منذ حوالي ساعة
فانهض من حيث أنت، وابدأ من حيث بلغت، فإنما المرء بعزمه لا بعمره، وبقلبه لا بزمنه، وإن العبرة ليست بمن بدأ، ولكن بمن أتمّ، وليست بمن سبق، ولكن بمن ثبت وصدق.
إذا سبقك الناس إلى المجد، فلا تظننّ أنهم بسبقهم ظفروا بكل غنيمة، وأنك بتأخّرك فاتك ركب المعالي، وتجاوزتك فُرص النجاح، فإن هذا ظن من لم يعرف حقيقة الحياة وطبيعة النجاح فيها.
إن السبق يا صاحبي أن تعرف موضع خطواتك، وأن تتّخذ من التأخُّر عزيمة، ومن قِلّة الزاد قوة، ومن ضيق الطريق سعةً في الهمّة وامتدادًا في الأمل.
فكم من سابقٍ إنما يركض على غير هدى، وما يسابق إلا ظِلّه، ويمشي في الأرض مكبًا على وجهه، ولا يدري أين المستقر، وكم من متأخّرٍ قد وَقَفَ ليحسن التأمُّل، فخرج من وقفته تلك إلى غايةٍ لا يبلغها السابقون، وهكذا النفوس الكبيرة لا تعكف على أطلالٍ ذابلة، ولا تندب حظها على أمجاد لم تُدرِكها، بل تنهض بما أوتيت من العزيمة، وتستثمر ما في يدها من إمكانات متاحة، فيحول الله تأخّرها إلى ريادة، ويجعل خُطاها البطيئة سبْقًا في المدى.
ولستُ أجد لذلك شاهدًا أبلغ، ولا دليلاً أوضح، من الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه، جاء متأخّرًا بعد أن مضت الهجرة وطُويت صفحات بدر وأُحد والخندق، وبعد أن سبق إلى الإسلام السابقون الأولون، وثبتت أقدامهم فيه، وأخذوا من الفضل ما شاء الله لهم أن يأخذوا؛ فما اهتزّت له قناة، ولا وهنت له إرادة، وما نظر إلى ما فاته من الفضل، ولم يتحسّر على ما سبق، بل نظر إلى ما بين يديه من الممكن والمتاح، و أقبل بكليّته على جمع الحديث، وجدّ في الطلب، واحتقب عزيمته، واستمسك بالحفظ كأنه يستمسك بطرف النور، فلا يُفلت منه حرف ولا معنى، واستفرغ جهده في استيعاب ما فاته من الوحي، فجعل الحفظَ سلاحَه والنيةَ مركبَه، فصار مَن تأخّر عن القافلة؛ رأسَها وسَنامها!
أجل، تأخّر في الزمان، لكنه تقدّم في الميدان والمكانة، حتى غدا محدّث الإسلام الأول، وراوية السنّة، ووعاء الوحي في الأمة، وتلك وربي منزلة لا يرقى إليها إلا من وهبه الله نفسًا لا تُصاب بالفتور، وعزيمة لا تنكسر أمام سُرعة الآخرين، فانظر كيف جعل الله لمتأخّرٍ في الزمان، سَبقًا في العلم، وخلودًا في الذكر، ورفعةً في الدين، وادّخر له هذا الفضل.
نعم، حينما تأتي متأخرًا وتكون الأول، لأن مجيئك هذا جاء بعد أن نضج وعيك، واشتد عزمك، واستقامت رؤيتك، فتكون خطوتك المتأخرة أثبتَ، ونفَسك الممتدّ أطول، وقلبك المتيقّظ أصفى.
فيا من ظن أن الأيام قد أضاعته في مساربها، وأبطأ به الزمان عن سابقيه؛ وظنّ أن فواتَ البدايات فواتٌ للغايات أقول لك:
لا تيأس ولا تأسَ ولا تبتئس، فإن الشمسَ وإن أبطأت في الشروق؛ فهي إذا طلعت ملأت الوجود نورًا، وإذا أشرقت أحرقت العتمة وأحيت الذبول!
فالعبرةُ ليست بالبدايات وحدها، بل بالنيّة الصادقة، والعمل الدؤوب، والانبعاث من مرقد الغفلة إلى رحاب الجدّ والعطاء، واستثمار الممكن والمتاح.
فانهض من حيث أنت، وابدأ من حيث بلغت، فإنما المرء بعزمه لا بعمره، وبقلبه لا بزمنه، وإن العبرة ليست بمن بدأ، ولكن بمن أتمّ، وليست بمن سبق، ولكن بمن ثبت وصدق.
فالهمّة العالية تصنع للمرء مبدأه، وإن جاء في آخر الركب، وتجعله إذا همّ أن يكون، كان!
فالحق بركب المجتهدين، وإن تأخّرتَ، فربّ متأخّرٍ بلغ القمّة، وربّ مُبكّرٍ تاه في السفح!
____________________________________________________
الكاتب: طلال الحسّان
Source link