«إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ» جاءت هٰذِه الكلمة دلالةً عَلَىٰ ما في قلوب المؤمنين، من أنهم يقرّون لله بالعبودية، ويرجعون أمورهم إليه سُبْحَانَهُ، فهم مُلك بين يديه، وهم إليه راجعون، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ ولا غِنى لهم عنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ.
جاء في صحيح مسلم [1] من حديث أم سلمة هند بنت أميَّة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أنها قالت: “لمَّا مات أبو سلمة أمرني النَّبِيّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أقول: «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ آجرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَاخْلفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا»، فقلت في نفسي: ومن خير من أبي سلمة؟ أول أهل بيت هاجروا إِلَى الله ورسوله” تشير إِلَىٰ الهجرتين إِلَىٰ الحبشة، ثُمَّ إِلَىٰ المدينة، “ثُمَّ ما لبست أن بعث إليَّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حاطب بن أبي بلتعة يخطبني إليه، فقلت: إني امرأة لي ولد، وإني غيور، قَالَ: «أما ولدها فولدي، وأسأل الله أن يرفعهم، وَأَمَّا الغيرة فأدعو الله جَلَّ وَعَلَا أن يزيلها»” فأبدلها سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ زوجًا خيرًا من زوجها لما قالت هٰذَا الَّذِي أمرها النَّبِيّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ آجرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَاخْلفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا».
كلنا يا عباد الله ذلك المهموم والمغموم، وكلنا ذلك المصاب، وكلنا الَّذِي أطبقت عليه أنواع الكروب والهموم في نفسه، فهلَّا رجعنا إِلَىٰ الله جَلَّ وَعَلَا، واسترجعنا الأمر إليه، ولجأنا وأذعنا إليه؟ «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ» جاءت هٰذِه الكلمة دلالةً عَلَىٰ ما في قلوب المؤمنين، من أنهم يقرّون لله بالعبودية، ويرجعون أمورهم إليه سُبْحَانَهُ، فهم مُلك بين يديه، وهم إليه راجعون، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ ولا غِنى لهم عنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ.
ومثل هٰذِه الكلمة الَّتِي جاءت في سورة البقرة: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156]، {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ} [آل عمران: 174].
نعم يا عباد الله! «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ»؛ هٰذِه الكلمة الَّتِي إذا قالها المؤمن معتقدًا بها؛ كان له الثواب، {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ 156 أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 156، 157]، نعم يا عباد الله! صلوات من الله عليهم بذكرهم وَالثَّنَاء عليهم ومدحهم في الملأ الأعلى، ورحماتٍ تتنزّل عليهم لمَّا أرجعوا الأمر إليه، فهل نحن عند المصائب في ورودها وعند الغموم والهموم والأكدار في حدوثها ممن يعودون إِلَىٰ الله، ويلجؤون إليه؟
وتأملوا عباد الله! أن أدعية الهم والحزن وأدعية الكرب والشدة كلها تدور عَلَىٰ توحيد الله، وعَلَىٰ تسليم الأمر له، وعَلَىٰ الإذعان له وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وعَلَىٰ التَّبَرُّؤ من حول الإنسان وقوته، وأنَّه في ملك ربه يدبره كيفما شاء، فَهٰذِه المحن، وَهٰذِه البلايا لا تزيد المؤمن عند الله جَلَّ وَعَلَا إِلَّا رفعةً وقدرًا.
وتأملوا في أم عيسى، وهي مريم عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لمَّا أجاءها المخاض في جذع النخلة، في همٍّ وكربٍ شديدين، تمنَّت عند ذلك الموت، وما تدري أنَّ في رحمها رسولٌ من رسل الله، وكلمة الله عَزَّ وَجَلَّ عيسى، هٰذَا من المنن الَّتِي تكون في ثنايا هٰذِه المصائب والإحن.
عباد الله! أَمَّا بَعْدُ؛ أَيُّهَا المغموم والمهموم! يا من أُصبت بالكرب! إنَّ لك إِلَىٰ الله جَلَّ وَعَلَا مرجعًا ومآلًا، ومن ذلك قول: «لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ»، ليس قولها فَقَطْ بمجرد لسانك وطرفه، وَإِنَّمَا تقول بلسانك ما أقرَّ به واعتقده قلبك وجنانك «لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ»، هٰذِه الكلمة العظيمة الَّتِي هي كنزٌ من كنوز الجَنَّة، لا، بل هي بابٌ من أبواب الجَنَّة، كما ثبتت بذلك الأحاديث [2] عن النَّبِيّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي الصحيحين [3] من حديث أبي موسى الأشعري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكنَّا معه في سفر، وكنَّا نرفع أصواتنا بِالْدُّعَاءِ والذكر، قَالَ: «أَيُّهَا النَّاس! اربعوا عَلَى أنفسكم، إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا، إن الَّذِي تدعونه أقرب إِلَى أحدكم من عنق راحلته»، ثُمَّ إنه حرَّك إليَّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد أسررت في نفسي قول: «لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ»، ثُمَّ قَالَ: «يا عبد الله بن قيس! لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ كنزٌ من كنوز الجَنَّة».
نعم يا عباد الله! ولمَّا لقي النَّبِيّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إبراهيم الخليل عليهما وعَلَىٰ أنبياء الله جميعًا أفضل صلاةٍ وأزكى سلام، لمَّا لقيه في معراجه في السماء السابعة، قَالَ: «يا مُحَمَّد أقرئ أمتك منِّي السلام، وأخبرهم: أن الجَنَّة قيعان، وأن غراسها: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ».
وفي صحيح البخاري[4] وغيره[5] من حديث عبادة بن الصامت رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من تعارَّ من اَللَّيْل» أي: انتبه من نوم اَللَّيْل، وغالبًا ما يكون هٰذَا من همٍّ يؤرقه أو من قلق يقل مضجعه، «من تعارَّ من اَللَّيْل، فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالحَمْدُ للهِ، وَلاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ»، قَالَ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فإن دعا؛ استجيب له، ثُمَّ إن قام فتوضأ وصلى ركعتين؛ غُفرت ذنوبه».
هٰذِه فضائل عظيمة، لا يليق بنا أهل الإيمان أن نهملها أو نقصر فيها، بل الواجب والحقيق بنا: أن نستدركها وأن نحرص عليها، ولاسيما في أزمنة الكروب، وفي أزمنة المصائب، عَلَىٰ العامة وعَلَىٰ الخاصة، فما أعظم اللجأ إِلَىٰ الله، وما أعظم ترداد هٰذَا الكلام، تردده بلسانك، وتعتقده بقلبك وجنانك.
ثُمَّ اعلموا عباد الله أن أصدق الحديث كلام الله، وَخِيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثة بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وعليكم عباد الله بالجماعة؛ فإنَّ يد الله عَلَىٰ الجماعة، ومن شذَّ؛ شذَّ في النَّار، ولا يأكل الذئب إِلَّا من الغنم القاصية.
اللَّهُمَّ انصر جنودنا المرابطين، وجنودنا المقاتلين في سبيلك، اللَّهُمَّ سدّد رأيهم ورميهم، واجمع عَلَىٰ الكتاب وَالسُّنَّة كلمتهم، اللَّهُمَّ أكبت بهم عدونا، اللَّهُمَّ اشفِ بهم صدورنا، اللَّهُمَّ أذهب بهم غيظ قلوب المؤمنين يا ذا الجلال والإكرام.
[1] (918) بنحوه. [2] أخرجه البخاري (4205)، ومسلم (2704). [3] أخرجه البخاري (4205)، ومسلم (2704). [4] أخرجه البخاري (1154). [5] أخرجه أحمد (22673)، وابن ماجه (3878)، وأبو داود (5060)، والترمذي (3414).
Source link