في ظل الحال المزري الذي وصلت إليه أحوال الأمة من الاستخفاف والاستضعاف، وفي الوقت الذي أصبحت فيه الديار المسلمة مستباحة…
أيها الإخوة الكرام : في ظل الحال المزري الذي وصلت إليه أحوال الأمة من الاستخفاف والاستضعاف، وفي الوقت الذي أصبحت فيه الديار المسلمة مستباحة، ومِنْ تَحْتِ أَنْقَاضِ اليَأْسِ والخِذْلانِ ، ومن بين براثن الخَوْفِ وَالأَحْزَانِ؛ يَنْبَعِثُ في النفوس المؤمنة هَذَا السُّؤَالُ المَكْرُوبُ: مَتَى نَصْرُ اللهِ؟
أمام هذه البلاد التي صارت أثراً بعد عين، وأمام هذه الأجيال التي أبيدت عن بكرة أبيها، وأمام هذه الأجساد التي مزقت، والشعوب التي شردت، أمام هذا الواقع المؤلم يُلح علينا هذا السؤال يقول : مَتَى نَصْرُ اللهِ؟
متى نصر الله : يقولها المؤمن إيماناً بأن نصر الله قادم في الزمان والمكان وفق تقدير الله وحكمته..
متى نصر الله : يقولها ضعيف الإيمان خوفاً وهلعاً وسوء ظن بالله عز وجل..
يعلم الله اننا لا نقول (متى نصر الله) يأساً من رحمة الله تعالى، ولا نقول (متى نصر الله) شكاً في وعد الله بنصرة المؤمنين..
مَتَى نَصْرُ اللهِ؟ نقولها إيماناً أنه لا ناصر إلا الله سبحانه وتعالى..
مَتَى نَصْرُ اللهِ؟ سؤال: يعلم الله أننا نقوله إيماناً بأن نصر الله قريب ، لكنا نترقبه وننتظره..
مَتَى نَصْرُ اللهِ؟ سؤال نقوله إيماناً واحتساباً وصبراً سبقنا إليه المؤمنون الصابرون الذين سبقونا إلى الإسلام..
﴿ {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَــــــلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُـــــولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} ﴾ [البقرة]
قَالَ عَطَاءٌ: لمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلّم وَأَصْحَابُهُ المَدِينَةَ، اشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الضُّرُّ ( خوف ومرض وجوع وفقر )، لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا إلى المدينة بِلَا مَالٍ، وَتَرَكُوا بمكة دِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَأَظْهَرَالْيَهُودُ الْعَدَاوَةَ، وَأَسَرَّ قَوْمٌ النِّفَاقَ؛ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَة؛ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِ المؤمنين:
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَــــــلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُـــــولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾ البقرة
قال عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ : « بيْنَما نَحْنُ عِنْدَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ ذاتَ يَومٍ، إذْ طَلَعَ عليْنا رَجُلٌ شَدِيدُ بَياضِ الثِّيابِ، شَدِيدُ سَوادِ الشَّعَرِ، لا يُرَى عليه أثَرُ السَّفَرِ، ولا يَعْرِفُهُ مِنَّا أحَدٌ، حتَّى جَلَسَ إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فأسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إلى رُكْبَتَيْهِ، ووَضَعَ كَفَّيْهِ علَى فَخِذَيْهِ، وَقالَ: يا مُحَمَّدُ أخْبِرْنِي عَنِ الإسْلامِ، فقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: الإسْلامُ أنْ تَشْهَدَ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، وتُقِيمَ الصَّلاةَ، وتُؤْتِيَ الزَّكاةَ، وتَصُومَ رَمَضانَ، وتَحُجَّ البَيْتَ إنِ اسْتَطَعْتَ إلَيْهِ سَبِيلًا، قالَ: صَدَقْتَ، قالَ: فَعَجِبْنا له يَسْأَلُهُ، ويُصَدِّقُهُ، قالَ: فأخْبِرْنِي عَنِ الإيمانِ، قالَ: أنْ تُؤْمِنَ باللَّهِ، ومَلائِكَتِهِ، وكُتُبِهِ، ورُسُلِهِ، والْيَومِ الآخِرِ، وتُؤْمِنَ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، قالَ: صَدَقْتَ» … [أخرجه مسلم] .
أحد أهم أركان إيمان المؤمن إيمانه بالقدر خيره وشره حلوه ومره..
ومن بين ما قدر الله تعالى لعباده المؤمنين أن النصر لا يأتيهم إلا بعد صبر، وأن اليسر لا يأتيهم إلا بعد عسر، وأن الفرج يأتيهم إلا بعد كرب، وأن الأمل لا يولد إلا من رحم الألم ..
{﴿ حَتَّىٰٓ إِذَا ٱسْتَيْـَٔسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّوٓا۟ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا۟ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّىَ مَن نَّشَآءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ ﴾} [يوسف]
بعد غزوة ( أحد ) أنفقت قريش أموالها، وجمعت جموعها لغزو المدينة والقضاء على الإسلام والمسلمين، وأتى إلى المسلمين آت يقول « { إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُوا۟ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ} » قال الله تعالى « {فَزَادَهُمْ إِيمَٰنًا وَقَالُوا۟ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ، فَٱنقَلَبُوا۟ بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوٓءٌ وَٱتَّبَعُوا۟ رِضْوَٰنَ ٱللَّهِ ۗ وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} » [ آل عمران]
ولما رمت العرب المسلمين عن قوس واحدة عام الأحزاب ، ولما تجمع القاصي والداني على حرب المسلمين، ونقض الحلفاء عهدهم، وأعلن المنافقون عن فساد قلوبهم، ولما صار الحال كما وصف الله عز وجل:
« { إِذْ جَآءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ ٱلْأَبْصَٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَا۠، هُنَالِكَ ٱبْتُلِىَ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا۟ زِلْزَالًا شَدِيدًا } » [الأحزاب ]
ولما استحكم الأمر وتجمع الأعداء وأحكمت القبضة على المسلمين عام الأحزاب .. أيقن المسلمون أنهم لا ينتظرون ساعتها إلا نصر الله عز وجل {﴿ وَلَمَّا رَءَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْأَحْزَابَ قَالُوا۟ هَٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّآ إِيمَٰنًا وَتَسْلِيمًا ﴾} [الأحزاب ]
أيها الإخوة الكرام: إن الله تبارك وتعالى له في خلقه سننٌ ثابتةٌ لا تتبدل ولا تتغير، وله سبحانه وتعالى أقدارٌ حكيمة رحيمة
ومن بين هذه الأقدار الحكيمة العظيمة الرشيدة، ومن هذه السنن الثابتة، التي لا تتبدل ولا تتغير، أنَّ دوام الحال من المحال، وأن الأمور أبداً لا تسير على وتيرة واحدة، والظلمَ لا يدوم، وأنه مهما بلغت قوّةُ الظالم فإنَّه بقوة الله مهزوم..
مهما بلغ الطغاة وتمادوا، ومهما تعدى الظلمةُ وبغوا، فإن أقرب الناس إلى الهلاك الظالم الغشوم ، وأنفذ السهام دعوة المظلوم، يرفعها الله تعالى فوق الغيوم، ويفتح لها أبوابَ السماء، ويقسم لها فيقول : وعزَّتي وجلالي لأنصرنَّك ولو بعدَ حين”..
نقول: متى نصر الله؟ ونحن على يقين أن الله تعالى لا يرضى لظالم أن ينتصر، بل إنه سبحانه وتعالى ربما يملي للظالم، وربما يمهله، وربما يعطيه.. كل ذلك ليستدرجه.. وربما ليخوفُ الله بذلك بعضَ عباده..
وربما ليبتلي به بعض خلقه..
ويحقق به بعض حِكمِه سبحانه وتعالى، لكن الله عز وجل في الأحوال كلها لا يهمل ظالماً، ولا ينصر معتدياً، ولا يؤيد غشوماً..
قال النبي عليه الصلاة والسلام: « إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يُمْلِي لِلظّالِمِ، فإذا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ» ثُمَّ قَرَأَ {﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيد ﴾} [هود]
كم من ظالم طغى وبغي، وظن انه لا يُقدر عليه، وكم من معتد تجبر واستكبر، وظن أنه لا يُقهر.. حتى إذا حلَّ عليه أمر الله جعل الله منه عبرة لمن يعتبر
{﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ﴾ ﴿ إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ ﴾﴿ ٱلَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى ٱلْبِلَٰدِ ﴾﴿ وَثَمُودَ ٱلَّذِينَ جَابُوا۟ ٱلصَّخْرَ بِٱلْوَادِ ﴾﴿ وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلْأَوْتَادِ ﴾﴿ ٱلَّذِينَ طَغَوْا۟ فِى ٱلْبِلَٰدِ ﴾﴿ فَأَكْثَرُوا۟ فِيهَا ٱلْفَسَادَ ﴾﴿ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ﴾﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ ﴾} [الفجر]
نسأل الله العظيم رب العالمين أن يقر أعيننا، ويشف صدورنا، ويذهب غيظ قلوبنا بنصر قريب للإسلام والمسلمين إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير..
الخطبة الثانية
أَيُّهَا الإخوة الكرام : ورد فيما صح عن النبي صلى الله عليه « « أن الله تعالى إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم» »
إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ تَعَالَى قومًا أَصَابَهَم بالرزايا، وبِالْمِحَنِ وَالْفِتَنِ وَالبلَايا.. لماذا ؟
لِيَمِيزَ الخَبِيثَ مِنْ الطَيِّبِ، وليُعْلمَ الصادقُ من الكاذبِ، وليتخذ الله تعالى منهم شهداء ..
إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ تَعَالَى قومًا ابتلاهم حتى يَبْقَى عَلَى الدِّينِ الْحَقِّ إِلَّا مَنْ صَحَّ مُعْتَقَدُهُ، وَحَسُنَ مَقْصِدُهُ، وَخَلُصَتْ لله نِيَّتُهُ..
وَأُمَّةُ الْإِسْلَامِ هِيَ خير أمة أخرجت للناس،وهي أَكْرَمُ الْأُمَمِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ وَلِذَا كان ابتلاء امة محمد صلى الله عليه وسلّم هو الأشدُّ بين جميع الأمم ، لِيَعْظُمَ أَجْرُهَا، ويزداد فضلها، وَتَعْلُوَ مَنْزِلَتُهَا؛ وليَكُونَ أَهْلها هم أَكْثَرُ أهلِ الْجَنَّةِ..
وحتى لا يفسر ابتلاء الأمة بأنه غضب من الله تعالى عليها نقول : ابْتُلِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي نفسه، وعُذِّبَ أَصْحَابُهُ أَمَامَهُ، وَفُتِنُوا فِي دِينِهِمْ، وَابْتُلِيَتْ أُمَّتُهُ من بَعْدَه ابتلاءاتٍ شديدة، وَلَا تَزَالُ الأمةُ تُبْتَلَى وَتُفْتَنُ فِي دِينِهَا، وَلا تزال أمم الكفر تَتَكَالَبُ عَلَيْهَا ويكيدون لها الليل والنهار، وهذا هو نصيب هذه الأمة من العذاب فليس على هذه الأمة عذاب يوم القيامة..
قَالَ النبي عليه الصلاة والسلام: « «أُمَّتِي هَذِهِ أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ، لَيْسَ عَلَيْهَا عَذَابٌ فِي الْآخِرَةِ، عَذَابُهَا فِي الدُّنْيَا الْفِتَنُ وَالزَّلَازِلُ وَالْقَتْلُ»»
الشاهد:
بيان أن كل مَا يُصِيبُنا عَلَى أَيْدِي أَعْدَائِنا مِنَ حروبٍ ومن تدميرٍ، ومن تقَتْيلٍ وَمن تهجيرٍ، ومن حِصَارٍ وَمن تفْقِيرٍ، إنما هو بِسَبَبِ دِينِنا، وبسبب تمسكنا بكتاب ربنا وسنة نبينا عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {﴿ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ ﴾}
وقال عز من قائل : {﴿ إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُون ﴾ }
فاثبتوا أيها المؤمنون، واصبروا، وصابروا، ورابطوا، واتقوا الله لعلكم تفلحون.
نسأل الله العظيم رب العالمين أن يقر أعيننا ويشف صدورنا ويذهب غيظ قلوبنا بنصر قريب للإسلام والمسلمين إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير..
Source link