لقد كَثُرتْ حالاتُ الطلاق في هذا العصر كثرةً لافتة، وإن الشيطان -أخزاه الله- حريصٌ أشدَّ الحرص على التفريق بين الناس، ومن ذلك التفريقُ بين الزوجين
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: عباد الله فإن الأصل في النكاح الدوامُ، مع حسن العشرة، والقيامِ بحقوق الزوجية، وتَجَنُّبِ ما يكدِّرها وينغِّصها.
وإذا حصل من أحد الزوجين خطأٌ أو تقصير، أو كان فيه نقص أو عيب، فَعَلَى الطرفِ الآخرِ أن يعالج الأمر بحكمة ورفق، وأن يصبر على ذلك، احتساباً للأجر، ودفعاً للشقاق، وحفظاً لبيت الزوجية، ولا سيما مع وجود أولاد يتضررون بهذا الشقاق، وما يترتب عليه من تَفَرُّقِ وطلاق، وما ينتج عن ذلك من آثار نفسية واجتماعية.
وعلى الزوجين أن يعلموا أن الحياة الزوجية لا بد أن يحصل فيها بين الفينة والأخرى اختلافٌ في وجهات النظر، أو خطأ لا يسلم منه البشر.
وإذا كَرِهَ الرجل في زوجته شيئاً فليصبر، ويحذرْ من التعجِّل في فراقها، ولْيَعْلَمْ أن النقص لا يخلو منه أحدٌ، ولينظر فيما يترب على إمساكها من مصالح دينية ودنيوية، قال الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].
والخيرُ الكثير يكون في الدنيا والآخرة، ومن ذلك الولدُ الصالح، كما رُوِيَ عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهذا أمرٌ مشاهد، فكم من إنسان صبر فكانت العاقبة حميدة.
يقول صلى الله عليه وسلم: «لا يَفْرَك (أي: لا يبغض) مؤمنٌ مؤمنةً، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر» ؛ (أخرجه مسلم).
وقد قِيل: ليس كلُّ البيوت تُبنى على الحبِّ، لكن بالمعاشرة الحسنة والأخلاق الطيبة والمصاحبة الجميلة.
وقد تكون النُّفْرةُ في الأيام الأولى من الزواج ثم يكتب الله بينهما المودة والأُلفة.
عباد الله، ينبغي أن يعرف الزوجُ طبيعةَ المرأة ويلتمسَ لها المعاذير عند تقصيرها، قال صلى الله عليه وسلم: «اسْتَوْصُوا بالنساء خَيْرًا فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ من ضِلَعٍ أَعْوَجَ، وإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ في الضِّلَعِ أَعْلاهُ، فإِن ذَهَبْتَ تُقِيْمُهُ كَسَرْتَهُ، وإِنْ تَرَكْتَهُ لم يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا» (متفق عليه). وفي رواية لمسلم: «وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا».
أمَّا إذا تعذر بقاء عَقْدُ الزوجية؛ لسبب معتبر، أو عيبٍ لا يحتمل، أو ضرر واضح، فقد شرع الإسلام حَلَّ عقد الزواج بالطلاق أو الفسخ أو الخُلْعِ، وذلك بضوابطَ وآدابٍ تحفظ حقوق الزوجين، وتمنع حصول الشحناء والعداوة والأذى بعد الفراق، قال الله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229].
وفي هذه الحالة قد يكون الفراق فيه مصلحة وفرجٌ للطرفين، حيث يجد كلٌ منهما مَنْ يلائمه، ويجدُ معه السكينة والرحمة، قال تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} [النساء: 130]، وهذا أمر مشاهد، فلا ينبغي أن يُنْظَرَ إلى المطلِّق أو المطلَّقة نظرةً قاصرة، بل قد يكونان من أفضل الناس، لكن لم يكتب الله بينهما الوِفاق.
عباد الله، لقد تساهل بعضُ الناس -هداهم الله- بأمر الطلاق، فأقدموا عليه بسبب أمور تافهة، وأكثر آخرون من الحَلِفِ بالطلاق حتى في إكرام الضيف، حيث يبادره بقوله: عَلَيَّ الطلاق أن تَتَعَشَّى عندي أو تَتَغَدَّى، أو تقبل هديَّتي، أو نحو ذلك، مما لا يستوجب اليمينَ، فضلاً عن حَلِّ هذا الميثاق الغليظ، عقدِ الزواج، وهذا من عدم تعظيم حدود الله تعالى. قال – سبحانه وتعالى – في سياق آيات الطلاق {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1].
أيها المسلمون، إن الشيطان -أخزاه الله- حريصٌ أشدَّ الحرص على التفريق بين الناس، ومن ذلك التفريقُ بين الزوجين، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إن إبليس يضع عَرْشَهُ على الماء، ثم يبعث سَرَاياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدُهم فيقول: فعلتُ كذا وكذا، فيقول: ما صنعتَ شيئا، قال ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فَرَّقْتُ بينه وبين امرأته، قال: فيدنيه منه»، وفي روية: «فَيَلْتَزِمُهُ» «ويقول: نِعْمَ أَنْتَ» ؛ (أخرجه مسلم).
لقد كَثُرتْ حالاتُ الطلاق في هذا العصر كثرةً لافتة، وذلك لأسباب عديدة، منها: التقصير في حقوق الزوجية، بحيث لا يؤدي كل واحد من الزوجين ما يجب عليه تجاه الأخر، ومنها: جهل أحدهما بطباع الآخر، وعدم مراعاتها، فإن الناس مختلفون في طباعهم ومشاعرهم، ومنها: تَدَخُّل أهل الزوجين في بيت الزوجية، ومن ذلك: سرعةُ الغضب وعدمُ كظم الغيظ، ومن ذلك: عدم التشاور والحوار بين الزوجين، ولا سيما عند حصول الخلافات، ومن ذلك: الخلاف على الأمور المالية، ومما استجدَّ في هذا العصر: الانفتاح الإعلامي وسوء استخدام وسائل التواصل الاجتماعي.
فينبغي للأزواج تجنُّبُ هذه الأسباب والحذر منها.
عباد الله، إذا عزم الإنسانُ على الطلاق بعد تأمل وتَأَنٍ واستشارة واستخارة فليطلِّق طلاقاً موافقاً للسنَّة، وذلك بأن يطلق زوجته طلقةً واحدة، في طهر لم يجامعها فيه، أو في حال الحمْل، وليحذر من طلاق البدعة، وهو أن يطلقها في حال الحيض أو النُفَاس أو في طهر جامعها فيه، أو أن يطلقها ثلاثا؛ فإن هذا لا يجوز، لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنه طلق امرأته وهي حائض، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عمرُ بن الخطاب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مُرْهُ فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمسَّ، فتلك العدة التي أمر الله أن تُطَلَّقَ لها النساء؛ متفق عليه.
وعن محمود بن لبيد، قال: أُخبر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فقام غضبانا ثم قال: «أيُلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم» ؟؛ (أخرجه النسائي).
وعند طلاق الزوجة طلاقا رجعياً ينبغي أن تبقى في بيت الزوجية أيامَ العدَّة، وأن تتجمل لزوجها، وتخدمه؛ لأنها في حكم الزوجة، ولا يجوز أن تُخرج منه، لقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]، والمراد بالأمر الذي يحدثه الله: أن يرغب فيها ويراجعها.
أيها المسلمون، من عوائد الجاهلية التي حرمها الإسلام تعليقُ الزوجة، وذلك أن يمسك الزوجُ زوجته إضراراً بها وانتقاماً منها فلا يطلِقها ولا يحسن عشرتها ولا يؤدي حقوقها، بل يتركها مدة طويلة، أو يميلُ عنها إلى زوجة أخرى، أو يطلقها حتى إذا أوشكت عدتها على الانتهاء راجعها من غير رغبة فيها، بل من أجل الإضرار بها وحرمانها من الزواج، وهذا من المحرمات التي جاء الوعيد الشديد على من فعلها، وقد سمَّى الله ذلك عدواناً واستهزاءً بآيات الله تعالى، كما قال سبحانه: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} } [البقرة: 231]، وقال سبحانه وتعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 129] والمعلقة: هي التي يهجرها زوجها هجرًا طويلاً، فلا هي مطلقةٌ، ولا هي زوجةٌ.
أما بعد: أيها المسلمون، فإن شريعة الإسلام شريعةٌ محكمة عادلة كاملة، وقد جَعَلَتْ أمرَ الطلاق بيد الرَّجل؛ لما جَبَلًهٌ الله عليه من غَلَبَةِ العقل عنده على العاطفة، بخلاف المرأة فإن من طبيعتها غَلَبَةَ العاطفة، كما هو مشاهد، فلو جُعل الطلاق بيدها لبادرت إليه واستعجلت فيه.
ومن كمال هذه الشريعة وعدلها وشمولها أنها شرعت باباً آخر للمرأة تخرج من خلاله من الضرر الذي يلحقها في البقاء مع زوج لا ترضى دينه أو أمانته، أو لا تطيق البقاء معه لكرهه، أو سوء طبعه، أو تقصيره في حقوقها الواجبة لها، وهو باب الخُلْع، وذلك بِرَّدِّ مهرها عليه، وطلبِ فُرقته.
ولا يجوز للزوج أن يضيِّق على المرأة ويؤذيَها لكي تطلب الخُلع، بل يفارقها بالمعروف إذا رغب عنها، كما قال تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229].
وقال تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19].
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، ثابتُ بن قيس، ما أَعتب عليه في خُلُقٍ ولا دِين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتردين عليه حديقته» ؟ قالت: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقبل الحديقة وطلقها تطليقة» ؛ (أخرجه البخاري).
وقولها: ولكني أكره الكفر في الإسلام أي قد تحملها شدةُ كراهتها له على ما ينافي مقتضى الإسلام، أو على كفران العشير، وهو التقصير في حقه.
ولا يجوز للمرأة أن تطلب الطلاق أو الخُلْعَ من غير سبب، أو أن تنسب إلى زوجها ما ليس فيه؛ لكي تخلع نفسها منه، قال صلى الله عليه وسلم: أَيُّمَا امرأةٌ سألتْ زوجها طلاقًا من غير بأس فحرامٌ عليها رائحة الجنة؛ أخرجه أحمد وأصحاب السُنن وصححه ابن حبَّان.
وكم من امرأة سعت في فراق زوجها واجتهدت في ذلك، ثم كان عاقبةُ ذلك الندمَ الشديد.
عباد الله، إذا حصلت الفرقةُ بين الزوجين بالطلاق أو الخُلع أو غير ذلك، فلتكن بالمعروف والإحسان، كما قال تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2]، فيحفظ كلُّ واحد منها للآخر سِرَّه، ويعرف فضله، ويستر عيبه، ويحذر من أذاه وسبِّه، وإذا كان لهما أولاد يتعاونان على تربيتهم تربية صالحة، ويخففان أثرَ الفراق عليهم قَدْرَ الإمكان، ويتسامحان عمَّا سلف بينهما وفاءً بحق العشرة السابقة، قال تعالى في سياق آيات الطلاق: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 237].
Source link