منذ حوالي ساعة
تعد سياسة الاغتيالات نهجا ثابتا لدى العقلية اليهودية فهي على مر تاريخها تستخدم هذا السلاح الخبيث، وهي تستهدف به المقاومين والعلماء والساسة وكل من تراه مقاوما لمشروعها الاحتلالي في المنطقة، فهل أدت هذه السياسة أهدفها؟
منذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في سبتمبر 2000م، انتهجت إسرائيل علناً سياسة القتل والاغتيال المستهدف، وسعت إسرائيل من خلال تحديد هوية المقاومين الفلسطينيين ومعرفة مكانهم ثم قتلهم باستخدام طائرات الهليكوبتر الحربية والطائرات المقاتلة والسيارات المفخخة والرصاص والفخاخ، وقد استُشهِد بالفعل المئات من الفلسطينيين.
وفي عام 2023 وحده نفذت إسرائيل العديد من عمليات الاغتيال الغادرة بعناصر المقاومة والنشطاء السياسيين التابعين لمجموعات مختلفة في منطقة الشرق الأوسط، بما في ذلك أكثر من 55 عضوًا من حركة حماس، وقادة عسكريين ومسؤولين استخباراتيين وشخصيات سياسية من حركات فلسطينية ولبنانية وغيرها.
وبينما كانت إيران وإسرائيل منخرطتين في حرب سرية لسنوات، قتلت إسرائيل أيضًا أكثر من 12 عالمًا نوويًا وقائدًا عسكريًا داخل إيران نفسها، ويشمل ذلك اغتيال محسن فخري زاده، أكبر عالم نووي إيراني، في عام 2020م، تبرر إسرائيل استراتيجيتها في عمليات القتل المستهدفة باعتبارها امتدادًا لحقها في الدفاع عن النفس، ومن خلال تأطير الاغتيالات على أنها ضربات استباقية ضد التهديدات الوشيكة، تؤكد إسرائيل أنها تتصرف وفقًا لحقوقها القانونية، لكن في واقع الأمر فإن عمليات الاغتيال تلك تمثل انتهاكًا للقانون الدولي، كما أنها تأجج المزيد من العنف وتؤدي إلى مقتل مدنيين أبرياء وتفاقم التوترات الإقليمية، فإلى أي مدى يمكن أن يؤدي هذا التكتيك إلى تحقيق الأمن لإسرائيل أم أنه يولد دورة مستمرة من الانتقام والعنف؟
لا تأبه “إسرائيل” لما قد تثيره هذه الاغتيالات من اعتبارات قانونية وأخلاقية، ففي الغالب لا تهتم إسرائيل بأي عواقب دولية لهذه الممارسات
تبريرات إسرائيلية:
إن ممارسة الاغتيال الغادر، أو كما تسمّيه “إسرائيل” تلطفًا بالاغتيال المستهدِف، ليست جديدة على أجهزة الكيان الصهيوني، إذ كانت الجماعات اليهودية السرية في الفترة التي سبقت استقلال إسرائيل، مثل الهاجاناه وإرجون وليحي، تستشهد غالبًا بأمثلة توراتية وتاريخية قديمة لتبرير ممارساتها الخاصة بهذه الاغتيالات، ومنذ نشأتها في عام 1948م وحتى الوقت الحاضر، استخدمت إسرائيل سياسة القتل الغادر لتعزيز مصالحها، وعندما كانت حدة الصراع العربي الإسرائيلي مرتفعة، وخاصة إذا كان الخصم الرئيسي هو الفلسطينيون، ارتفع عدد عمليات الاغتيال، وفي أوقات السلام النسبي، مثل الفترة التي أعقبت توقيع اتفاقيات أوسلو للسلام في عام 1993م، فإن هذه الممارسة لم تختف تماما قط، ومن الصعب الحصول على أرقام دقيقة، لأن الإسرائيليين لا يعترفون علنًا عادة بمسؤوليتهم عن عمليات الاغتيال، ومع ذلك ففي أغلب الحالات يكون من الواضح من المسؤول.
لا تأبه “إسرائيل” لما قد تثيره هذه الاغتيالات من اعتبارات قانونية وأخلاقية، ففي الغالب لا تهتم إسرائيل بأي عواقب دولية لهذه الممارسات، وتريد إسرائيل من وراء القضاء على الشخصيات البارزة في حركات المقاومة إرسال رسالة إلى المجندين وعناصر المقاومة الآخرين حول المخاطر المترتبة على الانخراط في أي أنشطة مضادة للدولة العبرية، ومن تمّ إبعادهم عن تلك المجموعات، وقد حكمت المحكمة العليا الإسرائيلية في عام 2006م بأن اغتيال نشطاء المقاومة الفلسطينية مسموح به على أساس كل حالة على حدة، طالما تم أخذ الخطر الذي قد يتعرض له الإسرائيليون في الاعتبار.
لمحة تاريخية:
يمكننا أن نرى استمرار سياسة الاغتيالات الإسرائيلية من خلال لمحة تاريخية موجزة، وهذه مجرد أمثلة توضيحية وليست شاملة:
* في الخمسينيات من القرن العشرين، ركزت إسرائيل عمليات الاغتيال على الجهود الرامية إلى وقف هجمات الفدائيين من مصر. وقُتِل اثنان من كبار مسؤولي المخابرات العسكرية المصرية المسؤولين عن عمليات الفدائيين بواسطة قنابل بريدية أرسلتها المخابرات الإسرائيلية.
* في الستينيات، حققت سياسة الاغتيال الغادر نجاحًا ملحوظًا للإسرائيليين عندما تم إرسال قنابل بريدية مرة أخرى، ولكن هذه المرة إلى علماء ألمان كانوا يعملون على تطوير صواريخ قادرة على الوصول من مصر إلى إسرائيل في عهد الرئيس المصري جمال عبدالناصر، وقد انتهى الأمر بمغادرة من تبقى من العلماء وأسرهم إلى ألمانيا، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى إنهاء برنامج الصواريخ.
* في أعقاب انتصار إسرائيل في حرب عام 1967م، زادت إسرائيل من استخدامها لعمليات الاغتيال المستهدفة بشكل كبير، ففي عام 1971م تولى أرييل شارون قيادة وحدة خاصة مسؤولة عن تنفيذ هذه الاغتيالات، حيث حاولت القضاء على المسلحين الفلسطينيين في غزة، حيث تظاهر عناصر الوحدة بأنها مدنيون أو مقاتلون عرب، وقتلوا حينها 104 فلسطينيين من العناصر النشطة في المقاومة.
* في أعقاب أولمبياد ميونيخ 1972م، أنشأت إسرائيل “اللجنة إكس” برئاسة رئيسة الوزراء جولدا مائير ووزير الدفاع موشيه ديان، حيث أشرفت اللجنة على عدة مهمات اغتيال، قام خلالها عملاء جهاز الموساد، منها مطاردة واغتيال أعضاء منظمة أيلول الأسود بشكل منهجي، كما توالت العمليات وصولًا إلى اغتيال عدد من قادة منظمة التحرير الفلسطينية في إبريل 1973م في بيروت، تحت قيادة إيهود باراك، الذي أصبح رئيسًا للوزراء في وقتٍ لاحق.
* شهدت ثمانينيات القرن العشرين محاولات اغتيال عديدة، وفي أعقاب التدخل الإسرائيلي في لبنان في ربيع عام 1982م، حاولت إسرائيل عدة مرات قتل زعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، وعلى الرغم من استخدام السيارات المفخخة والهجمات الجوية، تمكن عرفات من الفرار سالمًا، وقد أعرب أرييل شارون لاحقًا عن أسفه لأن إسرائيل لم تقتل عرفات في لبنان عندما سنحت لها الفرصة للقيام بذلك، فيما تمكنت فرقة اغتيال إسرائيلية من اغتيال الرجل الثاني بعد عرفات، خليل الوزير (أبو جهاد)، في تونس في عام 1988م.
إذا نظرنا إلى الأمر ككل، فإن عمليات الاغتيال الغادرة التي قامت بها إسرائيل، وخاصة في الانتفاضة الثانية، لم تعزز أمن إسرائيل، وربما كلفت أرواحًا إسرائيلية أكثر مما أنقذتها
* لم تتوقف الاغتيالات في التسعينيات؛ إذ تسببت إحدى العمليات في استشهاد رئيس حركة الجهاد الإسلامي، فتحي الشقاقي، في مالطا في أكتوبر 1995م، كما تم اغتال جهاز الاستخبارات الداخلية الإسرائيلي (شين بيت)، يحيى عياش، مهندس صناعة القنابل في حماس، في غزة في يناير 1996م، وقد فشل الإسرائيليون في سبتمبر 1997م في اغتيال خالد مشعل، الرئيس السابق للمكتب السياسي لحماس في عمان، وألقت السلطات الأردنية القبض على عميلي الموساد قبل أن يتمكنا من مغادرة البلاد، ونتيجة لهذه الحادثة، ألحقت إسرائيل الضرر بعلاقاتها مع الأردن، وأثارت غضب كندا عندما تم الكشف عن أن عملاء الموساد استخدموا جوازات سفر كندية. ولعل الأمر الأكثر أهمية هو أن هالة القوة التي لا تقهر والذكاء التي أحاطت بالموساد قد تعرضت لخطر شديد.
* مع بداية الألفية الجديدة؛ وتحديدًا في أعقاب فشل اتفاقيات كامب ديفيد في صيف عام 2000م وزيارة أرييل شارون للحرم القدسي في أواخر سبتمبر، بدأت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، لم يكن هناك شيء جديد في سياسة الاغتيال المستهدف التي انتهجتها إسرائيل طوال تاريخها، ولكن الجديد كان حجم الجهود المبذولة لاغتيال النشطاء الفلسطينيين، إذ لم يسبق قط أن تم اغتيال هذا العدد الكبير من النشطاء في مثل هذه الفترة القصيرة من الزمن، وبسبب حجم حملة الاغتيالات آنذاك والاستخدام الواضح للأصول العسكرية الإسرائيلية، فقد اضطرت الحكومة الإسرائيلية إلى الاعتراف بدورها في عمليات الاغتيال تلك بدرجة أكبر بكثير من ذي قبل، على الرغم من أنها لا تزال ترفض بشكل روتيني إعلان مسؤوليتها عن عملياتها، ومن أبرز من استشهدوا خلال تل كالفترة؛ رئيس الجبهة الفلسطينية لتحرير فلسطين، أبو علي مصطفى، وأحد زعماء الحركة، رائد الكرمي.
* مؤخرًا تزايدت حالات الاغتيال الغادر في ظل استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في أعقاب عملية طوفان الأقصى؛ ومن أبرز الأسماء: رئيس المكتب السياسي لحماس، إسماعيل هنية، الذي تم اغتياله في طهران بعد حضوره تنصيب الرئيس الإيراني الجديد، وتم اغتيال صالح العاروري، القيادي بالحركة الذي اغتيل في ضربة بطائرة مسيّرة إسرائيلية في بيروت، وكذلك عماد مغنية، القائد العسكري لحزب الله الذي جرى اغتياله في دمشق، كما تم استُهدِف فؤاد شكر، أحد كبار نواب زعيم حزب الله، وقد تم اغتياله في قصف إسرائيلي في جنوب بيروت.
تكتيك ضار:
هناك حجج قوية تفيد بأن الاغتيال المستهدف هي سياسة غير فعالة، بل إنها يمكن أن تكون ضارة ويجب على إسرائيل التوقف عن اتباعها، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال النقاط التالية:
* لا يوجد دليل مقنع على أن الاغتيال المستهدف قد قلل من التهديدات ضد إسرائيل، كمثال على ذلك فإنه بحلول شهر مايو 2002م، أي بعد 18 شهرًا من عمليات الاغتيال المستهدفة التي نفذت على نطاق غير مسبوق، بلغ عدد الضحايا الإسرائيليين نتيجة أعمال المقاومة الفلسطينية أعلى مستوى له على الإطلاق، حيث بلغ نحو 500 قتيل.
* من الممكن بالطبع أن نزعم أن عدد القتلى الإسرائيليين كان ليكون أكبر من ذلك بكثير لولا عمليات الاغتيال المستهدفة، ولكن هذا افتراض يمكن دحضه، بأنه في كثير من الحالات كانت عمليات الاغتيال هي الدافع وراء تنفيذ المقاومين الفلسطينيين لعملياتهم كرد فعل مباشر لعمليات الاغتيال، على سبيل المثال تسبب اغتيال إسرائيل ليحيى عياش في حدوث 4 تفجيرات انتحارية انتقامية للحافلات الإسرائيلية، مما أسفر عن مقتل أكثر من 50 إسرائيليًا، وكمثال آخر وقعت أول عملية قتل لوزير إسرائيلي في أكتوبر 2001م، عندما قتل أعضاء الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين رحبعام زئيفي، وأعلنت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أنها قتلت زئيفي رداً على اغتيال إسرائيل لزعيمها أبو علي مصطفى قبل شهرين.
* يُضاف إلى ذلك أن الكيانات المقاومة ضد إسرائيل، مثل حماس والجهاد الإسلامي، تتسم بقدر كبير من اللامركزية، فهي تتألف من خلايا عديدة، ولا يؤثر استشهاد أحد قادتها إلا قليلًا، ولا يؤثر على غيرها من الفصائل، فضلاً عن ذلك فإن عدد الشباب الراغبين في الانضمام إلى حركات المقاومة أو تنفيذ عمليات انتحارية يبدو بلا حدود، وعلى مر السنين أثبتت حركات المقاومة قدرتها على التعافي من اغتيالات القادة، ومواصلة النمو في القوة.
* في الداخل الإسرائيلي؛ هناك من ينتقد هذا التكتيك، انطلاقًا من أنه إذا قتلت إسرائيل كل قادة المقاومة، فلن يتبقى أحد يتمتع بأي مكانة بين الفلسطينيين يمكن التفاوض معه أو ترتيب تسوية محتملة، وبالتالي فإن أعمال المقاومة ستخرج عن أي إطار يمكن أن يحدّها، ومن ثمَّ فإن المصالح الإسرائيلية ستتضرر بشدة.
* تضر سياسة الاغتيال المستهدف بأمن إسرائيل من خلال الإضرار بفعالية أجهزة الاستخبارات لديها، وذلك من خلال تحويل مواردها بعيدًا عن الاهتمام بالتهديدات الوجودية من أجل مكافحة التحديات الحرجة ولكن الأقل حيوية لأمنها، فمثلًا في أعقاب أولمبياد ميونيخ، ركزت إسرائيل كل اهتمام أجهزة استخباراتها على تعقب واغتيال عناصر جماعة أيلول الأسود الذين نفذوا عمليتهم، مما أدى جزئيًا إلى تحويل انتباه إسرائيل بعيداً عن التهديد المتزايد الذي تشكله مصر وسوريا، والذي أدى إلى وقوع إسرائيل في مفاجأة عند اندلاع حرب السادس من أكتوبر 1973م.
رب ضارة نافعة:
عززت سياسة الاغتيال المستهدف الإسرائيلية التعاون بين جماعات المقاومة الفلسطينية، فقد ظلت حركة الجهاد الإسلامي وحماس والسلطة الفلسطينية على خلاف مع بعضها البعض لفترة طويلة، ولكن لا شيء يوحد الخصوم مثل العدو المشترك، ففي جنازة أبو علي مصطفى، زعيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وضع زعماء حماس والجهاد والسلطة الفلسطينية خلافاتهم جانبًا وانضموا معا في روح الوحدة المعادية لإسرائيل، وهم من كانوا ليجدوا صعوبة في العمل معا لولا اغتيال أبو علي مصطفى، كما أدت عمليات الاغتيال المستهدف إلى تنشيط الروح الثورية المقاومة لدى الأجيال الناشئة من الفلسطينيين، وتجنيد متطوعين جدد للانضمام إلى فصائل المقاومة، ناهيك عن كشف المخبرين المتعاونين مع الاحتلال، وإثارة الإدانة الدولية للكيان الإسرائيلي.
إذا نظرنا إلى الأمر ككل، فإن عمليات الاغتيال الغادرة التي قامت بها إسرائيل، وخاصة في الانتفاضة الثانية، لم تعزز أمن إسرائيل، وربما كلفت أرواحًا إسرائيلية أكثر مما أنقذتها، إن الاغتيال سلاح الضعفاء، وهو يفيد أولئك الذين لديهم موارد محدودة، ومن الناحية النظرية أنه ما دامت العمليات العسكرية التقليدية هي المسيطرة، فإن إسرائيل سوف تظل في موقف قوي، لا سيما وأنها تمتلك طائرات مقاتلة متطورة بملايين الدولارات ودبابات حديثة يقودها طواقم مدربة، لكن عندما تتحول الساحة إلى عالم من الاغتيالات، فإن الشباب المسلحين بمتفجرات قيمتها بضع دولارات، والذين يتوقون إلى تحقيق النصر أو الشهادة، يصبحون قادرين على إلحاق أذى جسيم بإسرائيل، وبقدر ما تعمل إسرائيل على تحقيق تآكل في قواعد وقيادة الفصائل المقاومة، نجدها تعمل على تحويل الصراع على نحو يصب في مصلحة أشد خصومها ضراوة، وهذا ما نراه اليوم واقعًا في حرب غزة، فما من مقاوم يُستشهد إلا ويبرز العشرات غيره، وما من قائد يرحل، إلا ويأتي أشد بأسًا على العدو منه.
_____________________________________________________
الكاتب: أحمد مصطفى الغر
Source link