“سلامة القلب لله عز وجل – سلامة القلب للنبي ﷺ – سلامة القلب تجاه أصحاب رسول الله ﷺ – سلامة القلب تجاه العلماء وأصحاب الحق والفضل”
المقدمة:
إن من أجمل ما قرأتُ مؤخرًا كتاب “كيف يكون قلبي سليمًا؟” لفضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور أحمد عبدالرحمن النقيب، الأستاذ بقسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية، بكلية التربية، جامعة المنصورة، مصر. قال المصنف حفظه الله في وصف كتابه:
سلامة القلب: نعمة لا تعدلها نعمة، ومقصد يبتغيه كل العقلاء السالكين طريق الله! ومن أجله بُذِلت الأعمال الصالحة، بل من ثمراته كانت الأعمال الصالحة، إنه العلاقة المتنامية التي لا تتقاصر بین سلامة القلب والعمل الصالح، فمن رام سلامة قلبه وُفِّق إلى العمل الصالح، ومن وُفِّق إلى العمل الصالح، كان ذلك دليلًا على سلامة قلبه، فهيَّا جميعًا نعلم ونتعلم كيف يكون القلب سليمًا؛ للفوز في الدنيا والآخرة، وهذا أمل ورجاء كل مسلم مسافر إلى الله!
يمتاز هذا الكتاب بوضوح الرؤية العامة والأهداف والعبارة، بالأدلة من الكتاب والسُّنَّة والأثر، وهذه من نعم الله عز وجل وفضله على أتباع منهج السلف.
يقع الكتاب في سبع وثمانين صفحةً من القطع الصغير، وأصله محاضرة علمية بنفس عنوان الكتاب، متوفرة على شبكة الإنترنت، أُذِن بتفريغها، ثم عُدِّلت يسيرًا لتكون أنفع.
يدور محور الكتاب حول كيفية الوصول إلى القلب السليم الذي يلقى العبدُ بِه ربَّه عز وجل يوم القيامة، مصداقًا لقول ربنا عز وجل: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89].
قال المصنف حفظه الله:
لا ينفع مال ولا بنون، النفي هنا أتى بعده أداة الاستثناء للدلالة على معنى الاختصاص والحصر، فصارت النجاة مخصوصة لكل من سلم له قلبه، وصارت محصورة في الذين سلمت لهم قلوبهم، فظهر أن سلامة القلب شرط النجاة.
سليم: صفة للقلب، والصفات كما يقول علماء اللغة والأصول قيد في اللفظ، فالصفات فيها معنى التخصيص، فدلَّ ذلك على أن القلب المخصوص بالاستقامة والسلامة هو الذي ينجو صاحبه.
وبعد أن تحدث المصنف حفظه الله عن يوم القيامة وبعض من أهواله وأحواله، شرع يذكر كيف يُعِدُّ المرء نفسه وقلبه كي يكون سليمًا، وذلك ببيان أن سلامة القلب تعني تحصيل عدة واجبات، ذكر منها المصنف خمسة واجبات لكي يكون القلب سليمًا:
الواجب الأول: تجاه الله عز وجل.
الواجب الثاني: تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الواجب الثالث: تجاه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الواجب الرابع: تجاه العلماء وأهل الصلاح والفضل.
الواجب الخامس: تجاه المسلمين.
إذا حققت هذه الواجبات، كان القلب سليمًا.
الواجب الأول: سلامة القلب لله عز وجل:
وذلك بأن يكون قصد القلب متوجهًا لله عز وجل، لا يكون متوجهًا إلى الله ومع غير الله، أو يكون متوجهًا إلى غير الله عز وجل، أخرج البخاري في صحيحه (2810) عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَالَ: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ».
القلب المتوجه إلى الله عز وجل، القاصد له، الذي يرجو ما عند الله عز وجل هو الذي سلم لله عز وجل.
وأي مشكلة تقابلها في حياتك عليك بأمرين: كثرة الذكر والاستغفار، ودعاء الله عز وجل، وهذا لا ينافي الأخذ بالأسباب، ولكن يجب أن يتوجه القلب إلى ربِّ الأرباب ومُسبِّب الأسباب عز وجل.
الواجب الثاني: سلامة القلب للنبي صلى الله عليه وسلم:
وذلك يكون بعدة أمور تمثل مقامات يرتقي فيها المسلم للوصول إلى هذا الواجب بقوة، وهذه المقامات:
الأمر الأول: اعتقاد عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم:
هو رسول الله صلى الله عليه وسلم حقًّا، أرسله الله عز وجل للناس كافة، أخرج البخاري في صحيحه (438) عن جَابِرِ بْن عَبْدِاللهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ». قال الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، فهو رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة في كل الأزمان.
أخرج مسلم في صحيحه (153) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ».
الأمر الثاني: اعتقاد صدق النبي صلى الله عليه وسلم:
لا بد أن تعتقد أن النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، فهو صادق في كل ما أخبر به عن ربِّه عز وجل لفظًا أو مما أوحى إليه ربُّه من السنة، كله حق، قال الله عز وجل: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 2 – 5] أخرج أحمد في مسنده (17174) عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِب الْكِنْدِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ يَنْثَنِي شَبْعَانًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ»؛ (الحديث) .
الأمر الثالث: التعرف على النبي صلى الله عليه وسلم:
لا بد أن تتعرف على نبيِّك وحبيبك محمد صلى الله عليه وسلم، أن تعرف شيئًا من أخباره وأحواله وصفاته، أن تعرف شيئًا من سنته ودلائل نبوته، أن تعرف أعماله التشريعية والحياتية والحضارية والتربوية، كل على حسب طاقته وقدرته، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وهنا تأتي أهمية دراسة السيرة النبوية، فعندما تعرف شيئًا فعله النبي صلى الله عليه وسلم أو قاله، ماذا تصنع؟ تعتقد صدقه، ثم بعد ذلك تحب هذا الشيء، ثم بعد ذلك تطبقه، وتدعو إليه، وتنصره.
الأمر الرابع: محبة النبي صلى الله عليه وسلم:
فمن عرفه حقًّا أحبَّه صدقًا، أخرج البخاري في صحيحه (15) عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»، وهذه مسألة عظيمة يتفاوت فيها الناس بتفاوت علمهم وإجلالهم للنبي محمد صلى الله عليه وسلم.
الأمر الخامس: طاعة النبي صلى الله عليه وسلم:
قال الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 31، 32]، فكل من أحب الله عز وجل أحَبَّ رسولَه صلى الله عليه وسلم، ومن أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أطاع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، يقول الله عز وجل: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54]، فالهداية والفوز والفلاح بطاعته صلى الله عليه وسلم، أخرج البخاري في صحيحه (7280) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى».
الأمر السادس: نصرة النبي صلى الله عليه وسلم:
ننصر شخصه ووصفه وسُنَّته وشرعه وهديه، نذبُّ عنه كيد الكائدين وتأويل الزائغين المنحرفين، من الكفرة المجرمين وغلاة العلمانيين الفاسدين، ننشر سُنَّته ونُظهِرها ونعمل على تحبيب الناس فيها.
هذه المقامات الستة من فعلها كان قلبه سليمًا، ومن لم يأتِ بها كان في قلبه دَخَن بمقدار ما قصّر، إذًا كل واحد منا لا بد أن يعلم، ولا بد أن يسأل نفسه هذا السؤال: كيف قلبي مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ إذا سلم لك قلبك مع الله عز وجل، لا بد أن يسلم لك قلبك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالذي يحارب السنة ويشكك فيها، لا بد أن يكون مصابًا بخلل في قلبه، الإنسان الذي لا ينصر سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم وهو قادر على نصرتها، هذا دليل على خلل في قلبه، الإنسان الذي لا يطبق سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم وهي كثيرة، وهو قادر على تطبيقها، فعدم تطبيقه إياها هذا دليل على خلل في قلبه.
الواجب الثالث: سلامة القلب تجاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهنا مسائل لا بد من تركيزها:
أولًا: من هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
الصحابة جمع صحابي، وهو كل من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به، ولقيه ولو لحظة، ثم يموت على الإسلام، وهناك أناس كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أسلموا، ولكن لم يلقوه، فهؤلاء ليسوا من الصحابة، وهناك من لقي النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن مؤمنًا به، مثل أبي جهل، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأمية بن خلف، وغيرهم، كلهم لقي النبي صلى الله عليه وسلم لكنهم لم يؤمنوا به، بل حاربوه وكذبوه، وحذروا الناس منه ومن دعوته، وأيضًا لا بد أن يكون قد مات على الإسلام؛ ومن ثمَّ من ارتدَّ عن الإسلام ومات على ذلك ليس بصحابي، وكذلك المنافقون المعلوم نفاقهم ليسوا من الصحابة أيضًا، قال الله عز وجل في شأن المنافقين: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84].
ثانيًا: الصحابة كلهم عدول:
العدل هو العامل بطاعة الله عز وجل، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، والصحابة كلهم عدول، فلعدالتهم مدحهم ربنا الملك الجليل ورضي عنهم، وأحبهم، وخصَّهم بصحبة نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100]، وأخرج البخاري في صحيحه (2652) عَنْ عَبْدِاللهِ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ: تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ»، وقَرْنُ النبي صلى الله عليه وسلم هم الصحابة، والقَرْنُ معناه الجيل من الناس.
ثالثًا: الصحابة متفاوتون في الفضل:
كلهم على خير، وكلهم على بِرٍّ وتقوى، وهداية ودين، وعمل صالح، لكنهم متفاوتون في الفضل؛ فمقام أبي بكر رضي الله عنه أعلى من مقام عمر رضي الله عنه، ومقام عمر رضي الله عنه أعلى من مقام عثمان رضي الله عنه، ومقام عثمان رضي الله عنه أعلى من مقام عليٍّ رضي الله عنه، ومقام عليٍّ رضي الله عنه أعلى من مقام بعض الصحابة؛ كخالد، وأسامة، وعمار رضي الله عنهم. والبَدْريُّون مقامهم أعلى من الذين لم يشهدوا بَدْرًا، والذين هاجروا وجاهدوا وأنفقوا في سبيل الله مقامهم أعلى من الذين جاهدوا في سبيل الله وأنفقوا ولكن لم يهاجروا، والذين أسلموا قبل الفتح أعظم حالًا من الذين أسلموا بعد الفتح، وكلًّا وعد الله الحسنى، رضي الله عنهم، قال الله عز وجل: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد: 10].
رابعًا: في سلامة الصدر لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن الصحابي لا يتعمد مخالفة الشرع أبدًا، والمسائل التي زلَّ فيها بعض الصحابة، ما زلُّوا فيها إلا من جهة التأويل والاجتهاد، صحابي اجتهد وأخطأ، ولكنه لا يتعمد الخطأ، ثم إذا فعل الخطأ وجد من ينصحه ويعلمه، ففارق بين الذي يفعل المعصية وهو متأوِّل مجتهد، وبين الذي يفعلها قاصدًا عامدًا مبارزًا ربَّه بهذه المعصية. الصحابي لو اجتهد في المسألة وأخطأ فيها فإنه يأخذ أجرًا واحدًا؛ أخرج البخاري في صحيحه (7352) عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ»، والحاكم هو العالم المجتهد؛ لأنه حاكم على الناس، فالأمراء يحكمون الناس، والعلماء يحكمون الأمراء ويحكمون الناس؛ ولذلك قالوا: العالم أشرف من الحاكم؛ لأن الحاكم يحكم الناس، والعالم يحكم الناس ويحكم مَنْ يحكمهم، والصحابة علماء مجتهدون.
وسلامة القلب تجاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تكون بعدة واجبات:
الأمر الأول: محبة الصحابة:
لا بد أن نحب الصحابة؛ لجميل خصالهم، وسبق إسلامهم، وعظيم أفعالهم.
الأمر الثاني: نصرة الصحابة:
وذلك بالدفاع عنهم، فمن يذكرهم أو يذكر بعضهم بسوء، فاتَّهِمْه، واعلم أن قلبه زائغ عن الحق، رحم الله الإمام أبا زرعة حين قال: إذا رأيت الرجل ينتقص من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسُّنَّة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة.
وقال أحمد: إذا رأيت الرجل يذكر أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوء فاتَّهِمْه على الإسلام. وقال النسائي عندما سئل عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه فقال: إنما الإسلام كدارٍ لها باب، فباب الإسلام الصحابة، فمن آذى الصحابة إنما أراد الإسلام، كمن نقر الباب إنما يريد دخول الدار، فمن أراد معاوية رضي الله عنه فإنما أراد الصحابة.
الأمر الثالث: الترضِّي عن الصحابة:
فإذا ذُكر أي صحابي نقول: رضي الله عنه، وهذا عُرْف أهل الإسلام على مدار القرون، وهو عرف معتبر موافق لأدلة الشرع الحنيف، وهذه الكلمة تريح القلب، وتغيظ المبتدع المنحرف.
الأمر الرابع: الإمساك عمَّا شجر بينهم من نزاع:
يقول الله عز وجل: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134] فلا نتحدَّث ولا نخوض فيما شجر من خلاف أو نزاعات، فالله عز وجل لن يسألنا عن القتال الذي حدث بين عليٍّ ومعاوية رضي الله عنهما، وإن أراد أحد البحث في هذه المسألة ليتبين له وجه الحق في هذه الخلافات، فعليه بالمحررين المحققين الذين نخلوا الأقوال والمذاهب؛ كالقاضي ابن العربي المالكي، وابن تيمية، وغيرهم.
الأمر الخامس: الدعاء للصحابة الكرام:
فإذا ذكرناهم ذكرنا خيرهم وفضلهم وبِرَّهم وإحسانهم وعلمهم واجتهادهم، فأكثرنا الدعاء لهم، فإن الدعاء للمعيَّن دليل على محبته، أخرج مسلم في صحيحه (2732) عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَدْعُو لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ إِلَّا قَالَ الْمَلَكُ: وَلَكَ بِمِثْلٍ».
الواجب الرابع: سلامة القلب تجاه العلماء وأصحاب الحق والفضل
ما قلناه عن الصحابة نقوله عن العلماء سواء بسواء، باستثناء تعريف الصحابي؛ لأن العلماء ليسوا صحابة.
للعلماء وأصحاب الحق ثلاثة حقوق:
الأمر الأول: أن نعتقد اعتقادًا جازمًا بفضلهم وخيريتهم وعلمهم وصلاحهم.
الأمر الثاني: الاعتقاد أن العلماء متفاوتون في الفضل والعلم:
فلا نضرب العالم بالعالم، ولا نضرب فتوى بفتوى، فكلهم أفاضل، عدول، على خيرية، ومن فروع ذلك ألا نذكرهم إلا بخير، وأن نتجاوز عن زلَّاتهم العلمية، وأن ننصحهم برفق، وأن نكثر من الدعاء لهم.
الأمر الثالث: إذا ظهر الحق مع أحدهم وجب المصير إليه:
فلو أن عالمًا أفتى في مسألة باجتهاده، وأفتى عالم آخر في المسألة نفسها بالنص، ماذا نصنع؟ نذهب إلى النص، ونحترم الاثنين.
الأمر الرابع: خذ من العالم ما ينفعك ودَعْ عنك ما يؤذيك:
فلو أن عالمًا من العلماء على خُلُق سيئ، ما حقي نحوه؟ نأخذ منه علمه، ونترك له هذا الخُلُق غير الفاضل، وكذلك الحال في رقة الديانة، لو كان العالم قوي العلم، نأخذ منه علمه، والله سبحانه وتعالى يحاسبه على رقَّة دينه. صورة المسألة أن هناك واجبين منفصلين نظريًّا: إبلاغ العلم، والعمل بالعلم، فنأخذ من العالم علمه، ونترك عمله لربِّه.
الواجب الخامس: سلامة القلب للمسلمين
الإسلام يحقق المؤاخاة بين أبنائه، قال الله عز وجل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103].
وتكون سلامة القلب للمسلمين بأمرين:
الأمر الأول: تحقيق الموالاة الإيمانية:
فأنا أحب أخي المسلم في الباطن، وأنصره في الظاهر، وما تفككت ديار المسلمين إلا لأنهم لم يحققوا الموالاة الإيمانية.
الأمر الثاني: لا ضرر ولا ضرار:
أخرج مسلم في صحيحه (2564) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَا هُنَا وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ».
ليس من الإسلام أن تحرص على مصالحك بإضرار غيرك، أو أن تدفع الأذى عن نفسك بأن تضر غيرك، وهذه في الحقيقة ثمرة من ثمرات الموالاة الإيمانية.
الخاتمة:
هذه سلامة القلب، فمن سلم قلبه لله عز وجل، وسلم قلبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلم قلبه لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلم قلبه للعلماء وأصحاب الحق والفضل من المسلمين، وسلم قلبه لإخوانه من المسلمين السنة، فهذا صحيح القلب، سالم القلب، وأرجو أن يكون من أهل قوله تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89] وسلامة القلب بهذا المفهوم رزق ومِنَّة من الله الجليل، لا يُنال إلا بفضل الله عز وجل أولًا، ثم بالجهد والتعب دعاءً لا ينقطع، وعملًا صالحًا لا خور فيه، ثم الطمع برزق الله، وما أحسن رزقه ورغده وجوده وإحسانه!
اللهَ تعالى أسأل أن يهدينا إلى كل خير، وأن يسلم قلوبنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يهدينا ويهدِي بنا، وأن يبارك للمسلمين في دينهم وأعمارهم وأزواجهم وأولادهم وقراباتهم وأحبابهم وأموالهم، وأن يكون لهم عونًا ونصيرًا ومددًا وظهيرًا، وأن ينصر المسلمين ويُسدِّد رميهم، وأن يحفظهم بحفظه، وصلى الله وسلم وبارك على النبي الحبيب محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
________________________________________________
الكاتب: أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
Source link