الإيثار – طريق الإسلام

فبيَّن الله تبارك وتعالى أن من البر بعد الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب والأنبياء: إطعام الطعام لمحتاجيه، وبذله لمريديه، مع حبه واشتهائه والرغبة فيه..”

الإيثار لغة مصدر مِن آثر يؤثِر إيثارًا، بمعنى التقديم والاختيار والاختصاص.

 

معنى الإيثار اصطلاحًا: الإيثار أن يقدِّم غيرَه على نفسه في النفع له والدفع عنه، وهو النهاية في الأخوة.

 

الترغيب والحث على الإيثار من القرآن الكريم:

• قال الله تبارك وتعالى:  {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}  [الحشر: 9]؛قال الطبري: يقول تعالى ذكره: وهو يصف الأنصار والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبل المهاجرين: ويؤثرون على أنفسهم؛ يقول: ويعطون المهاجرين أموالهم إيثارًا لهم بها على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة؛ يقول: ولو كان بهم حاجة وفاقة إلى ما آثروا به من أموالهم على أَنفسهم.

 

• وقال الله تعالى:  {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}  [آل عمران: 92]، يقول السعدي: يعني: (لن تنالوا وتدركوا البر الذي هو اسم جامع للخيرات، وهو الطريق الموصل إلى الجنة، حتى تنفقوا مما تحبون، من أطيب أموالكم وأزكاها، فإن النفقة من الطيب المحبوب للنفوس، من أكبر الأدلة على سماحة النفس، واتِّصافها بمكارم الأخلاق، ورحمتها ورقتها، ومن أدل الدلائل على محبة الله، وتقديم محبته على محبة الأموال التي جُبلت النفوس على قوة التعلق بها، فمن آثَر محبة الله على محبة نفسه، فقد بلغ الذِّروة العليا من الكمال، وكذلك من أنفق الطيبات، وأحسن إلى عباد الله، أحسن الله إليه ووفَّقه أعمالًا وأخلاقًا، لا تحصل بدون هذه الحالة).

 

• وقال تبارك وتعالى:  {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}  [البقرة: 177]، فبيَّن الله تبارك وتعالى أن من البر بعد الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب والأنبياء: إطعام الطعام لمحتاجيه، وبذله لمريديه، مع حبه واشتهائه والرغبة فيه، وقد جاء به الله تعالى – أي إطعام الطعام – بعد أركان الإيمان مباشرة، وفي ذلك دلالة على عظمته وعُلو منزلته.

 

أقسام الإيثار:

أولًا: أقسامه من حيث تعلقه بالغير:

القسم الأول: إيثار يتعلق بالخالق: وهو أفضل أنواع الإيثار وأعلاها منزلة، وأرفعها قدرًا، يقول ابن القيم: (والإيثار المتعلق بالخالق أجل من هذا – أي من الإيثار المتعلق بالخلق – وأفضلُ، وهو إيثار رضاه على رضى غيره، وإيثار حبه على حب غيره، وإيثار خوفه ورجائه على خوف غيره ورجائه، وإيثار الذل له والخضوع والاستكانة والضراعة والتملق على بذل ذلك لغيره، وكذلك إيثار الطلب منه والسؤال وإنزال الفاقات به على تعلُّق ذلك بغيره)، ولهذا النوع من الإيثار علامات دالة عليه:

إحداها: أن يفعل المرء كلَّ ما يُحبه الله تعالى ويأمر به، وإن كان ما يحبه الله مكروهًا إلى نفسه، ثقيلًا عليه.

 

الثاني: أن يترك ما يكرهه الله تعالى وينهى عنه، وإن كان محببًا إليه، تشتهيه نفسه، وترغب فيه.

 

القسم الثاني: إيثار يتعلق بالخلق:

وهذا هو النوع الثاني من أنواع الإيثار من حيث تعلقه بالخلق، وقد قسَّم الشيخ ابن عثيمين رحمه الله هذا النوع من الإيثار إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: وهو الممنوع: وهو أن تؤثر غيرك بما يجب عليك شرعًا، فإنه لا يجوز أن تقدم غيرك فيما يجب عليك شرعًا، فالإيثار في الواجبات الشرعية حرام، ولا يحل لأنه يستلزم إسقاط الواجب عليك.

