الفتور في الطاعة ..!! – طريق الإسلام

ن علاج الفتور لا يكون إلا بتطهير القلب من الذنوب صغيرها وكبيرها، فإن الذنب يحجب عن الطاعة كما تحجب الغيوم نور الشمس

أيها المؤمنون:  حديثنا اليوم عن داء خفي يسرق حرارة الإيمان من القلوب، ويخطف لذة العبادة من الجوارح، داء يبدأ بنشاط وهمة عالية، ثم لا يلبث أن يبرد قلب صاحبه حتى يصير إلى الكسل والفتور، ذلكم هو الفتور في الطاعة، والفتور عباد الله إذا استقر في قلب العبد، أورثه ضعف العزيمة، وربما انقطاع العمل بالكلية، فيطول الطريق، ويقل نصيبه من الخيرات، وقد يُقبض على هذه الحال فيخسر خير الخواتيم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: إن لكل عمل شرة ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك.

وقد حذر السلف الصالح من هذا الداء، فقال الحسن البصري رحمه الله: إن المؤمن جُمِع بين إحسان وخوف، وإن المنافق جُمِع بين إساءة وأمن، فالخوف الدائم من الفتور كان سمةً بارزة عندهم، لأنهم يعلمون أن العمل القليل مع دوام خير من الكثير مع انقطاع.

أيها المسلمون، إن أسباب الفتور كثيرة، منها الغلو والتشدد في الدين بما لا يطيق الجسد، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو، ومنها الانغماس في المباحات والانشغال بملذات الدنيا حتى تثقل الروح وتضعف الهمة، ومنها العزلة عن جماعة المؤمنين فيضعف الإيمان ويخبو أثر الصحبة الصالحة، ومنها الغفلة عن ذكر الموت والآخرة حتى يقسو القلب، ومنها التهاون بالذنوب الصغيرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه». ومن أعظم الأسباب كذلك الصحبة الفاترة التي تميت الهمة وتُبرد القلب، والعشوائية في العمل دون ترتيب أو أولويات، والتساهل في الحلال والحرام.

وإن مظاهر الفتور قسوة القلب، ذلك السياج المانع للقلب من الخشوع لله تعالى، الحابس لدمع العين من خشيته، الحائل دون قشعريرة الجلد وليونته ذلاً لله تعالى، فلا يعرف القلب بعد هذا معروفًا، ولا ينكر منكرًا، قد جفّت ينابيع الحب فيه، وأقفرت رياض الرحمة لديه، واصفرت خضرة المشاعر في فؤاده، {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}.
وتستمر القسوة بالقلب حتى تصل إلى درجة تتضاءل أمامها صلابة الأحجار والصخور، {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.

وشتان بين من كان هذا حال قلوبهم، وبين من تنتفض أجسادهم كالعصافير المبللة بالمطر رهبة من الله تعالى، حتى خلّد الله ذكرهم ووصفهم في كتابه العزيز فقال : {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}، ومن مظاهر الفتور إن تجد تكاسلاً عن الصلاة أو تأخراً عن الجماعة، وتراه ضعفاً في تلاوة القرآن وقلة حضور مجالس الذكر، وتراه انقطاعاً عن بذل الخير ونقصاً في الخشوع والإنابة، وكل ذلك إنذار مبكر بالخسران إن لم يتدارك العبد نفسه. قال الله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ}.

أيها الإخوة، إن علاج الفتور لا يكون إلا بتطهير القلب من الذنوب صغيرها وكبيرها، فإن الذنب يحجب عن الطاعة كما تحجب الغيوم نور الشمس، ويكون كذلك بالمداومة على أعمال اليوم والليلة ولو كانت قليلة، فإن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل، ويكون أيضاً بالتوازن بين العبادة وراحة الجسد، فلا إفراط ولا تفريط، وبالصحبة الصالحة التي تعين على الطاعة وتذكر بالله، وبملازمة  أصحاب الهمم العالية، وبالتذكر الدائم للموت والدار الآخرة، فإن ذكر الموت يقصر الأمل ويبعث على الجد، قال صلى الله عليه وسلم: «أكثروا ذكر هادم اللذات». ويكون كذلك بالحرص على الحلال الطيب في المطعم والمشرب، فإن الجسد إذا نبت من حرام كان أولى بالفتور والخذلان.

فاثبتوا عباد الله على الطاعة، وجددوا نياتكم، واسألوا الله الثبات، فإن العبرة بالخواتيم، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالخواتيم».

أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الثبات على الطاعة من أعظم نعم الله على العبد، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}. فالمؤمن الحق من جاهد نفسه على الطاعة، واستعان بالله على الثبات، وداوم على الأوراد والقربات. وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك».

أيها الأحبة، احذروا من صحبة الفاترين، فإن المرء على دين خليله، واصحبوا أصحاب الهمم العالية، ولا تحقروا من العمل شيئاً، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين، وداوموا على العمل الصغير فإنه عند الله عظيم إذا صدقت النية. واعلموا أن الدنيا ممر والآخرة مقر، وأن أعماركم رأس مالكم، فلا تضيعوها في الغفلة والكسل، ولا تدعوا الفتور يسرق منكم أعماركم حتى تلقوا الله مفلسين، قال بعض السلف: أشد الغبن أن تلقى الله بصحائف خالية وقد أُمددت بالعمر الطويل.

وصلوا وسلموا على خير خلق الله، فقد أمركم ربكم بذلك، فقال جل في علاه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.

_________________________________________________
الكاتب: حسان أحمد العماري


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

الخوف والرجاء(خطبة) – طريق الإسلام

إن الرجاء والخوف جناحان بهما يطير المقربون إلى كل مقام محمود، ومطيتان بهما يقطع من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *