إن الناس اليوم بحاجة إلى مَن يبثُّ في نفوسهم الأمل، ويُيسِّر لهم طريق الخير؛ بتعزيز استِحضار النماذج المُشرِقة
لقد جعل الله – تعالى – الحياةَ الدنيا كثيرةَ التقلُّب؛ لا تستقيم لأحد على حال، ولا تصفو لمخلوق مِن الكدَر، ففيها خير وشر، وصلاح وفساد، وسُرور وحزن، وأملٌ ويأس، ويأتي الأمل والتفاؤل كشُعاعَين يُضيئان دياجيرَ الظَّلام، ويَشقَّان دروب الحياة للأنام، ويَبعثان في النفس البشرية الجدَّ والمُثابرة، ويُلقِّنانها الجلَد والمُصابَرة، فإن الذي يُغري التاجرَ بالأسفار والمُخاطرة: أملُه في الأرباح، والذي يَبعث الطالبَ إلى الجدِّ والمُثابَرة: أمله في النجاح، والذي يُحفِّز الجنديَّ إلى الاستِبسال في أرض المعركة: أملُه في النصر، والذي يُحبِّب إلى المريض الدواءَ المرَّ: أمله في الشِّفاء والطُّهْر، والذي يدعو المؤمن أن يخالف هَواه ويطيع مولاه: أمله في الفوز بجنَّته ورضاه، فهو يُلاقي شَدائدها بقلب مُطمئنٍّ، ووجه مُستبشِر، وثَغرٍ باسم، وأملٍ عريض، فإذا حارَب كان واثقًا بالنصر، وإذا أعسَر لم يَنقطِع أمله في تبدُّل العسر إلى يسْر، وإذا اقترف ذنبًا لم ييئس من رحمة الله ومَغفرته؛ تعلُّقًا وأملاً بقول الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، وما أجملَ الآياتِ الكريمةَ التي تتحدَّث عن الأمل! وتبثُّ روح التفاؤل بين المسلمين!
فانظر إلى أمنيات الأنبياء والمرسلين والتي صوَّرها القرآن الكريم؛ فهذا إبراهيم – عليه السلام – قد صار شيخًا كبيرًا ولم يُرزَق بعدُ بولد، فيدفعه حسْن ظنِّه بربه أن يدعوَه: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100]، فاستجاب له ربُّه ووهب له إسماعيلَ وإسحاق – عليهما السلام.
ونبي الله يعقوب – عليه السلام – فقَد ابنَه يوسفَ – عليه السلام – ثم أخاه، ولكنه لم يتسرَّب إلى قلبه اليأسُ، ولا سرَى في عروقه القنوطُ، بل أمَّل ورَجا وقال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف: 83]، وما أجمله من أمل تُعزِّزه الثقةُ بالله – سبحانه وتعالى – حين قال: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].
وأيوب – عليه السلام – ابتلاه ربه بذَهاب المال والولد والعافية، ثم ماذا؟ قال الله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: 83- 84].
وانظر – أخي الكريم – إلى سورة الشَّرحِ التي كانت تتضمَّن اليُسر والأمل والتفاؤل للنبي – صلى الله عليه وسلم – وتذكير النبي – صلى الله عليه وسلم – بنعم الله عليه، ثم اليُسر بعد العُسْر، والطريق لهذا اليُسر هو النَّصَب والطاعة لله – عز وجل – والرغبة والأمل في موعود الله – عز وجل – قال تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 1 – 8].
والنبي – صلى الله عليه وسلم – من خلال أحاديثه الشريفة، ومَواقِفه العظيمة، وتوجيهاته الرائعة – يحثُّنا على التحلي بالأمل والتفاؤل؛ فلقد كان رسولنا – صلى الله عليه وسلم – يُعجبه الفأل؛ لأنه حسْن ظنٍّ بالله – سبحانه وتعالى – فقد أخرج البخاري ومسلم عن أنس – رضي الله عنه – أن نبي الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «لا عدوى ولا طِيَرة، ويُعجِبني الفأل: الكلمة الحسنة، الكلمة الطيبة»، فبالأمل يَذوق الإنسان طعم السعادة، وبالتفاؤل يُحسُّ ببهجة الحياة[1]، والإنسان بطبعه يحبُّ البُشرَى وتطمئنُّ إليها نفسه، وتمنحه دافعًا قويًّا للعمل، بينما التَّنفير يُعزِّز مَشاعر الإحباط واليأس لديه، ويُصيبه بالعزوف عن القيام بدَوره في الحياة؛ ولذلك قال – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الذي رواه أنس بن مالك – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «يسِّروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تُنفِّروا».
ولقد عاب النبي – صلى الله عليه وسلم – على الذين يُنفِّرون الناس، ويَضعون الناس في موقع الدُّونيَّة والهزيمة النفسيَّة، فقال – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه -: «إذا قال الرجل: هلك الناس، فهو أهلَكهم»، قال أبو إسحاق: لا أدرى “أهلكَهم” بالنَّصْب (الكاف)، أو “أهلكُهم” بالرفع؟
وهذا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذي أرسله الله بشيرًا ونذيرًا، مكث في مكة ثلاثةَ عشر عامًا يَدعو إلى الإسلام، فجابَه طواغيتُ الشرك وعُبَّاد الأوثان دعوتَه بالاستهزاء، وآياتِ ربِّه بالسُّخرية والعداء، وأصحابَه بالأذى والضراء، غير أنه لم يَضعُف عن مبدئه ولم يَستكِنْ، ولم يَنطفِئ في صدره أمل الغلَبة والظفر، وحين اشتدَّ عليه وعلى صاحبه الطلَبُ أيام الهِجرة إلى حدِّ أن وقف المشركون فوق رؤوسهما، وهو – صلى الله عليه وسلم – يقول لأبي بكر – رضي الله عنه – بلُغَة الواثق بربه – سبحانه وتعالى -: «ما ظنُّك باثنَين اللهُ ثالِثهما» ؟[2].
وقد بشَّرنا النبي – صلى الله عليه وسلم – بانتِصار الإسلام وظُهورِه مهما تكالَبتْ عليه الأعداء، وتألَّبتْ عليه الخُصوم؛ فعن تَميم الداري – رضي الله عنه – قال: سمعتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلَغ الليل والنهار، ولا يَترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدِّين بعِزِّ عَزيز أو بذُلِّ ذليل، عزًّا يُعزُّ الله به الإسلام، وذلاًّ يُذلُّ الله به الكفْر»[3].
إذا أردنا أن نُصلِح المُجتمَع، فإن علينا أن نعلَم أنَّ أيَّ واقع لن يخلو مِن عَناصرَ إيجابيَّة وأخرى سلبيَّة، ومُهمَّة المُصلِح لا تبدأ من الصفر، بل هي تَنبيه الناس إلى الإيجابيات الموجودة بينهم وتقويتها، وتقليل السلبيات ومُحاصَرتها، أي أن نتقبَّل عنهم أحسن ما عَملوا ونتجاوَز عن سيئاتهم، والقرآن الكريم له منهج رائع، وهو أنه يَبدأ بذكر الإيجابيات ويؤخِّر ذِكرَ السلبيات، حتى وإن كانت الإيجابيات قليلةً والسلبيَّات هي الغالِبة، فحين تحدَّث عن أهل الكتاب – ونحن نعلم أن أكثرهم ضلُّوا الطريق – بدأ بذكْر القِلَّة التي ظلَّت ثابتةً على إيمانها؛ فقال: {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110]، وحين تحدَّث عن مُعامَلاتهم بدأ بالإيجابي، وهو: {مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75]، وبعدها ذكَر الفريق الثاني الذي لا يُحافظ على الأمانة، وهو: {مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75]، رغم أنه الفريق الأكثر عددًا.
بالعودة إلى منهج القرآن في التعامل مع حادثة الإفك، وهي قضية حسَّاسة نُواجِه مثلَها كثيرًا في حياتنا، فحين نتأمَّل سورة النور نجد أن مُعالَجة القرآن تركَّزتْ في المقام الأول على تفاعُل الناس مع الإشاعة وليس على مَضمون الإشاعة، فلم يكن الجزْء الأكبر مِن المُعالَجة القرآنية هو نفي وقوع الحادِثة، ونحن نعلم يقينًا أنها إفْك وافتِراء على أُمِّنا الطاهِرة المُطهَّرة بنت الصديق – رضي الله عنها – لكن أولويَّة القرآن كانت هي تحذير الناس من مجرَّد الخَوض في مثل هذه الشائعات مستقبلاً؛ {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [النور: 15]، {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} [النور: 17]؛ وذلك لأن إشاعة الحديث عن الفاحشة هو أخطر مِن الفاحِشة ذاتها، على افتراض أنها وقعتْ، فلو ضَعُفتْ نفس إنسان وعصى الله في السرِّ، فإنه يَبوء بإثمِه وحده، بينما تبقى الصورة العامَّة للمجتمع ناصعةً مُشرِقةً باعثةً للأمل، أما تلقِّي الناس لمثل هذه الأحاديث بألسنتِهم وتَداوُلها في مَجالِسهم، فإن ضرره يَطول المجتمع بأسره؛ وذلك لأنه يُهيِّئ الأجواء للمزيد من الانحرافات، إذ تتعزَّز الأخيلة والخواطر المريضة التي تُزيِّن لصاحبها البحث عن الحرام، كما أن هذا الحديث يعدم ثِقَة الناس بعضهم ببعض، ويُعزِّز الريبة والشك، ويَقتل مَشاعر الحبِّ والخير في نُفوسِهم؛ مما يؤدِّي بالمجتمع إلى الهلاك.
إن الإسلام يريد أن يُطهِّر قلوبنا مِن التصوُّرات السلبية، والأخْيِلة المَريضة، وألا يَكون تفكير الناس نحو أرجلِهم؛ بل تَنصرِف همَّتُهم إلى معالي الأمور، وأن يَشغلوا أنفسهم بالعمل الإيجابيِّ المُثمِر، الذي يَجلب لهم خير الدنيا والآخِرة وسعادتهما.
إن الناس اليوم بحاجة إلى مَن يبثُّ في نفوسهم الأمل، ويُيسِّر لهم طريق الخير؛ بتعزيز استِحضار النماذج المُشرِقة؛ حتى يتَّخذونها أسوةً تُبلِّغهم الطريق، أما فقه (زمن الفتن)، فإنه لن يُساهِم في أي رِفعة أو حَضارة، وهو سيُؤدِّي إلى اعتِزال المُخلِصين لمُعترَك الحياة، والعضِّ على جذْع شجَرة بالنواجِذ، وترْك الساحة لأصحاب المبادئ الهدَّامة[4].
[1] “التفاؤل والأمل” من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الكويت.
[2] أخرجه البخاري ومسلم.
[3] أخرجه أحمد.
[4] “بشِّروا ولا تُنفِّروا”؛ أحمد أبو رتيمة، يقظة فكْر.
____________________________________________________
الكاتب: حسام العيسوي إبراهيم
Source link