وفي خضم هذا الضباب الكثيف من التعريفات المستحدثة والأدوار المعكوسة، يأتيك إبراهيم عليه السلام، ليس فقط كنبيٍ معصومٍ نقتفي أثر عبادته ودعوته فحسب، ولكن كرجلٍ استطاع أن يكون زوجًا فوق العادة، في زمنٍ لم يكن فيه العالم مهيئًا بعد لفهم ما يعنيه أن يكون المرء “فوق العادة”.
في زمنٍ اختلطت فيه ملامح الرجولة، وتوزعت بين صلابة جافة أو تسيبٍ مائع، بين عنفٍ أعمى أو حياءٍ مستتر؛ تأتيك سيرة إبراهيم عليه السلام لتعيد رسم الصورة الأولى: الرجولة كما أرادها الله، في ميدان الزواج لا كما يرسمها الناس في الأسواق أو على منصات الوعظ.
إنه الزوج الذي لم تُخرجه النبوة من رقّة القلب، ولم تمنعه الكرامة من الكلمة اللينة، ولم تضعف قيادته لحظة خضوعه لأمر ربه ولو كان فيه فراق الأحبة. في سيرته بيتٌ من نور، عماده الإيمان، وسقفه الحياء، وجدرانه الصبر، وأثاثه الرحمة. لم تكن الزوجية في حياته هامشًا… بل كانت بابًا من أبواب التمام الذي شهد الله له به.
هناك لحظاتٌ في التاريخ تشع بوميض كأنه نقطة ضوءٍ أزلية، لا لتُخبرنا بما كان، ولكن لتُعيد تعريف ما نحن عليه الآن.
لا شك أن من هذه اللحظات تلك التي تجلت فيها سيرة سيدنا إبراهيم عليه السلام..
وإن سيرته ليست مجرد قصة تُروى، بل هي مرآة صافية تجذبك للتحديق فيها لا لمجرد الانبهار ولكن لتصحيح تلك المفاهيم المشوّهة التي طالما ظننتها من المسلّمات في زمنٍ اختلطت فيه المعاني والمفاهيم..
من أهم هذه المفاهيم التي تبرزها سيرة سيدنا إبراهيم؛ تلك المتعلقة بالحياة الزوجية..
ذلك الملمح من حياة سيدنا إبراهيم عليه السلام كزوج يمثل جزءا حيويا جدا في رحلته الطويلة
وفي خضم هذا الضباب الكثيف من التعريفات المستحدثة والأدوار المعكوسة، يأتيك إبراهيم عليه السلام، ليس فقط كنبيٍ معصومٍ نقتفي أثر عبادته ودعوته فحسب، ولكن كرجلٍ استطاع أن يكون زوجًا فوق العادة، في زمنٍ لم يكن فيه العالم مهيئًا بعد لفهم ما يعنيه أن يكون المرء “فوق العادة”.
في سيرته الزوجية بيتٌ من نور؛ عماده الإيمان، وسقفه الحياء، وجدرانه الصبر، وأثاثه الرحمة.
لم تكن الزوجية في حياة سيدنا إبراهيم؛ هامشًا ثانويًا أو دورًا اجتماعيًا يؤديه، بل كانت من صميم ذلك الوفاء الذي استحق به شهادة السماء الخالدة:
{ {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّىٰ} } [النجم: 37]وفَّى توحيده وفي دعوته..
ووفَّى في بنوته وفي أبوته..
ووفَّى في بيته كزوج.
إن سيرة إبراهيم عليه السلام زوجا تبرز من خلال القرآن والسنة الصحيحة لتعيد رسم الصورة الأولى للرجولة كما أرادها الله في ميدان الزواج لا كما يرسمها الناس في تصوراتهم القاصرة..
ما هي الرجولة حقًا؟
هل هي ذلك الصوت الجهوري الذي يملأ الفراغ، أم هي ذلك الصمت الحكيم الذي يحتوي الفوضى؟
هل هي تلك القسوة المتصلّبة التي لا تتفاهم، أم ذلك اللين العاقل الذي يستوعب؟
هل هي مجرد امتلاك القوة والسلطة، أم معرفة متى يمكنك ألا تستخدمها؟
وما هي القيادة في بيتٍ؟
هل هي مجرد إصدار الأوامر وفرض العقوبات، أم هي تلك القدرة العجيبة على أن تترك للنفوس مساحة لتنمو، وللأقدار متسعا لتقع بما أراد الله، وللاعوجاج الطبيعي مكانه دون إصرار على تقويم عنيف يفسد كل شيء إلى الأبد؟
كل تلك السؤالات يمكنك الإجابة عليها بنموذجية كالعادة من خلال مشاهد ومواقف حياة سيدنا إبراهيم في بيته والتي طالعنا طرفا منها في فصل الأبوة والبنوة وتمتد إلى ذلك الملمح البيتي الآخر..
ملمح الزوج.
ذلك الزوج الذي لم تُخرجه مشاغل الرسالة ومسؤوليات الدعوة من رقة قلبه، ولم تمنعه صعوبات الرحلة والبلاءات المتتالية من الكلمة اللينة، ولم تُضعف قوامته لحظةَ خضوعه المطلق واستسلامه لأمر ربه، حتى لو كان ذلك الأمر يوما سيعني فراقًا يفتت الأكباد.
لكن قبل تطرقنا لهذا المشهد فلنعد عشرات السنين لنلقى الشريكة الأولى
سارَّة
رفيقة الرحلة الطويلة وشريكة الاغتراب وحاملة اليقين الإبراهيمي
أريد منك لحظات تتأمّل المشهد بعين قلبك، لا بعين رأسك.
شابٌ يافع يترك كل شيء خلفه: الأهل، الوطن، الذكريات، الأمان المعتاد ثم يخرج مهاجرًا لا إلى شيء معلوم، ولكن إلى ربه جل وعلا.. باحثًا عن فضاءٍ يتسع لكلمة “لا إله إلا الله”.
وفي يده يدُ امرأة.
لم تكن مجرد تابعٍ أُمرت باللحاق، بل كانت شريكة قرار، وصاحبة يقين.
لقد كانت سارة هي النصف الآخر من هذه الهجرات المتعددة التي امتلأت بها حياة إبراهيم
كانت الشاهد الذي لا يغيب، والقلب الذي آمن بالرحلة قبل أن تظهر وجهتها.
الذي عليه جمهور المفسرين والمؤرخين من المسلمين وأهل الكتاب أن زواجه بسارة كان في أرض بابل قبل أول هجراته من “أور” الكلدانيين
لقد كانت السيدة سارة معه منذ بدايات دعوته، وقيل أنها ابنة عمه وفي بعض الروايات أنه تزوجها مبكرا جدا قبل الدعوة أصلاً.. ثم آمنت به وخرجت معه في أول هجرة إلى حران ثم هجراته المتعددة بعد ذلك إلى أرض كنعان (فلسـ.طين) التي مكث فيها طويلا حتى نزلت بأرضها مجاعة واضطر إلى الارتحال إلى أرض أخرى..
Source link