 

القسم الثاني: وهو المكروه أو المباح: فهو الإيثار في الأمور المستحبة، وقد كَرِهَه بعضُ أهل العلم، وأباحه بعضهم، لكن تركه أَولى لا شك إلا لمصلحة.

 

القسم الثالث وهو المباح: وهذا المباح قد يكون مستحبًّا، وذلك أن تؤثر غيرك في أمر غير تعبُّدي؛ أي تؤثر غيرك وتقدِّمه على نفسك في أمر غير تعبدي.

 

شروط هذا النوع من الإيثار:

ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى شروطًا للإيثار المتعلق بالمخلوقين، تنقله من حيِّز المنع أو الكراهة إلى حيز الإباحة، ولعلنا نجملها فيما يلي:

1- ألا يضيع على المؤثر وقته.

2- ألا يتسبَّب في إفساد حاله.

3- ألا يَهضِم له دينَه.

4- ألا يكون سببًا في سد طريق خير على المؤثر.

5- ألا يمنع للمؤثر واردًا.

 

فإذا توفرت هذه الشروط، كان الإيثار إلى الخلق قد بلغ كماله، أما إن وُجد شيء من هذه الأشياء، كان الإيثار إلى النفس أَولى من الإيثار إلى الغير، فالإيثار المحمود كما قال ابن القيم هو: الإيثار بالدنيا لا بالوقت والدين وما يعود بصلاح القلب.

 

ثانيًا: أقسامه من حيث باعثه والداعي إليه:

الأول: قسم يكون الباعث إليه الفطرة والغريزة: كالذي يكون عند الآباء والأمهات، والحب من أقوى البواعث الذاتية الدافعة إلى التضحية بالنفس، وكل ما يتصل بها من مصالح وحاجات، من أجل سلامة المحبوب أو تحقيق رضاه، أو جلب السعادة أو المسرة إليه؛ تقول أم المؤمنين عائشة: جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها، فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت كل واحدة منهما تمرة، ورفعت إلى فيها تمرة لتأكُلَها، فاستطعمتَها ابنتاها، فشقَّت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها، بينهما، فأعجبني شأنها، فذكرت الذي صنعت لرسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فقال: «إن الله قد أوجب لها بها الجنة، أو أعتقها بها من النار» [1].

 

الثاني: وقسم يكون الدافع هو الإيمان وحبَّ الخير للغير على حساب النفس وملذاتها ومشتهياتها، وهو كما قال الميداني: ليس إيثارًا انفعاليًّا عاطفيًّا مجردًا، ولكنه إيثار يعتمد على محاكمة منطقية سليمة، ويعتمد على عاطفة إيمانية عاقلة.

 

نماذج من إيثار رسول الله (صلى الله عليه وسلم):

• عن سهلِ بن سعد أنَّ امرأةً جاءتِ النبيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ببُردةٍ منسوجةٍ فيها حاشيتُها، فقالَ سهل للقوم: أَتَدرونَ ما البُردةُ؟ قالوا: الشَّمْلةُ؟ قالَ: نعمْ، قالتْ: يا رسول الله، إني نسجتُها بيَدي فجئتُ لأَكْسُوَكَهَا، فأخذَها النبيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) محتاجًا إليها، فلبسها، فخرَج إلينا وإنها إزارُه، فحسَّنَها (وفي روايةٍ: فجَسَّها) فلانٌ من الصحابة، فقالَ: يا رسولَ الله، اكسُنيها، ما أَحسنَها! فقالَ: «نعم» ، فجلسَ النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ما شاءَ الله في المجلس، ثم رَجَعَ فَطَواها، ثم أرسلَ بها إليه، فلَمَّا قامَ النبيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لامَهُ أصحابه، فقال له القومُ: ما أَحسنتَ؛ لبِسَها النبيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) محتاجًا إِلَيْهَا ثم سألتَه، ولقد علِمْتَ أنه لا يرُدُّ سائلًا، قال الرجل: إني والله ما سألتُه لألْبسَها، إنما سألتُه لتكونَ كفَني، (وفي روايةٍ: رجوت بركتها حين لبِسها النبيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لعلِّي أُكفَّن فيها يومَ أَموت، قال سهلٌ: فكانتْ كفنَهُ[2].

 

• عن جابرٍ قالَ: إِنَّا يَوْمَ الْخَنْدَقِ نَحْفِرُ، فَعَرَضَتْ كُدْيَةٌ شَدِيدَةٌ، فَجَاءُوا النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فَقَالُوا: هَذِهِ كُدْيَةٌ عَرَضَتْ فِي الْخَنْدَقِ، فقالَ: أَنَا نَازِلٌ، ثُمَّ قَامَ وَبَطْنُهُ مَعْصُوبٌ بِحَجَرٍ، وَلَبِثْنَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ لاَ نَذُوقُ ذَوَاقًا، فَأَخَذَ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) الْمِعْوَلَ، فَضَرَبَ، فَعَادَ كَثِيبًا أَهْيَلَ – أَوْ أَهْيَمَ – فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي إِلَى الْبَيْتِ، فانْكَفَأتُ، فَقُلْتُ لاِمْرَأَتِي: رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) شَيْئًا، (وفي طريق: خَمْصًا شديدًا) مَا كَانَ فِي ذَلِكَ صَبْرٌ، فَعِنْدَكِ شَيْءٌ؟ قَالَتْ: عِنْدِي شَعِيرٌ وَعَنَاقٌ، (وفي طريقٍ: بُهَيْمَةٌ داجِنٌ)، فَذَبَحْتُ الْعَنَاقَ، وَطَحَنَتِ الشَّعِيرَ، فَفَرغَتْ إلى فراغي، حَتَّى جَعَلْنَا اللَّحْمَ فِي الْبُرْمَةِ، ثُمَّ جِئْتُ النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَالْعَجِينُ قَدِ انْكَسَرَ، وَالْبُرْمَةُ بَيْنَ الأَثَافِيّ، قَدْ كَادَتْ أَنْ تَنْضَجَ، فَقَالَتْ: لاَ تَفْضَحْنِي بِرَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَبِمَنْ مَعَهُ، فَجِئْتُهُ، فَسَارَرْتُهُ، فَقُلْتُ: يا رسولَ اللهِ، طُعَيِّمٌ لِي، (وفي طريقٍ: ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا، وَطَحَنْتُ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ كانَ عندَنا، فَقُمْ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَرَجُلٌ أَوْ رَجُلاَنِ، (وفى طريقٍ: نَفَرٌ)، قالَ: كَمْ هُوَ؟ فَذَكَرْتُ لَهُ، قَالَ: كَثِيرٌ طَيِّبٌ، قَالَ: قُلْ لَهَا: لاَ تَنْزِعُ الْبُرْمَةَ وَلاَ الْخُبْزَ مِنَ التَّنُّورِ حَتَّى آتِيَ، فَصَاحَ النَّبِي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ، إِنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ سُؤرًا فَحَيَّ هَلًا بِكُمْ، فَقَامَ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ، وجاءَ رسولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقْدُمُ النَّاسَ، فَلَمَّا دَخَلَ (جابرٌ) عَلَى امْرَأَتِهِ، قَالَ: وَيْحَكِ، جَاءَ النَّبِي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بِالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَمَنْ مَعَهُمْ، فقالَتْ: بِكَ وبِكَ، قَالَتْ: هَلْ سَأَلَكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قد فعلتُ الذي قُلتِ، فَقَالَ: ادْخُلُوا، وَلاَ تَضَاغَطُوا، فَأَخْرَجَتْ لَهُ عَجِينًا، فَبَصَقَ فِيهِ وَبَارَكَ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى برمَتِنَا فَبَصَقَ وَبَارَكَ، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ خَابِزَةً فَلْتَخْبِزْ مَعِي وَاقْدَحِي مِنْ برمَتِكُمْ، وَلاَ تُنْزِلُوهَا، فَجَعَلَ يَكْسِرُ الْخُبْزَ، وَيَجْعَلُ عَلَيْهِ اللَّحْمَ، وَيُخَمِّرُ البرمَةَ وَالتَّنُّورَ إِذَا أَخَذَ مِنْهُ، وَيُقَرِّبُ إِلَى أَصْحَابِهِ، ثُمَّ يَنْزِعُ، فَلَمْ يَزَلْ يَكْسِرُ الْخُبْزَ وَيَغْرِفُ حَتَّى شَبِعُوا، وهم ألفٌ وَبَقِيَ بَقِيَّةٌ، قَالَ: كُلِي هَذَا، وَأَهْدِي فَإِنَّ النَّاسَ أَصَابَتْهُمْ مَجَاعَةٌ، فأقْسِمُ بِاللَّهِ لَقَدْ أَكَلُوا حَتَّى تَرَكوهُ وَانْحَرَفُوا، وَإِنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغِطُّ كَمَا هِيَ، وَإِنَّ عَجِينَنا ليُخْبَزُ كما هو[3].

 

نماذج من إيثار الصحابة رضوان الله عليهم:

ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم:

عن أبي هريرة أنَّ رجلًا أتَى النبيّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فقالَ: يا رسولَ اللهِ، أصابني الجَهْدُ، فبعَثَ إلى نسائِهِ، فقلنَ: ما معنا إلا الماءُ، فقالَ رسولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): «مَن يَضُمُّ – أو يُضِيْفُ – هذا هذه الليلةَ؟» فقالَ رجلٌ من الأنصارِ: أنا يا رسولَ اللهِ، فانطلَقَ بهِ إلى امرأتِهِ، فقالَ: أكْرِمي ضيفَ رسولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، لا تَدَّخِرِيهِ شيئًا، فقالَتْ: واللهِ ما عندنا إلا قوتُ صِبياني، فقالَ: هَيِّئي طعامَكِ، وأصْبِحي سِراجَكِ، ونَوِّمي صِبيانَكِ إذا أرادُوا عَشاءً، وتعالَيْ فأطْفِئي السراجَ، ونَطْوِي بُطونَنا الليلةَ، فَهَيِّأَتْ طعامَها، وأصْبَحَتْ سراجَها، ونَوَّمَتْ صِبيانَها، ثم قامَتْ كأنَّها تُصْلحُ سراجَها فأطْفَاتْهُ، فجعلا يُرِيَانِهِ أنهما يأكلانِ، فباتا طاويَيْنِ، فلما أصبحَ غدا إلى رسولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فقالَ: «ضحِكَ اللهُ الليلةَ – أو عَجِبَ – مِن فَعالِكُما» ، فأنزَلَ اللهُ:  {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}  [الحشر: 9][4].

 

إيثار حتى بالحياة:

• يقول حذيفة العدوي: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عمٍّ لي ومعي شيء من ماء، وأنا أقول: إن كان به رمقٌ سقيتُه ومسحتُ به وجهه، فإذا أنا به، فقلت: أسقيك؟ فأشار إليَّ أن نعم، فإذا رجل يقول آه، فأشار ابن عمِّي إليَّ أن انطلق به إليه، فجئته فإذا هو هشام بن العاص، فقلت: أسقيك؟ فسمع به آخر، فقال: آه، فأشار هشام: انطلق به إليه فجئته، فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمِّي فإذا هو قد مات، رحمة الله عليهم أجمعين.

 

نماذج من إيثار السلف رحمهم الله:

• عن أبي الحسن الأنطاكي أنه اجتمع عنده نيِّف وثلاثون رجلًا بقرية من قرى الرَّي، ومعهم أرغفة معدودة لا تُشبع جميعهم، فكسروا الرُّغفان، وأطفؤوا السِّراج، وجلسوا للطعام، فلمَّا رفع فإذا الطَّعام بحاله لم يأكل منه أحد شيئًا، إيثارًا لصاحبه على نفسه.

 

• قال الهيثم بن جميل: جاء فضيل بن مرزوق – وكان من أئمة الهدى زهدًا وفضلًا – إلى الحسن بن حيي، فأخبره أن ليس عنده شيء، فقام الحسن فأخرج ستة دراهم، وأخبره أنَّه ليس عنده غيرها، فقال: سبحان الله أليس عندك غيرها وأنا آخذها، فأخذ ثلاثة وترك ثلاثة.

 

موانع اكتساب صفة الإيثار:

موانع اكتساب الإيثار المتعلق بالخالق:

يقول ابن القيم في الموانع التي تجعل النفس تتخلف عن هذا النوع من الإيثار: والنقص والتخلف في النفس عن هذا يكون من أمرين:

1- أن تكون جامدة غير سريعة الإدراك بل بطيئة، ولا تكاد ترى حقيقة الشيء إلا بعد عسرٍ، وإن رأتها اقترنَت به الأوهام والشكوك والشبهات والاحتمالات، فلا يتخلَّص له رؤيتُها وعيانها.

 

2- أن تكون القريحة وقَّادة درَّاكة لكن النفس ضعيفة مهينة، إذا أبصرت الحق والرشد، ضعفت عن إيثاره، فصاحبها يسوقها سوقَ العليل المريض كلما ساقَه خُطوة وقف خطوة، أو كسوق الطفل الصغير الذي تعلَّقت نفسه بشهواته ومألوفاته، فهو يسوقه إلى رشده، وهو مُلتفت إلى لهوه ولعبه لا ينساق معه إلا كرهًا.

 

موانع اكتساب الإيثار المتعلق بالخلق:

1. ضعف إيمان واليقين، فكما أن الإيمان القوي يدفع صاحبه للبذل والعطاء والإيثار، فإن ضعفه يكون سببًا في الأثرة والشح.

 

2. الشح المطاع، لذا ذكر الله عز وجل في الآية التي مدح فيها أهلَ الإيثار أن مَن يُوفَّق في الوقاية من شُح نفسه فقد أفلح.

 

3. حب النفس، وتملُّك الأثرة على القلب.

 

4. قسوة القلب وجموده، فمن رقَّ قلبه ولانت طباعُه، سهُل عليه أمر الإيثار.

 

5. ضعف الهمة والزهد في الذكر الحسن.

فوائد الإيثار:

للإيثار فوائدُ عظيمة وثمار جليلة يَجنيها أصحاب هذا الخلق العظيم؛ منها:

1. دخولهم فيمن أثنى الله عليهم من أهل الإيثار، وجعلهم من المفلحين.

 

2. الإيثار طريق إلى محبة الله تبارك وتعالى والتعرض لمحبته.

 

3. تحقيق الكمال الإيماني، فالإيثار دليلٌ عليه وثمرة من ثماره، فقد قال المصطفى (صلى الله عليه وسلم): «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يُحب لنفسه»، والنفي هنا لا يقصد به نفي الأصل، وإنما نفي الكمال كما هو مقرَّر عند أهل العلم، وعليه يُفهم من الحديث أن من أحب لأخيه ما يحب لنفسه، تحقَّق فيه الإيمان الكامل.

 

4. ومن أعظم الثمار والفوائد أن التحلي بخلق الإيثار فيه اقتداء بالحبيب محمد (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).

 

5. أن المؤثر يَجني ثمار إيثاره في الدنيا قبل الآخرة، وذلك بمحبة الناس له وثناؤهم عليه، كما أنه يجني ثمار إيثاره بعد موته بحُسن الأحدوثة وجمال الذكر، فيكون بذلك قد أضاف عمرًا إلى عمره.

 

6. الإيثار يقود المرء إلى غيره من الأخلاق الحسنة والخلال الحميدة؛ كالرحمة وحب الغير والسعي لنفع الناس، كما أنه يقوده إلى ترْك جملة من الأخلاق السيئة والخلال الذميمة؛ كالبخل وحب النفس والأثرة والطمع، وغير ذلك.

 

7. وهو جالب للبركة في الطعام والمال والممتلكات.

 

8. وجود الإيثار في المجتمع دليلٌ على وجود حِسِّ التعاون والتكافل والمودة، وفقْده من المجتمع دليلٌ على خُلوِّه من هذه الركائز المهمة في بناء مجتمعات مؤمنة قوية ومتكاتفة.

 


[1] رواه مسلم.

[2] رواه البخاري.

[3] رواه البخاري ومسلم.

[4] رواه البخاري.

___________________________________________________

الكاتب: عفان بن الشيخ صديق السرگتي


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

أثر الحسنة والعمل الصالح – ابن قيم الجوزية

منذ حوالي ساعة قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: “ما عمل رجل عملا إلا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *