طفولة النبي صلى الله عليه وسلم

كان في طفولة النبي صلى الله عليه وسلم إرهاصاتٌ ومؤشراتٌ على أن هذا الصغير سيكون له شأنٌ أي شأن، والبداية كانت قبل مولده، حيث والداه: عبد الله بن عبد المطلب وآمنة بنت وهب.

{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 6 – 11].

 

كان في طفولة النبي صلى الله عليه وسلم إرهاصاتٌ ومؤشراتٌ على أن هذا الصغير سيكون له شأنٌ أي شأن، والبداية كانت قبل مولده، حيث والداه: عبد الله بن عبد المطلب وآمنة بنت وهب.

 

فعبد الله والدُ النبي صلى الله عليه وسلم وأصغر أبناء عبد المطلب وأحبُّهم إليه، وقعت عليه قرعة الذبح في نذر أبيه في حفر زمزم – كما سيأتي لاحقًا – لكنه فُدي بمائة من الإبل، وما أن تزوج آمنة بنت وهب، ولم يلبَث معها إلا ثلاثة أيام، سافر بعدها للتجارة، مرِض في طريق العودة، ومات ودُفن بالمدينة، كانت أمه آمنة في شهرها الثاني من حملها، وكأن مهمة عبد الله في الدنيا أن يضَع نطفته ثم يرحَل، ثم تأتي أمه بعد ذلك لتؤكد هذا الدور الرباني، ويتركان هذا الطفل تعمل فيه يد الأقدار، ويتولاه ربُّه الذي خلقه لتلك المهمة العظيمة.

 

أرضعته ثُويبة مولاة أبي لهب أيامًا، ثم استُرضع له في بني سعد، فأرضعته حليمة السعدية، وأقام عندها في بني سعد نحوًا من أربع سنين.

 

قدِم مرضعات بني سعد إلى مكة ومعهنَّ حليمة السعدية، عُرِضَ محمد عليهنَّ جميعًا، فأعرَضنَ عنه، وظفِرت كلُّ مرضعة بطفل يُتوقَّع معه أن تحصُل على مال، وحدَه محمد لم يجد من تُقبِل عليه، ومَن تقبل على طفل يتيم وأمُّه لا مال لها، وليست من الثريات؟

 

ولَما لم تجد حليمة السعدية طفلًا تأخذه؛ لم يكن بُدٌّ من أخذ هذا اليتيم، ولسان حالها يقول: رجوعي بهذا الطفل خيرٌ من رجوعي خالية.

 

سألها جده عبد المطلب: ما اسمك؟

 

قالت: حليمة.

 

من أي الديار؟ سألها.

 

قالت: من بني سعد.

 

فقال: بخٍ بخٍ، حلم وسعد، خصلتان إذا اجتمعتا، ففيهما خير الدهر وعزُّ الأبد.

 

ولم يقتصر الأمر على حليمة السعدية في التفاؤل بما حملته في اسمها من حلم وسعد؛ فأمه آمنة، وقابلته الشفاء، وحاضنته أم أيمن؛ حيث البركة في اليمن، والثواب في مرضعته الأولى ثويبة، أخذت حليمة اليتيم وهي لا تتوقع من ورائه مالًا، لكن وجهه أوحى لها بأن هذا الطفل يحمل من الإشراق ما لم ترَه في وجه طفل قبلُ، وظهرت بركة الطفل سريعًا، كانت حليمة في طريق العودة في أول الركب! فنظرت صواحبها بتعجُّب: كيف لحليمة بأتانها (أنثى الحمار) المريض – ذاك الذي كان في مؤخرة الركب في رحلة الذهاب – أن يكون في المقدمة!

 

إنه هذا المبارك الذي ستتحول الأرض به من الشقاء والضلالة إلى السعادة والهداية.

 

وقد ظهرت بركته صلى الله عليه وسلم على حليمة السَّعدية في أشياء كثيرة، منها: إدرار ثدييها، وغزارة حليبها، وقد كان لا يكفي ولدها، وظهرت بركته في شياههم العجفاوات التي لا تدرُّ شيئًا، وإذا بها تفيض من اللَّبن الكثير الذي لم يُعهد.

 

وقد التفتَ زوج حليمة مبكرًا لهذا الأمر، فقال لها في صبيحة اليوم التالي: والله يا حليمة لقد أخذتِ نسمة مباركة، فقالت: والله إني لأرجو ذلك.

