالوا: نعطيك في الريال ريالين -أي الربح: (200 %)- قال: جاءني أكثر، فما زالوا به حتى أوصلوها إلى خمسة ريالات، -أي الربح: (500 %) قال: قد جاءني أكثر، فاجتمعوا وقالوا: مَن ذا الذي أعطاه أكثر، وهو لا يكذب؛ ها نحن تجار المدينة، هل أحدٌ منا أعطاه أكثر من خمسة؟ قالوا: لا.
فجاءوا إليه، فقالوا: من ذا الذي أعطاك أكثر؟! لا يوجد أحد منا أعطاك أكثر! من الذي أعطاك؟! قال: أعطاني ربي، الحسنة بعشر أمثالها، هي لله -ثلاثمائة بعير محملة بالطعام بأحلاسها وأقتابها كلها لله- قال عليه الصلاة والسلام: (ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم).
إذاًَ: هذه الدنيا ما رأيكم فيها؟! دنيا أم دين؟ دين.
العدو الرابع: الهوى:
الميدان الرابع والأخير عدو لدود: الهوى أي: المزاج والكيف، كما يقول بعض الناس: أنا على كيفي! أنت على كيفك؟! لا.
أنت عبد، هل علمتم بعبد يمشي على كيفه؟! أم إنه يمشي على كيف سيده؟! ما رأيكم؟! العبد المملوك يمشي على كيفه وهواه، أم على كيف سيده؟! على كيف سيده.
وأنت ماذا أنت؟! عبد، نعم عبد.
عبد لِمَن؟ لمن خلقك، فلا ينبغي أن تكون على هواك، يجب أن تكون على مراد مولاك؛ لأنك إذا سرت على هواك ضللت، وإذا سرت على أمر مولاك هُدِيت، {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23] الذي اتخذ إلهه مولاه، ماذا حصل؟! قال الله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23] لما اتخذ إلهه هواه أضله الله على علم {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية: 23] كيف سيرى، القلب مختوم، والسمع مختوم، والبصر عليه غشاوة، وهذا على علم، يعصي الله على علم، قال الله: {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23].
انتبه! أخطر الأشياء عليك الهوى، المزاج، يجب أن يكون هواك ومزاجك موافق للشرع، ولهذا جاء في الحديث: يقول عليه الصلاة والسلام: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئتُ به» أي: يكون مرادك وهواك ومزاجك موافقاً ومتبعاً لشرع الله ولما جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، هذا الإيمان، أما أن يكون هواك ضد الشرع، ومزاجك ضد تكاليف الأمر والنهي، فهذا هوى شيطاني.
ولقد حذرنا الله عز وجل من اتباع الهوى في القرآن العظيم في آيات كثيرة: يقول الله عز وجل عن بلعام بن باعوراء -رجل من بني إسرائيل كان من عباد الله الصالحين، أوتي العلم، لكن ما اتبع مولاه، بل اتبع هواه- فالله عز وجل ضرب به مثلاً كالكلب، يقول الله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 175] أي: على أمتك، أخبرهم بنبأ ذاك {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} [الأعراف: 175] أي: الدالة علينا، فماذا حصل؟! {فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف: 175] ما قال الله: فتَرَكها، لا.
بل {فَانْسَلَخَ} والانسلاخ من الشيء أي: تركه إلى الأبد، الآن إذا ذبحت لك شاةً وسلخت جلدها، ما معنى سَلْخِ جلدِها؟ معناه: لن يعود عليها أبداً بأي حال من الأحوال.
قال الله عز وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف: 175] فماذا حصل؟! {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} [الأعراف: 175] لما انسلخ من آيات الله تسلط عليه الشيطان، ما كان يستطيع الشيطان عليه وهو معتصم بالله؛ لكن لما انسلخ عن آيات الله قال الله: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف: 175] {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} [الأعراف: 176] وماذا؟! {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف: 176] بئس مثل القوم والعياذ بالله.
احذر -يا أخي- من اتباع الهوى! اجعل هواك دائماً ومزاجك وفق شرع الله، قبل أن تتصرف لا تقل: يا هواي ماذا تريد؟! لا.
بل قل: يا ربَّ ماذا تريد؟ ماذا قال الرسول في هذه المسألة؟ ماذا قال الشرع في هذا الأمر؟ فإن قال شيئاً، فقل: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة: 285] ولا يسعك أمام أمر الله وأمام أمر رسول الله إلا أن تقول: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة: 285] {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285] هكذا المؤمن، لكن المنافق يقول: سمعنا، ولا يقول: وعصينا، الكافر هو الذي يقول: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [البقرة: 285].
هذا وصلوا – عباد الله: – على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} ﴾ [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين.
____________________________________________________________
الكاتب: د. أمير بن محمد المدري
Source link