منذ حوالي ساعة
تلك السورة العظيمة التي تحدثت عن أحوال الناس يوم القيامة، وحالتهم عند مفارقة الدنيا، وفي هذا اليوم العظيم ينقسم الناس فيه إلى ثلاثة أقسام: سابقون – وأصحاب ميمنة – وأصحاب مشأمة عياذًا بالله.
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب عبرة للمعتبرين وموعظة للمتقين، ونبراسًا منيرًا للمهتدين، فكان شفاءً لما في الصدور، ومصلحًا لجميع الأمور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المصطفى على جميع النبيين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب70 ـ 71]، أما بعد:
فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى، وتدبَّروا كتاب ربكم الذي أنزله رحمةً بكم وموعظةً لكم وإصلاحًا لدينكم ودنياكم، فتدبَّروا القرآن.
فتدبر القرآن إن رمت الهدى *** فالعلم تحت تدبر القرآن[1]
ولا تُعرضوا عنه، فتبوؤوا بالخسارة وقسوة القلوب، والبعد عن خشية علام الغيوب، إن القرآن موعظة من ربكم وشفاء لما في صدوركم، ولا شيء أبلغ موعظة منه لمن تدبَّره، وتفكر في معناه؛ يقول سبحانه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد24].
أيها المسلمون الكرام، إن من أعظم المواعظ ما جاء في سورة الواقعة: تلك السورة العظيمة التي تحدثت عن أحوال الناس يوم القيامة، وحالتهم عند مفارقة الدنيا، لقد ابتدأ الله سبحانه وتعالى هذه السورة بجملة شرطية عن وقوع الساعة حدث جوابها؛ ليذهب الذهن في تقديره كل مذهب، ويسلك في تفخيمه كل طريق؛ يقول سبحانه: {إِذَا وَقَعَتِ الواقعة} [الواقعة: 1]، وهو يوم القيامة يعني إذا وقعت رأيت أهوالًا عظيمة وأحوالًا متباينة، {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا} [الواقعة: 4]؛ أي: رجًّا عظيمًا، {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} [الواقعة: 5]، فتفتت تفتيتًا دقيقًا، {فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثًّا} [الواقعة: 6]، بعد أن كانت جبالًا متماسكة صُلبة ثابتة، لا تتزحزح عن أماكنها، وفي هذا اليوم العظيم ينقسم الناس فيه إلى ثلاثة أقسام:
سابقون، وأصحاب ميمنة، وأصحاب مشأمة عياذًا بالله.
1- فالسابقون في هذه الدنيا إلى الطاعات هم السابقون يوم القيامة إلى الكرامة والجنات، وهم المقربون إلى فاطر الأرض والسماوات، في دارٍ لا يفنى نعيمُها، ولا يبلى جديدُها، ولا يتكدَّر صفوها، نعيمها دائم وسرورها قائم: {عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ} [الواقعة: 15ـ19]، هذا شرابهم، أما طعامهم فقال تعالى: {وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة: 20ـ21]، وأما نساؤهم فقال الله {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22]، حور ذو بياض، حسن حسناوات العيون منظرًا وخلقة، {كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [الواقعة: 23] في صدفه في غاية الصفا، أما مجتمعهم فمجتمع كامل، {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [الحجر:47].
{لَا يَسْمَعُونَ فِيْهَا لَغْوًا} [الواقعة: 25]، من القول وهو ما لا فائدة فيه، {ولا تأثيمًا} [الواقعة: 25]؛ أي: لا يقولون كلامًا يأثمون، بل كلامهم ذكرٌ لله وتسبيح لله، وتحدث بينهم بما أنعم الله عليهم في الدنيا، {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر74]، {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر:34ـ 35].
هؤلاء هم السابقون إلى طاعة ربهم، يقومون بالواجبات، ويعطفون عليها المستحبات، ويتركون المحرمات مع المكروهات، فكان نعيمهم أكمل النعيم وأحوالهم أكمل الأحوال.
2- وأما الصنف الثاني، فهم أصحاب اليمين وهم من أهل الجنة، ولكنهم أقل حالًا من السابقين: {فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ} [الواقعة: 28]، شوكة ليس فيه شوك، {وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ} [الواقعة: 29] من التمر من أسفله إلى أعلاه، وهذا السدر والطلح ليس مشابهًا لما في الدنيا، فالاسم هو الاسم، ولكن الحقيقة غير الحقيقة؛ قال الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشرٍ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: واقرؤوا إن شئتم» {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ﴾ [السجدة: 17] [2].
ولأصحاب اليمين نعيم دائم؛ قال تعالى: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة: 32ـ 33]؛ يعني لا تنقطع في وقت من الأوقات كما تنقطع فواكه الدنيا، {وَلا مَمْنُوعَةٍ}؛ أي: لا تمنع عن مُبتغيها كما تُمنع فواكه الدنيا.
وأما جلوسهم فقال تعالى: {وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ} [الواقعة:34]، وأما نساؤهم فقال الله: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة: 35- 37]، فقد أنشأ الله الحور منهنَّ إنشاءً بدون ولادة، وأنشأ نساء الدنيا من أهل الجنة إنشاءً جديدًا، فجعلهنَّ {عربًا أترابًا}، يتحببن إلى أزواجهنَّ بالتلطف والمداراة، وأما قوله: {أترابًا}؛ أي: في سن متحد، حتى لا تفخر واحدة على الأخرى، أو ترى نفسها دون أختها.
3- وأما الصنف الثالث وهم أصحاب الشمال أعاذنا الله والمسلمين من ذلك، فلا تسل عن أحوالهم، إنها حالة البؤس والشقاء والعناء في سموم، هواء حارٌٌّ من النار يلفح وجوههم ويدخل في مسام جلودهم، وليس عندهم ما يبرد هذا السموم سوى ماء حميم شديد الحرارة، {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:19ـ20].
كلما ارتفع واحدٌ منهم وهو في غمرات النار جاءه مقمع نيراني، فأعاده إلى مكانه عياذًا بالله، كما أنهم ليس لهم ما يحجب هذا السموم سوى: {وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ} [الواقعة: 43]، واليحموم هو الدخان الأسود الحالك {لا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ} [الواقعة: 44]، ليس فيه وقاية فهذا مكانهم وموضع إقامتهم، وأما طعامهم فإن الله يقول: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ * فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} [الواقعة: 51ـ53]، وهو شجر خبيث الطعم قبيح المنظر، منتن الريح، ليس فيه ما يُحبب الأكل منه، ولذلك يتزقمونه تزقمًا، فيبتلعونه بشدة ومشقة، فيملؤون منه بطونهم، وحينئذٍ يحترقون عطشًا، فيستغيثون {وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف29] إذا دنا منها، ويقطع أمعاءهم إذا حل فيها عياذًا بالله، {وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ} [محمد15]. وإنهم ليشربون هذا الماء الحميم {شُرْبَ الْهِيمِ} [الواقعة: 55]، وهي الإبل المصابة بِهُيام الماء، فهي تشرب ولا تُروى أبدًا، {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} [الواقعة: 56].
عباد الله، أما في آخر سورة الواقعة:، فقسَّم الله تبارك وتعالى الناس عند حضور الأجل وانقطاع الأمل وتلاشي الحيل، والرحيل من دار العمل، قسم الله الناس إلى ثلاثة أقسام، فقال سبحانه: {فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 88 – 96].
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من السابقين والمقربين، ومن التالين لكتابك والمنتفعين.
[1] هذا بيت من نونية ابن القيم رحمه الله تعالى؛ انظر: متن النونية ص (49).
[2] متفق عليه: البخاري (3072، 4501، 4502، 7059) ومسلم (2824) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
______________________________________________
الكاتب: الدكتور أبو الحسن علي بن محمد المطري
Source link