 

بعد عامين من الرضاعة تَم فِطامُه صلى الله عليه وسلم، وكان على حليمة أن ترجعه لأمه، لكنها رأت البركات المتتاليات فيه، فما زالت ترغِّب أمَّه في أن يبقى في حضانتها حيث الجو الصحي، وحذَّرتها من جو مكة، فوافقت آمنة على أن يظل في ديار بني سعد، وفي حضانة حليمة لبعض الوقت.

 

وهنا تنتصر آمنة بعقلها على عاطفتها، فمعروف في علم النفس أن الأم ألصق بطفلها، لا سيما إذا كان يتيمًا، ويزداد التوحد معه إذا لم يكن لها إلا هو، فيصبح كل حياتها، لكنها برجاحة العقل تترك الطفل يعود أدراجه للبادية؛ ليعود ذلك عليه بالصحة والفصاحة بعد ذلك.

 

فرجعت حليمة به صلى الله عليه وسلم، وبقي في ديارها بني سعد حتى بلغ أربع سنوات.

 

أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان في بني سعد، فأخذه، فصرعه، وشقَّ عن قلبه؛ فاستخرج القلب، فاستخرج منه عَلَقَةً، فقال: هذا حظُّ الشَّيطان منك، ثمَ غسله ثم أعاده في مكانه.

 

وقد امتنَّ الله تعالى عليه بهذا التطهير، فقال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 1 – 8].

 

وجاء الغلمان يسعون إلى حليمة، فقالوا: إنَّ محمدًا قد قُتل، فاستقبلوه؛ وهو مُنْتَقِعُ اللون، دخل الخوف قلب حليمة وزوجها؛ فردته إلى أمِّه إثر ذلك.

 

 

في تلك السنوات الأربع كانت القلوب متجهة لبني سعد، حيث وجود الحبيب صلى الله عليه وسلم، أخذت أمه في الرضاعة – حليمة السعدية – كامل الأضواء، تاركة أمه الوالدة -آمنة بنت وهب – في زوايا دارها بمكة، وقد تراكمت عليها سنوات الترمل المبكر وسنوات فراق الابن الوحيد، لا يخفف من قتامتها إلا شوقُ اللقاء القريب.

 

استقبلت آمنة خبر وفاة عبد الله بتلك الأبيات:

عفا جانبُ البطحاء من ابن هاشم   **   وجاور لحدًا خارجًا في الغماغــــــم 

دعتْه المنايا دعوةً فأجابهــــــــــا   **   وما تركت في الناس مثل ابن هاشم 

عشيةَ راحوا يحملون سريــــــره   **   تعاوَره أصحابُه في التزاحــــــــــــم 

فإن يكُ غالتْه المنايا ورَيْبُهـــــــا   **   فقد كان معطاءً كثيرَ التراحــــــــــم 

 

كانت أمُّه صلى الله عليه وسلم من سلالة الأوفياء، فلم تنسَ ذكرى حبيبها الذي تركها حبلى وسافر قاصدًا الشام ابتغاء الرزق، ولم يُوَفِّه الأجل أن يرى فلذة كبده، وآثر القدر أن يكون آخر عهده به أن يكون علقة في رحم أمه.

 

مات وهو في الخامسة والعشرين من عمره، بعد عملية فداء شبِع منها الإنس والسباع، حيث ذُبحت مائة ناقة، ولم يمر أكثر من ثلاثة أشهر على تلك الحادثة المشهودة؛ لأن مهمته في الحياة اقتصرت على أن يضع نطفته في رحم آمنة، ثم يرحل في صمت.

 

هزَّ أمُّه الشوق لذكرى زوجها عبد الله، مؤثرة أن يظل طفلها على وصال بأبيه الذي فارق الحياة، اصطحَبت اليتيم ومعهما خادمتها أم أيمن – تلك التي ورَّثها إياها عبد الله – وقصدوا جميعًا مكة، وإنها لرحلة صعبة على امرأة لم تعتدْ مثل هذا السفر الطويل، في تلك البيداء الموحشة بهجيرها اللافح، لكنها جينات الوفاء التي ربَطتها بحبيها عبد الله، وتريد أن تظل باقية موصولة بابنها الصغير.

 

مكثت شهرًا، وبينما هي راجعة للمدينة إذ يلاحقها المرض ويلحُّ عليها، وتفارق الحياة وهي بالأبواء – بين مكة والمدينة – تاركة هذا اليتيم – صاحب السنوات الست – بين قبرين كبيرين، ووحشة ولوعة لا تُوصف.

 

وإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم ولد يتيمًا؛ حيث موت أبيه وهو في بطن أمه، فقد لحقت أمُّه بركب المفقودين وهو في السادسة من عمرة؛ فيصبح صلى الله عليه وسلم لطيمًا، حيث اجتمع فيه فقْد الأب والأم معًا.

 

بعد موت أمه حضَنته مولاة أبيه أم أيمن بركة – أم أسامة بن زيد – حِب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن حِبه زيد بن حارثة، فوصلت به أم أيمن مكة المكرمة، فسلمته لجده عبد المطلب.

 

كفله جدُّه عبد المطلب، فعاش في كفالته، وكان يؤثره على أبنائه؛ أي: أعمام النَّبي صلى الله عليه وسلم.

 

فكان لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة، وكان أولاده يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج أبوهم، ولا يجلس أحد عليه إجلالًا لوالدهم، وحده هذا الطفل اليتيم كان يَكسِر تلك القواعد، فيجلس على الفرش، فيحاول أعمامه أن يُبعدوه عن المجلس، فيمنعهم جده، مرددًا: دعوا ابني، فوالله إن له لشأنًا.

 

وهكذا كتبت الأقدار لهذا الصغير أن ينشأ في ظلال الكعبة المشرفة، وكان لتقريب جده له ومصاحبته إياه وهو بعد طفل صغير الأثر الكبير في صقل شخصيته؛ حيث مجالسة عِلية القوم وسادتهم.

 

وحينما قرُبت وفاة جده، وأيقن أن أجله بات قريبًا انشغل خاطره بهذا اليتيم، وأخذ يفاضل بين أبنائه؛ أيهم يكفل محمدًا؟

 

كان الحارث أكبرهم، والعباس أيسرهم وأغناهم، لكنه على الرغم من ذلك أوكله إلى أبي طالب، على الرغم من ضيق يده وكثرة عياله، ولعل جده كان في اختياره لأبي طالب يبحث للصغير عن الدفء والحنان، ذاك الذي امتاز به عن بقية إخوانه.

 

باغت الموت الجد ولم تلتأم جراح اللطيم بعدُ، فيتركه وهو في الثامنة من عمره، عاهدًا بكفالة حفيده لابنه أبي طالب، شقيق والده عبد الله.

 

إن هذا التتابع في الفقد لهذا الطفل الذي تيتَم – بفقد الأب – وهو في بطن أمه، ثم تلطم -بفقد أمه – وهو في السادسة من عمره، لم يمر عامان إلا ويفقد جده عبد المطلب الذي كفله!

كل ذلك لتصير أموره على بصيرة من الله، وليصنع على عينه؛ فيأويه ثم يؤدِّبه سبحانه وتعالى.

 

نِعمَ اليَتيمُ بَدَت مَخايِلُ فَضلِهِ   **   وَاليُتمُ رِزقٌ بَعضُهُ وَذَكاءُ 

 

 

 

انتقلت كفالة الصغير إلى عمه أبي طالب، فمكث عنده، وتربَّى مع أولاده، وظل عمه يدافع عنه بعد النبوة، رغم أن العم قد مات على الكفر.

 

وكان عمه يرى فيه البركة، روى علماء التاريخ أن قريشًا جاءت أبا طالب، فقالت: يا أبا طالب، أقحط الوادي، وأجدب العيال، فهلُمَّ فاستسق، فخرج أبو طالب ومعه غلامه المبارك، فأخذه أبو طالب وألصق ظهره بالكعبة، ولاذ بإصبعه للغلام، وما في السماء حتى سحابة صيف، فأقبل السحاب من هنا وهناك، وانفجر الوادي، وإلى هذا أشار أبو طالب حين قال:

وأبيضُ يُستسقى الغمام بوجهه   **   ثَمال اليتامى عصمةٌ للأرامل 

 

 

 

وكان عمه يَصحبه في تجارته، ففي السيرة النبوية لابن هشام خرَج عمُّه أبو طالب تاجرًا في ركب إلى الشام، واصطحَبَ معه الصغير وهو وقتَها ابن اثنتي عشرة سنةً تقريبًا.

 

 

ونزَل الركب بُصرى من أرض الشام، وكان بها راهبٌ يقال له: بحيرى في صومعة له، ولم يزل في تلك الصومعةِ راهبًا فيها، إليه يَصيرُ عِلم كتب النَّصارى وأحبارِهم الذين يتوارَثونه كابرًا عن كابر.

 

 

وكانوا كثيرًا ما يَمرُّون ببحيرى فلا يُكلِّمهم ولا يعرض لهم، ولكن في ذلك العام لَمَّا نزلوا قريبًا من صومعته، صنَع لهم طعامًا كثيرًا، وذلك لشيء رآه وهو في صومعته؛ حيث رأى محمدًا في الركب حتى أقبل وغمامة تُظلِّله مِن بين القوم، ثم أقبَلوا فنزلوا في ظل شجرة قريبًا منه، فنظر إلى الغمامة حين أظلَّت الشجرة ومالت أغصانُ الشجرةِ على الغلام حتى استظلَّ تحتها، فلمَّا رأى ذلك بحيرى نزل من صومعته، وقد أمر بطعام فصُنع، ثم أرسل إليهم فقال: إني صنعتُ لكم طعامًا يا معشر قريش، فأنا أحب أن تَحضُروا كلُّكم: كبيرُكم وصَغيرُكم، عبدُكم وحُرُّكم، فقال له رجل منهم: واللهِ يا بحيرى إن لك لشأنًا اليوم! ما كنتَ تصنَع هذا بِنا، وقد كُنَّا نَمرُّ بك كثيرًا، فما شأنك اليوم؟ قال له بحيرى: صدقتَ، قد كان ما تقولُ، ولكنَّكم ضيوفٌ، وقد أحببتُ أن أُكرِمكم وأصنع لكم طعامًا، فتأكُلوا منه كلكم، فاجتمَعوا إليه، وتخلَّف محمدًا من بين القوم لصغر سنِّه، وجلَس بجوار رِحال القوم تحت الشجرة، فلمَّا رآهم بحيرى، لم يرَ الصِّفةَ التي يَعرفها ويجدها عنده في كتبه، فقال: يا معشرَ قُريشٍ، لا يتخلَّفنَّ أحدٌ منكم عن طعامي، قالوا: يا بحيرى، ما تخلَّفَ أحدٌ ينبغي له أن يأتيك إلا غلامٌ، وهو أحدثُنا سنًّا، فتخلف في رحالنا، قال بحيرى: لا تفعلوا، ادعوه فليَحضر هذا الطعام معكم، فقال رجل من قريش مع القوم: واللات والعزى، لقد كان شيئًا قبيحًا مِنَّا أن نَحضر نحن الطعام ويتخلف عنه محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب من بينِنا، ثم قام إليه فاحتضَنه وأجلَسَه مع القوم.

 

 

فلمَّا رآه بحيرى، جعل يلحظه لحظًا شديدًا، ويَنظُر إلى أشياء من جسده قد كان يَجِدها عنده من صفته في كتب النصارى، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرَّقوا، قام إليه بحيرى وقال له: يا غلام، أسألك بحق اللات والعُزى إلا أخبَرتني عما أسألك عنه، وإنَّما قال له بحيرى: “بحق اللات والعزى”؛ لأنه سمع قومه يَحلِفون بهما.

 

فقال الغلام له: (لا تسألني باللات والعُزَّى شيئًا، فوالله ما أبغضت شيئًا قَطُّ بُغضهما)، وكان يكره الأصنام حتى قبل بعثه.

 

 

فقال له بحيرى: فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه؟

 

 

فقال له: سَلْني عمَّا بدا لك.

 

 

فجعَل يسأله عن أشياء من حاله من نومه وهيئته وأموره، ومحمدٌ يُخبِره، فوافقَ ذلك ما عند بحيرى من صفته، ثم نظَر إلى ظهره، فرأى خاتم النبوة بين كتفَيه موضعَه من صفته التي عنده.

 

 

ثم قال بحيرى: هذا سيدُ العالمين، هذا رسولُ ربِّ العالَمين، يبعثه الله رحمةً للعالَمين.

 

 

قال له أشياخ من قريش: ما علمك؟

 

 

فقال بحيرى: إنكم حين أشرفتُم من العقبة لم يبقَ حجر ولا شجر إلا خرَّ ساجدًا، ولا يَسجُدان إلا لنبي، وإني أعرِفه بخاتم النبوة أسفلَ مِن غُضروف كتفه.

 

 

ثم أقبل على عمِّه أبي طالب فقال: ما هذا الغلام منكَ؟

 

قال: ابني.

 

 

قال بحيرى: ما هو بابنِك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيًّا.

 

قال أبو طالب: فإنه ابن أخي.

 

 

قال بحيرى: فما فعَل أبوه؟

 

قال: مات وأمه حُبلى به.

 

 

قال بحيرى: صدقتَ، ارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفتُ ليقصدُنَّه بالشر، فإنه كائن لابن أخيك، هذا شأنٌ عظيم، فأسرِع به إلى بلاده، فخرَج به عمُّه أبو طالب سريعًا حتى أقدَمه مكة حين فرَغ مِن تجارته بالشام، وظلَّ محمدٌ مصانًا ومحفوظًا من ربِّه، فلم تَبدُر منه شائنة حتى وهو بعد طفل؛ روى محمد بن إسحاق في أعلام النبوة قوله: حدثني بعض أصحابنا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لقد رأيتُني وأنا غلامٌ يفع بمكة مع غلمان قريش، نحمل حجارة على أعناقنا، وقد حملنا أُزُرَنا فوطأنا على رقابنا؛ إذ دفعني دافع ما أراه، وقال: اشددْ عليك إزارك، فشددت إزاري”، وهذا من نذر الصيانة ليكون عليها ناشئًا، ولها آلفًا”.

 

فهذه نُتف من طفولته صلى الله عليه وسلم، عانى فيها الوحدة وافتقاد حنان الأبوة والأمومة، واعتاد تحمل المسؤولية منذ نعومة أظفاره، لكن حسبه أن الله كان معه، ومن كان الله معه فهو له كافٍ.

 

وقد امتنَّ الله تعالى عليه صلى الله عليه وسلم بعدما صار نبيًّا يوحى إليه، فقال: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 6 – 11].

 

وأُمية النبي صلى الله عليه وسلم من كمالات التربية الربانية، فليس هناك معلم قام بتعليمه، لكي لا يترك عليه أثرًا، ولا تلقي عليه شخصيته بظلالها، بل بقي فريدًا مفردًا في النشأة والتكوين؛ حتى يكون خِلْوًا من أي انطباعات مهما بدت بسيطة.

 

وهكذا مرَّت طفولته صلى الله عليه وسلم بالعيش في بني سعد بعيدًا عن أمه أربع سنوات، ثم مع أمه لعامين، ثم مع جده عبد المطلب حتى الثامنة، ثم تولاه عمه أبو طالب.

 

وهي طفولة وإن لم يكن طابَعها البؤس، فقد خلت من حنان وعاطفة الأبوة، لا سيما وليس هناك أخ أو أخت يشدُّ عضده به.

 

ولهذا لم نجد أي أثرٍ في طفولته يشي بممارسته لطقوسهم الوثنية التي كانوا يعتادونها قبل البعثة، ولربما لو كان والداه أو أحدهما حيًّا، لفرَض عليه بعضًا من تلك الشعائر، فقام بها تقليدًا. لكن الله تعالى هيَّأ له المكان والزمان والبيئة المحيطة به؛ لكي يظَل كما هو نقيًّا طاهرًا لا ظل لأثر عليه، ولا غبار طاله خلال نشأته، فمرَّت طفولته صافية لا يكدِّرها عارضٌ.

 

يقول المستشرق الفرنسي جارسان دي تساي: “إن محمدًا وُلِدَ في حضن الوثنية، ولكنه منذ نعومة أظفاره أظهَر بعبقرية فذة انزعاجًا عظيمًا من الرذيلة، وحبًّا حادًّا للفضيلة، وإخلاصًا ونية حسنة غير عادِيين، إلى درجة أن أطلق عليه مواطنوه في ذلك العهد اسم الأمين”.

 

الأمر الذي كان له كبيرُ الأثر على أمره الدعوي بعد ذلك، فلم يُعطِأية فرصة لأحدهم أن يعيِّره بأنه كان في وقت ما يفعل ما يفعلون ولو مرةً عارضة.

 

وهكذا مرت طفولة صلى الله عليه وسلم؛ يُتمٌ رقَّق وِجدانه، وفقرٌ أذهب عنه صدأ التدليل، الذي يصيب النفس بالكسل والقعود، ومصاحبة لجد حكيم سيِّد في قومه، ومن بعده عمٌّ كان يصحبه في أسفاره؛ مما كان له أكبرُ الأثر في اتساع مداركه، بعدما تشبَّع بجوِّ بني سعد في طفولته المبكرة؛ حيث نسيمها العليل، وفصاحة أهلها.


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

شرح دعاء الهم والحزن – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة «اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ والحَزَنِ، والعَجْزِ والكَسَلِ، والبُخْلِ والجُبْنِ، وضَلَعِ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *