قلوب الوالدات – حميد بن خيبش

وكان رجل من الصالحين يقبّل قدم أمه كل يوم، فأبطأ يوما على إخوته فسألوه، فقال: كنت أتمرّغ في رياض الجنة، فقد بلغنا أن الجنة تحت أقدام الأمهات.

 

حميد بن خيبش

تقول الحكاية اليابانية القديمة إن ضفدعا كان لا يصغي لأمه، فإذا قالت له: اذهب إلى الجبل! فإنه يذهب إلى النهر. وذات يوم مرضت الأم مرضا شديدا، ففكرت بلحظة موتها في النهاية، وقالت لنفسها: “بعد موتي أريد أن أدفن في الجبل، ولكن هذا الابن سيفعل العكس تماما كعادته، ويدفنني على شاطئ النهر.”

استدعت ابنها وأخبرته الوصية: “بعد موتي، أرجو أن تدفنني على شاطئ النهر!” ثم ماتت. وعندما شاهد الضفدع موت أمه، ندم لأول مرة في حياته على أنه لم يصغ يوما لكلامها، فقال في نفسه: ” هذه المرة سأفعل كما أوصت أمي تماما”، فدفنها على شاطئ النهر وهو يبكي.

لكن عندما هطلت الأمطار بغزارة، فاض النهر وكاد أن يجرف قبر الأم، فقلق الضفدع قلقا شديدا، وبدأ ينقّ بكل ما يستطيع بقوة: ناق، ناق، ناق، يا أمي لا تنجرفي!

لذلك يقال إن الضفادع تأخذ بالنقيق عندما توشك الأمطار على الهطول، خوفا من انجراف قبور الأمهات. ويا له من مغزى عميق في عالم الضفادع يفتقر إليه اليوم مجتمع الإنسان العاقل، والذي يفترض فيه حمل أمانة الاستخلاف!

يحرف سيل العولمة قلوب الأمهات دون رحمة، بفعل ارتخاء قبضة القيم، وهيمنة التفسير المادي للحياة على السلوك والمواقف. وبتنا بحاجة إلى إعادة تشكيل الصورة الذهنية للأم مثلما خطّها الوحي الإلهي والسنة النبوية. ولعل من المفارق حقا أن تُخلد المجتمعات الإسلامية عيد الأم كل سنة، بغض النظر عن النقاش الدائر حول مشروعيته أو تحريمه، وتضج وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي بصور الامتنان، بينما تكشف الإحصاءات عن استمرار التخلي عن الآباء، ورميهن في دور المسنين أو في الشارع دون أدنى ذرة من خجل.

غير خفي على المسلم ما خصّ الله تعالى به الأم من تكريم مقدم على تكريم الأب، والحكمة في ذلك كونها أضعف منه، وأحق بالإحسان منه لما عانته في مبتدأ حياة الابن من حمل وفطام، ومشقة تربية وسهر؛ كل ذلك والقلب يفيض حنانا وعطفا، وحرصا على سلامة الأبناء وراحتهم. لذا لا يؤدي المرء حق زفرة واحدة من صدرها ولو بحملها على الأكتاف. قال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن لي أما بلغ منها الكِبَر أنها لا تقضي حاجتها إلا وظهري لها مطية، فهل أديت حقها؟ قال: لا، لأنها كانت تصنع بك ذلك وهي تتمنى بقاءك، وأنت تصنعه وتتمنى فراقها.

تصدى الإسلام لقساوة القلب التي صارت اليوم سمة العديد من الأبناء تجاه آبائهم وأمهاتهم. وعرض القرآن الكريم لصور الإحسان اللائقة بمكانتهما، كعدم التأفف أو إبداء الضجر، وحسن الملاطفة واختيار الكلام الطيب، وطاعتهما في كل أمر خلا من المعصية.

وكان للأم النصيب الأوفر في التوجيهات النبوية قولا وفعلا، من خلال تشريف النبي صلى الله عليه وسلم لها، وإظهار مكانتها لأصحابه في مواقف عديدة، رسمت الإطار الذي يجدر بكل مسلم أن يتحرك داخله. روى الإمام أحمد في مسنده «أن جاهمة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أردت أن أغزو فجئت أستشيرك، فقال: “هل لك من أم؟” قال: نعم، قال: “فالزمها، فإن الجنة عند رجلها» “.

وأخرج الزبيدي في الإتحاف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « “برّ الوالدة ضِعفان”. قيل: يا رسول الله كيف ذلك؟ قال: “هي أرحم من الأب”» .(6/316)

وعمّ تشريفه كل أم حتى في عالم الحيوان، فأمر أصحابه بأن يردوا على حُمّرة (طائر صغير) فرخيها قائلا: “من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها!” بينما انتظر العالم حتى الثاني عشر من ماي سنة 1908 كي تقرر الناشطة الأمريكية آنا جارفيس تكريم والدتها، بإقامة حفل تأبين في الذكرى الثانية لوفاتها، وليصدر الكونجرس الأمريكي قرارا بجعل هذا اليوم عطلة وطنية، للتعبير عن الامتنان والتقدير العميق للأمهات!

  كان قلب الأم عنوان الترابط الأسري، وأحد الأسس الأخلاقية التي قام عليها النظام الاجتماعي في الحضارات القديمة. يوجه الحكيم المصري القديم (آني) نصائح لابنه قائلا:” ضاعف مقدار الخبز الذي تعطيه والدتك، واحملها كما حملتك، ولقد كان عبئها ثقيلا في حملك. وحينما ولدت حملتك كذلك ثانية بعد شهور حملك حول رقبتها، وأعطتك ثديها ثلاث سنوات ولم تشمئز من برازك.. وحينما تصبح شابا وتتخذ لنفسك زوجة وتستقر في بيتك، اجعل نصب عينيك كيف وضعتك أمك، كيف ربتك بكل الوسائل، فليتها لا تضرك بألا ترفع أكف الضراعة إلى الله، وليته لا يسمع عويلها.”(1)

وفي بلاد الصين نصت تعاليم الحكيم كونفوشيوس، الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد، على توقير الوالدين والبر بهما، والسهر على راحتهما في الدنيا، ثم الوفاء لروحيهما في طقوس جنائزية لائقة. جاءه أحد رجال البلاط يوما يستفسر عن معنى طاعة الوالدين التي نصت عليها تعاليمه، فأجاب: “هي ألا يكون في الدنيا كلها شيء يشغل الأبناء عن السهر على راحة وصحة آبائهم.”(2)

وأما في البلاد العربية قبل الإسلام، فقد شغلت الأم مكانة متميزة، جعلت الملوك يفخرون بنسبهم إلى أمهاتهم؛ فكان المنذر الثالث الذي حكم الحيرة يُلقب بالمنذر بن ماء السماء، وهو لقب أمه مارية بنت عوف التي اشتهرت بجمالها وحسنها. و “عمرو بن هند” الذي يُنسب إلى أمه هند بنت الحارث، رغم ما عُرف عنه من جبروت وشدة بأس. وترجح كتب التاريخ أن تأثير الأم كان يبلغ حد تغيير الأبناء لدياناتهم، كالشاعر العربي امرؤ القيس الذي يقال أنه اعتنق النصرانية بتأثير من أمه فاطمة أخت المهلهل بن ربيعة.

وتفصح معاجم اللغة عن تكريم العربي لأمه بأن جعلها أصل كل شيء وأعظمه في كلامه. لذا تتردد في اللسان العربي عشرات وربما مئات الكنى والعبارات التي تؤسس لعرفان دائم بدور الأم من قبيل: أن العرب تقول للرجل الذي يلي طعام القوم وخدمتهم: هو أمهم.

وتسمي الطريق إذا كان عظيما وحوله طرق صغار بأنه أم الطريق.

وتسمي المجرة أم النجوم لأنها مجتمع النجوم،

ومكة أم القرى لأنها توسطت الأرض فيما زعموا، وقيل لأنها قبلة الناس يؤمونها.

وأضيفت الأم إلى أشياء كثيرة؛ فأم الرأس هي الجلدة التي تجمع الدماغ، وأم الكلبة هي الحمىى، وأم جابر هي السنبلة والخبز، والصحراء أم عبيدة، والضبع والمقبرة أم عامر، والرحى أم عطية، والشمس أم شملة، والخمر أم ليلى وأم الخبائث، والدنيا أم دَرز، والجرادة أم ريح، والنخلة أم جرذان، وقِدر الطعام أم العيال، والنعامة أم البيض، والنار أم هاوية.

وزكى الوحي الإلهي هذا التقدير اللغوي بأن جعل الفاتحة أم الكتاب، وزوجات النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين، كما أكد على أنها نبع الاستعطاف والاسترحام، مثلما جاء على لسان هارون حين غضب موسى عليه السلام، وأخذ برأسه يجره: {(يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي) } [طه:92]

كان للتقدير الإلهي للأم والأمومة أثر كبير في تنافس السلف الصالح على البر بالوالدات والإحسان إليهن. وتكشف الأخبار في هذا الباب عن صور اجتماعية محفزة للجيل الناشئ الذي يتعرض بناؤه القيمي لوطأة التغريب.

بلغ من برّ علي بن الحسين رضي الله عنه أنه كان لا يأكل مع أمه في صحفة (إناء طعام) واحدة. فقيل له: إنك من أبرّ الناس ولا تأكل مع أمك في صحفة، فقال: أخاف أن تسبق يدي يدها إلى ما تسبق عيناها إليه، فأكون قد عققتها.

وكان رجل من الصالحين يقبّل قدم أمه كل يوم، فأبطأ يوما على إخوته فسألوه، فقال: كنت أتمرّغ في رياض الجنة، فقد بلغنا أن الجنة تحت أقدام الأمهات.

وقال محمد بن المنكدر: بت أكبس رجل أمي، وبات أخي يصلي، ولا تسرّني ليلته بليلتي!

وفي (الأدب المفرد) للبخاري أن رجلا أصاب ذنوبا ظنها من الكبائر، فذكر ذلك لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فقال: ليست هذه من الكبائر. ثم سأل الرجل: أتفرق من النار وتحب أن تدخل الجنة؟ قال: أي والله. قال: أحي والداك؟ قال: عندي أمي. قال: فوالله لو ألنت لها الكلام، وأطعمتها، لتدخلن الجنة ما اجتنبت الكبائر.

حين اقترح أحد وزراء الملك الراحل الحسن الثاني إنشاء دور للمسنين بالمغرب، مثلما يجري في بلاد أوروبا، كان رد الملك حاسما بالقول:” إن وجود دار للمسنين في بلدة يعد نشازا، ويحط من قيمة المنطقة وموروثها وأخلاقها التي رضعها الجميع مع حليب أمهاتهم. هذه الدار حتى وإن كانت بألف نجمة ونجمة، لا توفر للوالدين الرعاية النفسية.” وفي الرد تنبيه إلى الفارق بين منظومتين للقيم: واحدة ترى في هذه الدور مؤسسات للرعاية وتقديم الخدمات، وأخرى تراها قصة من قصص الجحود!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1): د. جلال شمس الدين: الفضائل والقيم لدى الشعوب القديمة. ص52

(2): ليوجون تيان وآخرون: محاورات كونفوشيوس. ص22


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

مسائل في فقه الصلاة على النبي ﷺ – أحمد عبد المجيد مكي

لنبينا صلى الله عليه وسلم علينا حقوق كثيرة؛ منها: الإكثار من الصلاة والسلام عليه في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *