{إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ}، لا شك فيه ولا ريب ولا مرية، فإن وعْدَ الله -تعالى- بالنصر للدين وحمَلته، ووعْدَه بالثواب الأخروي في الجنة حقّ ثابت، وهذا من أكبر أسباب الثبات، وأعظم ما يُعين على الصبر
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصّلاةُ والسّلامُ على نبيِّنا محمّدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعين، وبعدُ:
الاستخفاف مفردة مأخوذة من الخِفَّة، ضد الثِّقل. والشيء الخفيف سهل التحريك والتنقل والتقلب والتأثر بتقلبات الرياح وغيرها.
والاستخفاف حالة نفسية تعمل في النفس أولًا، ثم تنتقل للتصورات والمواقف.
وهذا بعينه ما يحصل للشخص المستخَفّ، تجده متقلّب المزاج، سريع التنقل، متغيّر المواقف؛ حسب الصدمات التي تُواجهه من مواقف الحياة.
وأخطر ما تكون هذه التقلُّبات حين تنوش الدين، وأسوأ مثال تاريخي هو حالة فرعون مع قومه، قال الله تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف: 54].
والمصلحون قد تمرّ بهم مواقف؛ من استعجال المتسرعين، أو استبطاء الطامحين، أو شماتة المعادين، أو صدود المُعرضين، ما قد يستخفّ الخفيفين منهم، فيعمل في قلوبهم عمله، ويسري لجوارحهم فتفتر وتَهِن، وربما رَمَتهم في أتون اليأس والقنوط، والارتداد على الأدبار والعقبين، أو طارت بهم في مواقف جامحة مغالية غير مدروسة؛ فانقلبت على الدعوة والداعية نفسه، وعلى إخوانه بالدمار والقهر، ثم التقهقر عقودًا من الزمن، وأحداثنا المعاصرة التي عايشناها ولا زلنا نعايش بعضها -على مستوى الأفراد والمجتمعات- خير شاهد محسوس.
ولقد مر بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته الدعوية المباركة العديدُ من المواقف المتقلبة؛ التي قد تطيش لها بعض العقول فَتُستَخَفّ، كما مرت ولا زالت تمر بأتباعه من بعده؛ مواقفُ ما بين ألم وأمل، ونصر وهزيمة؛ أمل ونصر أثارت نشوةً وشِرَّةً واندفاعًا نحو تحقيق المزيد من المكاسب، دون وَعْي بفقه المرحلة، ولا اعتبار لحسابات المتربصين، وكأنما هو يركض في الحَلَبة وحده! وألم وهزيمة استدعت شماتةَ المعادين، واستثارت استبطاءَ المتعجلين.
والمرء قد يُسْتَفَزُّ ويُسْتَخَفُّ بواحدة أو أكثر من هذه الطرق:
الأول: قد يُسْتَفَزُّ ويُسْتَخَفُّ في منهجه ومعتقده، وما يحمله من تصوُّرات وعقائد وأحكام؛ {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إنْ هَذَا إلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنعام: 25]، {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: ٥].
الثاني: قد يُسْتَفَزُّ ويُسْتَخَفُّ في شخصه الحامل للمنهج، وهذا كثير في القرآن، حكاية عن الأمم المكذّبة؛ {فَقَالَ الْـمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إلَّا بَشَرًا مِّثْلَنَا} [هود: 27]، بل هذا نهج جميع أعداء الرسل؛ {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات: 52]، ولشدة تطابق اتهاماتهم كانت كأنما هي وصية من السابق للاحق؛ {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات: 53].
ومنه ضِيْقُهم ذرعًا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، حتى قال قائلهم: تربصوا به ريب المنون لينقطع ذِكْره، فإنما هو أبتر لا عَقِب له، حتى سلّاه ربه -عز وجل- وطمأنه بقوله: {إنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر: ٣]، وصدق ربنا: {أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122]، فقد أعلى الله ذِكْر نبيه بين الخلائق، وانتشر اسمه في الآفاق؛ {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: ٤]، وبتَر شَانِئَه، فلا يكاد يَعرفه أحد، فمن ذا يَعرف صاحب تلك القالة العوراء؟!
وهذا النوع من الاستفزاز شديد على النفس، قد يَفُتّ سريعًا في العضُد، ويُصيب باليأس والقنوط، فمن منا يقرب من يقين نوح -عليه السلام-، الذي كان يسمع سخرية قومه به كل لحظة؛ {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} [هود: 38]؛ فكان يسمع سفاهاتهم وهو منهمك في صنع فُلْكٍ في الصحراء! {قَالَ إن تـَسْخَرُوا مِنَّا فَإنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ 38 فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [هود: 38، 39].
الثالث: قد يُسْتَفَزُّ ويُسْتَخَفُّ في أتباعه؛ بتحقيرهم، أو تعذيبهم:
1. فمثال التحقير: ما كان في قوم نوح -عليه السلام-: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء: ١١١]، {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود: 27]، يحقرونهم بضعف عقولهم، وأنهم اتبعوا نوحًا -عليه السلام- من غير تفكير ولا تدبُّر ولا روية، بل بادروا لتصديقه بمجرد دعوته لهم.
2. ومثال التعذيب: ما وصلت إليه الحال بالمستضعَفين في مكة، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمرّ بآل ياسر؛ عمار وياسر وسمية، وهم يُعذَّبون في الله -عز وجل-، فيقول لهم: «صبرًا آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة»[1].
وفي حديث خَبّاب بن الأَرَتِّ -رضي الله عنه، وقد لقي الصحابة من المشركين شدة- قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تَسْتَنْصِرُ لنا، ألا تدعو الله لنا؟ قال: «كان الرجل فيمن قبلكم يُحفَر له في الأرض، فيُجْعَل فيه، فيُجَاء بالمنشار فيُوضَع على رأسه فيُشَقّ باثنتين، وما يصدّه ذلك عن دينه. ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصدّه ذلك عن دينه، والله لَيَتِمَّنَّ هذا الأمرُ، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون»[2].
الرابع: قد يُسْتَخَفُّ بطُعْمٍ يُغَلَّف له بغلاف نَصْر أو طمع أو متعة ولذة، فينطلق جامحًا خلفه، ليقع في حفرة؛ قد ينهض منها أَعْرَجَ كسيرًا، وقد لا ينهض، وهذه وسيلة قد كثرت في العصور المتأخرة بالأموال والمناصب والوجاهات والجنس، وغيرها.
وقد غشَّ إبليس أبانا آدم -عليه السلام-، إلا أن الله -تعالى- أقاله من عثرته، وتاب عليه: {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْـخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى} [طه: 120]، {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْـخَالِدِينَ 20 وَقَاسَمَهُمَا إنِّي لَكُمَا لَـمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 20، 21].
الخامس: قد يُسْتَفَزُّ ويُسْتَخَفُّ بفاجعة هزيمة لحقت -أو يُتوقَّع أن تلحق- به، أو بمنهجه، أو بأتباعه، ومظاهر هذا الاستفزاز ومحاولة الاستخفاف كثيرة جدًّا؛ منها:
1- في يوم الأحزاب، قال قائلهم: {مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلَّا غُرُورًا} [الأحزاب: 12]، فقد نجم النفاق في المدينة حين تكالبت الأحزاب، وظن المنافقون أن شأفة المسلمين ستُستأصَل في هذه الحملة التي جيَّشت لها قريش الجموعَ ممَّن حولها، ضد المسلمين، وأن الإسلام سَيُجْتَث من الأرض فيرتاحوا منه.
2- وهذا هو نفسه ظنهم أيام الحديبية، ظنوا أن قريشا ستستأصلهم فلن يرجع منهم مخبر {بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْـمُؤْمِنُونَ إلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح: 12].
وقد كَثُر الأمر بالصبر في القرآن الكريم، والسنة المطهرة، وعَظُمَ أجر الصابرين عند الله، وأمَرَ الله -تبارك وتعالى- نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بالصبر، ووعده بالنصر، ونهاه عن التأثر بمواقف المعادين، فقال له: {فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم: 60]؛ {فَاصْبِرْ} على ما أُمِرْت به، واصبر على دعوتهم إلى الله، ولو رأيت منهم ما رأيت من الإعراض والتكذيب والسخرية والاستهزاء، ونهاه عن التأثر بهذا الصنف من الناس، فلا ينبغي أن يصدّه ذلك عن المضي قُدمًا في طريق دعوته إلى الله -تعالى-، ووعَدَه بتحقق وعده، فقال: {إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} ، لا شك فيه ولا ريب ولا مرية، فإن وعْدَ الله -تعالى- بالنصر للدين وحمَلته، ووعْدَه بالثواب الأخروي في الجنة حقّ ثابت، وهذا من أكبر أسباب الثبات، وأعظم ما يُعين على الصبر؛ فإن المؤمن إذا علم أن عمله محفوظ غير ضائع، وسيجده كاملاً، هان عليه ما يَلقاه من المكاره، فكلّ مؤمنٍ موقنٍ رزينِ العقل يَسهلُ عليه الصبر، وكل ضعيف اليقين ضعيف العقل يصعب عليه الصبر[3].
وقد تأخذه المواقف المستفزة المستخفّة إلى أحد طرفَي نقيض:
1- إما لليأس والقنوط، والانصراف لمصالحه الدنيوية، وترك الطريق للسالكين الصادقين.
2- أو الغلو وردة الفعل المضادة في الاتجاه، والجامحة في العنف فيزمجر، ويدمر، وبهذا التصرف يستثير المزيد من غضب العدو، ومِن ثَمَّ المزيد من الهزائم والخسائر.
والتوسط المطلوب هو الجمع بين الصبر الجميل والعمل الجاد.
وقد واجَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم كلتا الحالتين بما يناسبها، من صبر أو تصبير.
فصَبَرَ على أذى المؤذين، وشماتة الشانئين، وسخرية الساخرين، وعناد المخالفين، وصَبَّرَ الأتباع الذين آذتهم السخرية والاستهزاء وتعذيب المعتدين، فأمَرهم بالصبر، وانتظار العاقبة؛ إما في الدنيا، وإما في الآخرة، وإما فيهما معًا، فالعاقبة له ولأتباعه لا محالة: {فَاصْبِرْ إنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49]، وطلب منهم المرابطة على الصبر والمصابرة، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران: 200]، وأمرهم بالاستعانة به تعالى على الصبر، فهو سبحانه الواهب: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلَّا بِاللَّهِ} [النحل: 127].
وامتدح النبي صلى الله عليه وسلم فئة رسخ الإيمان في قلوبهم، واليقين في نفوسهم، فلم يتأثروا بفئة تخذلهم وتثير الغبار في طريقهم، ولا فئة تُخالفهم وتُعاندهم، فقد قال معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- على المنبر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرّهم مَن خذلهم أو خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس»[4].
فهناك مَن يعيش بينهم في الصف، ويتردد معهم في الخندق نفسه، وهو مخذول، خاذل، مخذِّل؛ فهذه ثلاث دركات:
1- مخذول في نفسه بما ران على قلبه؛ {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23]، {وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46].
2- خاذل لإخوانه؛ حيث كان الواجب عليه نُصرتهم.
3- مخذِّل لهم أن يمتطوا صهوة العزم، ويُنَفّذوا مهماتهم النبيلة، ومخذِّل عنهم الأتباع.
فلن يكون مخذلاً حتى يكون خاذلاً. ولن يكون خاذلاً حتى يكون مخذولاً. فهي دركات؛ كل دركة تُزْلِف لما تحتها وتمهد.
فالمخذّل مخالفٌ مشاقٌّ معاند، في مسلاخ ناصح، ومسوح واعظ، يعترض لهم كل طريق، ويصدّ عنهم كل رفيق، شأنه شأن الشيطان، كما في حديث سَبْرَة بن أبي فاكه -رضي الله عنه-، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه؛ فقعد له بطريق الإسلام، فقال له: أتُسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبيك؟ قال: فعصاه، فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال: أتهاجر وتذر أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطِّوَل، قال: فعصاه فهاجر، قال: ثم قعد له بطريق الجهاد، فقال: هو جَهْدُ النفس والمال، فتقاتل فتُقتل، فتُنكح المرأة، ويُقسم المال، قال: فعصاه فجاهد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فمن فعل ذلك منهم فمات، كان حقًّا على الله أن يُدخله الجنة، أو قُتِل كان حقًّا على الله أن يُدخله الجنة، وإن غَرِق كان حقًّا على الله أن يُدخله الجنة، أو وَقَصَتْه دابة كان حقًّا على الله أن يُدخله الجنة»[5].
فهؤلاء لا يُسْتَخَفُّون، بل هم في طريقهم ماضون، وفي مهماتهم منهمكون، لا يلتفتون لتخذيل هذا ولا لخلاف ذاك؛ {وَإذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْـجَاهِلِينَ} [القصص: ٥٥]، آمالهم تتجاوز الواقع المعتم، وتخترقه للغد المشرق، مستنّين في ذلك بنهج نبيهم صلى الله عليه وسلم ؛ ففي الصحيحين[6] أن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- سألت النبي صلى الله عليه وسلم : هل أتى عليك يوم أشد من يوم أُحُد؟ قال: «لقد لقيتُ من قومك ما لقيت، وكان أشدّ ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عَرَضْت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كُلال، فلم يُجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال، لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملك الجبال، فسلم عليَّ، ثم قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أُطْبِقَ عليهم الأَخْشَبَيْن» ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم مَن يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئًا».
فلا تستفزنك الضغوط من حولك، ولا تُحْبِطَنَّك، ولا تستخفنّك الأحداث المؤلمة هنا وهناك، مهما كانت دامية، ولا تُيْئِسَنَّك، وَزِنْها جميعًا بميزان الشرع، بعيدًا عن العاطفة، وبمنأى عن تبعية الجموع.
وأنت قد تعيش الانتصار وحسن العاقبة في الدنيا، وقد تبذر البذرة أنت وتغرس الغرسة فتثمر للجيل الذي يأتي بعدك، وأنت ماضٍ بأجرك، لا ينتقص منه شيء؛ {فَإمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ 41 أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ 42 فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إلَيْكَ إنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ 43 وَإنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف: 41 – 44].
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
[1] أخرجه الطبراني في الكبير (769)، والأوسط (1508)، والحاكم في المستدرك (5646)، وصححه الألباني في صحيح السيرة النبوية (ص154).
[2] أخرجه البخاري (3146)، ومسلم (1/236)، (285).
[3] انظر: تفسير ابن كثير (6/ 328)، وتفسير السعدي (645).
[4] أخرجه مسلم (1037)، وأصله في صحيح البخاري (6881).
[5] أخرجه الإمام أحمد (15958)، وقوَّى إسناده محققو المسند.
[6] أخرجه البخاري (3059)، ومسلم (1795).
Source link