منذ حوالي ساعة
الذنوب فإن منها ذنوبًا تكاد تقضي على دين المرء وعمله، وتُجرِّده من كل حسناته التي عملها وقام بها، وهذه الذنوب كالأمراض القاتلة التي يخشاها الناس.
أيها المسلمون، ما هو المرض الذي يتحاشى الناس الإصابة به، ويفرون من أسبابه إن كان له أسباب؟
هو ما يدور في ذهن الكثير منكم، مرض الأورام الحميدة وغير الحميدة.
لماذا الخوف من هذا المرض وهو مرض مثل بقية الأمراض؟
الخوف منه لأنه ارتبط في الأذهان أنه مرض قاتل يقضي على الحياة ويسلبها سريعًا، وإن ذهب فإنه لا تؤمن عودته بعد ذلك.
ثم ماذا بعده من الأمراض الأخرى التي يحذرها الناس؟
ثم السكر والضغط، وأمراض الكبد، والكُلى، وغيرها من الأمراض الصامتة التي تنهش في جسم الإنسان وتقضي على حياته بهدوء.
أما غيرها من أمراض الزكام أو السخونة فلا يهتم المرء كثيرًا لأجلها، ولا يحفل كثيرًا لخطرها، فهو يعلم أنها لا تلبث إلا أيامًا يسيرةً ثم ترحل، وربما كانت زيارة واحدة لأي مستشفى كفيلة بعد الله بذهابها.
كلام مخيف ومرعب للبعض، لكنه حقيقة لا مفرَّ منها؛ فهناك أمراض تصيب حياة الإنسان في مقتل، وأمراض تصيب حياة الإنسان بخدوش هنا وهناك، لكنه في نهاية الأمر يسلم منها، وكذلك الذنوب؛ فإن منها ذنوبًا تكاد تقضي على دين المرء وعمله، وتُجرِّده من كل حسناته التي عملها وقام بها، وهذه الذنوب كالأمراض القاتلة التي يخشاها الناس.
ما لم يكن الإنسان في حذر منها والبعد عنها، والتوبة منها إن وقع فيها، وإلا فإنها القاضية التي تقضي على دينك وإيمانك.
وهي ما تُسمَّى في لغة الشريعة والدين بالكبائر، ولقد نصت آيات عديدة على ذكرها للتحذير منها واجتنابها؛ كقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 151-152].
وقد أخبرنا الله تعالى أن اجتناب الكبائر سبب للحياة الكريمة في الدنيا والآخرة، حياة لا تأنيب للضمير فيها أنك اعتديت على مال فلان، أو على عرضه، أو على أهله، أو افتريت عليه، أو شهدت عليه بغير حق، فقال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31].
أيها المسلمون، كما يكون المرء حذرًا في حساباته في عمله، أو بيعه وشرائه، أو الاهتمام بشؤون أسرته، أو مراعاة صحته، أو نوعية غذائه كما يفعل بعض الناس اليوم في حساب السعرات الحرارية للأطعمة الغذائية، وفي غدوهم ورواحهم للأندية الرياضية، حفاظًا على أجسامهم من الزيادة أو الترهُّل، وهذا حق لهم لا اعتراض عليه، ولكنه يخفي جانبًا من جوانب التعلُّق بالحياة، ويخشى إذا صاحبه تضييع للصلوات وإهمال للواجبات التي أمر الله بها، يُخشى أن ينطبق عليهم قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة: 96].
أيها المسلمون، جاء في سيرة شاعر الغزل المعروف عمر بن أبي ربيعة، وهو من أهل مكة، يعرض للنساء في حرم الله، فرأى امرأة جميلة، حاول التحرُّش بها، فصَدَّته، ولما أصَرَّ، نهَرَتْهُ وقالت له: جئنا من مسافة أميال لنغسل ذنوبنا، فمن يغسل ذنوبك؟ فتاب من قول الشعر والغزل.
ولما حضرته الوفاة أكثر من الاستغفار وقد حضره أخوه، فخاف عليه أخوه خوف الأخ على أخيه من عذاب الله، وكان من شأنه ما كان في الشعر والغزل، فرفع عمر رأسه وقال لأخيه وهو يُودِّعه وقد أمسك إزاره: علم الله أني لم أحلله على امرأة لا تحل لي.
لقد كان هذا الشاعر الذي غلب على شعره ذكر النساء، حتى يظن القارئ لشعره أنه ما ترك فاحشةً من هذه الفواحش إلا فعلها، لكنه يتفاجأ بهذا القول، أنه لم يقرب حرامًا، ولم يقترف إثمًا.
وهذا ما ينبغي للمؤمن؛ أن يجعل بينه وبين الكبائر وديانًا ومسافات وجبالًا وغابات، تحول بينه وبين الوقوع فيها، فإن المرء قد يضعف أمام بعض الإغراءات، ولكن العاقل يرى أن إيمانَه أعَزُّ عليه من أن يُفرِّط فيه لشهوة ساعة أو لذة عابرة، سرعان ما تنتهي.
وما دام هذا الباب قد فُتِح، وهو باب الفواحش مع النساء، فإن من الناس من يعمي نفسه فلا يمنع نفسه عن أي فاحشة، ولا يردها عن أي هاوية، ظنًّا منه أن هذا الفعل شطارة منه، ومهارة في إغواء النساء والوصول إليهن بأسهل الطرق، لكن نسي المسكين قول الله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 14]، وقوله تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ} [النمل: 24].
ومثل هذا نذكره بحديث النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم عَنْ بُرَيْدَةَ الأسلمي، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حُرْمَةُ نِسَاءِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ كَحُرْمَةِ أُمَّهَاتِهِمْ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الْقَاعِدِينَ، يَخْلُفُ رَجُلًا مِنَ الْمُجَاهِدِينَ فِي أَهْلِهِ فَيَخُونُهُ فِيهِمْ، إِلَّا وُقِفَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَأْخُذُ مِنْ عَمَلِهِ مَا شَاءَ، فَمَا ظَنُّكُمْ» ؟، وفي لفظ عند النسائي: «حُرْمَةُ نِسَاءِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ فِي الْحُرْمَةِ كَأُمَّهَاتِهِمْ وَمَا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الْقَاعِدِينَ يَخْلُفُ رَجُلًا مِنَ الْمُجَاهِدِينَ فِي أَهْلِهِ إِلَّا نُصِبَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ: يَا فُلَانُ، هَذَا فُلَانٌ فَخُذْ مِنْ حَسَنَاتِهِ مَا شِئْتَ»، ثُمَّ الْتَفَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: «مَا ظَنُّكُمْ تُرَوْنَ يَدَعُ لَهُ مِنْ حَسَنَاتِهِ شَيْئًا»، فانظروا رحمكم الله كيف تتطاير الحسنات لأجل شهوة محرمة.
ونختم بهذا الحديث في صحيح البخاري ومسلم، فعن عَبْدِاللَّهِ بن مسعود قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ»، قُلْتُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «وَأَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ تَخَافُ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ»، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ».
أيها المسلمون، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات»، قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولِّي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات».
واعلموا أن عقوق الوالدين كبيرة، وأن شهادة الزور كبيرة، وأن الربا كبيرة، واعلموا أن ترك صلاة الجماعة كبيرة من الكبائر، فقد جاء في الحديث الصحيح في البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أخالف إلى منازل قوم لا يشهدون الصلاة فأُحرِّق عليهم».
فالتحريق إنما كان بسبب عدم شهودهم صلاة الجماعة.
أيها المسلمون، اعلموا أن هذه الحياة فانية سرعان ما تنتهي، وينتقل المرء بعدها إلى عالم الخلود والبقاء الأبدي، فلا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور، وإن الشيطان لكم عدو فاحذروه، وإنما يدعو الشيطان حزبه ليكونوا من أصحاب السعير، ومن تتوقعون أن يكونوا من أصحاب السعير؟ أهم الذين تسير بهم أقدامهم في ظلمات الفجر يبتغون فضلًا من الله ورضوانًا، أم هم الذين ينتقلون من فاحشة إلى فاحشة أكبر منها، ومن ذنب إلى ذنب أعظم منه، نسوا الله فنسيهم أولئك هم القوم الفاسقون.
إن أعظم خطر يولده ارتكاب الكبائر، أن يسود قلب المرء، ويتهاون في معصية الله، فيصبح قلبه كالكوز مُجَخِّيًا، لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، فيختم الله على قلبه وسمعه، ويجعل على بصره غشاوة، فمن يهديه من بعد الله.
أيها المسلمون، سار أحد الصالحين في سفر فتعَرَّضت له مجموعة من لصوص الطريق، فأخذوا ما معه من مال، فلما جاء وقت الغداء أكل اللصوص جميعًا إلا واحدًا منهم، فاستغرب منه الرجل الصالح فسأله: ما بالك لا تأكل مع أصحابك، فقال: إني صائم، فقال الصالح مستغربًا منه: صائم وتسرق الناس! فقال اللص: يا هذا، ينبغي للعاقل أن يترك بينه وبين الله بابًا لا يُغلَق.
فقال الرجل الصالح: فذهبت إلى مكة بعد سنوات فإذا بي أرى ذلك اللص يطوف حول الكعبة مع الطائفين، فعرفني وعرفته، وأخبرني أن الله تاب عليه من ذلك العمل السيئ، وصار من المجاورين لبيت الله الحرام.
فليجعل العاقل بينه وبين الله بابًا مهما غرق في الذنوب، وانغمس في المعاصي لعل الله أن يرحمه ويفتح له بابًا للتوبة يتوب منه.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، وانصر عبادك المجاهدين، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى، والعفاف والغِنى، اللهم إنا نسألك حبك وحبَّ عملٍ يُقرِّبنا إلى حبك، اللهم حبِّب إلينا الإيمان، وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم احفظنا بحفظك، ووفقنا إلى طاعتك، وارحمنا برحمتك، وارزقنا من رزقك الواسع، وتفَضَّل علينا من فضلك العظيم، اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكِّها أنت خير من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها.
اللهم أصلح إمامنا ولي أمرنا، واحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كيد الكائدين، وفجور الفاجرين، واعتداء المعتدين.
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 – 182].
_____________________________________________
الكاتب: ساير بن هليل المسباح
Source link