أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب

في شوال من العام الثامن من الهجرة النبوية، وبعد أن فتح الله عز وجل مكة على رسوله صلى الله عليه وسلم، وخضعت له قريش, ظلت بعض القبائل على شركها وعدائها للإسلام والمسلمين، وفي مقدمة هذه القبائل هوازن وثقيف ومن حولهما من قبائل العرب، وقالوا: قد فرغ محمد لقتالنا، فلنغزه قبل أن يغزونا، وأجمعوا أمرهم على هذا، وولوا عليهم مالك بن عوف النصري، ونزلوا حُنيناً وهو وادٍ بينه وبين مكة سبعة وعشرون كيلو متراً من جهة عرفات ، وقد سُمِّيَت الغزوة باسمه.

لما علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك خرج بجيشه حتى وصل إلى وادي حنين، الذي سبقهم إليه مالك بن عوف وجيشه، وأعدوا فيه أكمنة للمسلمين، وباغتوهم وأمطروهم بالسهام والنبل من جميع الجهات، فاضطربت صفوف المسلمين, وماج بعضهم في بعض، ونتيجة لهول المفاجأة انهزم كثير منهم ولاذوا بالفرار، وبقي النبي صلى الله عليه وسلم ونفر قليل في الميدان يتصدون لهجمات المشركين، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب» .

فعن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رجلاً قال له: ( «يا أبا عمارة: أفررتم يوم حنين؟ قال: لا والله، ما ولَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه خرج شُبَّان أصحابِه وأَخِفَّاؤهم حُسَّراً ليس عليهم سلاح، أو كثير سلاح فأتَوا قوما رُماةً، لا يكاد يسقط لهم سهم، جمع هوازن وبني نصر، فرشقوهم رشقاً ما يكادون يُخْطِئون، فأقبَلوا هنالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على بَغلَتِه البيضاء، وابنُ عمِّه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يقودُ به، فنزَل واستَنصَر، ثم قال: أنا النبيُّ لا كذِب، أنا ابنُ عبدِ المُطَّلب، ثم صفَّ أصحابه» ) [ رواه البخاري] .

ويصف العباس رضي الله الموقف يوم غزوة حنين فيقول: (شهدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فلزمتُ أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نفارقه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامى. فلما التقى المسلمون والكفار ولّىَ المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قِبَلَ (نحو) الكفار. قال عباس: وأنا آخذ بلجامِ بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفها إرادة أن لا تسرع. وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي عباس! نادِ أصحابَ السَّمُرة، فقال عباس – وكان رجلا صيِّتًا (عالي الصوت) – فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة؟ قال: فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة (حُنُو) البقر على أولادها، فقالوا: يا لبيك! يالبيك! قال: فاقتتلوا والكفار. والدعوة في الأنصار يقولون: يا معشر الأنصار! يا معشر الأنصار! قال: ثم قصرت الدعوة على بني الحاث بن الخزرج! فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا حين حمي الوطيس (اشتد الحرب والأمر)، قال: ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات فرمى بهن وجوه الكفار، ثم قال: انهزموا ورب محمد. قال: فذهبتُ أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أري، قال: فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته، فما زلت أرى حدَّهم كليلا وأمرهم مُدْبِراً (ما زلت أرى قوتهم ضعيفة)) رواه مسلم.
قال النووي: “قوله: (فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، فقالوا: يا لبيك، يا لبيك) قال العلماء: في هذا الحديث دليل على أن فرارهم لم يكن بعيداً، وأنه لم يحصل الفرار من جميعهم، وإنما فتحه عليهم من في قلبه مرض من مسلمة أهل مكة المؤلفة، ومشركيها الذين لم يكونوا أسلموا، وإنما كانت هزيمتهم فجأة لانصبابهم عليهم دفعة واحدة ورشقهم بالسهام، ولاختلاط أهل مكة معهم ممن لم يستقر الإيمان في قلبه، وممن يتربص بالمسلمين الدوائر”.

لقد خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم للقتال في غزوة حنين اثنا عشر ألفاً، على غير عادة المسلمين بهذه الكثرة، وقد وقع من بعضهم الاغترار بكثرتهم وعددهم، فكان ذلك سبباً من أسباب الهزيمة في أول القتال والمعركة، وهذه الغزوة وما رافقها من أحداث ومواقف ودروس، أشار الله تعالى إليها بقوله : {{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}} (التوبة 25: 26).

النصر من الله:

إذا كانت غزوة بدر قررت ـ للصحابة والمسلمين من بعدهم ـ أن القلة لا تضرهم شيئاً في جنب كثرة أعدائهم إذا كانوا صابرين متقين، فإن غزوة حنين قررت أيضاً أن الكثرة لا تفيدهم إذا لم يكونوا صابرين ومتقين، قال ابن كثير في تفسيره لقول الله تعالى: {{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ}} (التوبة:25) : “يذكر تعالى للمؤمنين فضله عليهم وإحسانه لديهم في نصره إياهم في مواطن كثيرة من غزواتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك من عنده تعالى، وبتأييده وتقديره، لا بعددهم ولا بعددهم، ونبههم على أن النصر من عنده، سواء قل الجمع أو كثر، فإن يوم حنين أعجبتهم كثرتهم، ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئاً فولَوْا مدبرين إلا القليل منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أنزل الله نصره وتأييده على رسوله وعلى المؤمنين الذين معه، ليعلمهم أن النصر من عنده تعالى وحده وبإمداده وإنْ قلَّ الجمع، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين”.
وقال ابن القيم في حديثه عن غزوة حنين: “لما أتم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه فتح مكة، اقتضت حكمة الله أن أمسك قلوب هوازن عن الإسلام، لتكون غنائمهم شكراناً لأهل الفتح، وليظهر حزبه على الشوكة التي لم يلق المسلمون مثلها، فلا يقاومهم أحد بعد من العرب، وأذاق المسلمين أولاً مرارة الكسرة، مع قوة شوكتهم، ليطامن رؤوساً رفعت بالفتح، ولم تدخل حرمه كما دخله رسوله صلى الله عليه وسلم واضعا رأسه، منحنيا على فرسه، حتى إن ذقنه ليكاد يمس قربوس سرجه تواضعا لربه، وليبين سبحانه لمن قال: “لن نغلب اليوم عن قلة” أن النصر إنما هو من عنده سبحانه، وأن من يخذله فلا ناصر له غيره، وأنه سبحانه الذي تولى نصر دينه، لا كثرتكم التي أعجبتكم، فإنها لم تغن عنكم شيئاً، فوليتم مدبرين، فلما انكسرت قلوبهم، أرسل إليها خلع الجبر مع بريد النصر:
{{ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا}} (التوبة: 26)، وقد اقتضت حكمته أن خلع النصر إنما تفيض على أهل الانكسار: {{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}} (القصص: 5)”.

الصدق واليقين النبوي:

في خضم القتال بين المسلمين والمشركين في غزوة حنين قال النبي صلى الله عليه وسلم قولته المشهورة: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)، قال النووي: “ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا النبي لا كذب) أي: أنا النبي حقاً، فلا أفر ولا أزول”، وقال ابن حجر: “وأما قوله: (أنا النبي لا كذب) ففيه إشارة إلى أن صفة النبوة يستحيل معها الكذب، فكأنه قال: أنا النبي، والنبي لا يكذب، فلستُ بكاذبٍ فيما أقول حتى أنهزم، وأنا متيقن بأن الذي وعدني الله به من النصر حق فلا يجوز عليَّ الفرار، وقيل معنى قوله: (لا كذِب) أي أنا النبي حقاً لا كذِبَ في ذلك”. وقال الزرقاني: “وأما قوله عليه الصلاة والسلام: «(أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)» ، فقد قال العلماء: إنه ليس بشعر، لأن الشاعر إنما سُمي شاعراً لوجوه، منها: أنه شعر القول وقصده واهتدى إليه، وأتى به كلاماً موزوناً على طريقة العرب مقفى، فإن خلا من هذه الأوصاف أو بعضها لم يكن شعرا، ولا يكون قائله شاعراً, والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد بكلامه ذلك الشعر، ولا أراده، فلا يُعد شعرا، وإن كان موزونا”.

الشجاعة النبوية:

قال النووي: “قوله: (ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء) قال العلماء: وركوبه صلى الله عليه وسلم البغلة في موطن الحرب وعند اشتداد البأس هو النهاية في الشجاعة والثبات، ولأنه أيضاً يكون معتمَداً (مرجعاً)، يرجع المسلمون إليه وتطمئن قلوبهم به وبمكانه، وإنما فعل هذا عمداً، وإلا فقد كانت له صلى الله عليه وسلم أفراس معروفة، ومما ذكره في هذا الحديث من شجاعته صلى الله عليه وسلم تقدمه يركض بغلته إلى جمع المشركين وقد فر الناس عنه. وفي الرواية الأخرى: أنه نزل إلى الأرض حين غشوه، وهذه مبالغة في الثبات والشجاعة والصبر. وقيل: فعل ذلك مواساة لمن كان نازلاً على الأرض من المسلمين، وقد أخبرت الصحابة رضي الله تعالى عنهم بشجاعته صلى الله عليه وسلم في جميع المواطن”.
وقال الماوردي في أعلام النبوة في حديثه عن كمال أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم: “ما خُصَّ به صلى الله عليه وسلم من الشجاعة في حروبه، والنجدة في مثابرة عدوه، فإنه لم يشهد حرباً في فزاع إلا صابر حتى انجلت عن ظفر (انتصار)، أو دفاع وهو في موقفه لم يزل عنه هرباً ولا حاز فيه رغباً، بل ثبت بقلب آمن وجأش (صدر) ساكن، قد ولَّىَ عنه أصحابه يوم حنين حتى بقى بإزاء جمع كثير وجم غفير في تسعة من أهل بيته وأصحابه على بغلة مسبوقة، إن طلبت غير مستعدة لهرب ولا طلب، وهو ينادي أصحابه ويظهر نفسه ويقول إليَّ عباد الله: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب”.

غزوات النبي صلى الله عليه وسلم مصدر كبير وهام من مصادر السيرة النبوية، يتعلم المسلمون من خلالها العقائد السليمة، والأحكام الشرعية، والأخلاق الرفيعة، وحب الجهاد، وطلب الشهادة في سبيل الله، كما يتعلمون منها كذلك أسباب النصر فيأخذوا بها، وأسباب الهزيمة فيجتنبوها، كما حدث في بدر وأُحُد وحُنيْن وغيرها من غزوات وأحداث سيرته وحياته صلى الله عليه وسلم.


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

خطر الإلحاد (2) – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة السفر إلى بلاد الكفار للدراسة أو غيرها دون التقيد بالضوابط الشرعية -القراءة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *