منذ حوالي ساعة
المقصود إذن فقهُ المقامات قبل فقه العبارات، وأن نُحسن مواضع كل خطابٍ وجرعته، وننقّي موردنا من كدر الرياء وعُجب الصنعة
في فقه البلاغ عن الله تتبدّى سنّة بديعة: الوحي واحدٌ في عليائه، والطرائق إليه متعددةٌ في مسالكها، تتفاوت باختلاف العقول والبيئات ومقادير الاهتمام، ومن لم يُحسن هندسة الخطاب أضاع المعنى وهو يظن أنّه يحرسه.
فثمّة مسارٌ أول يمكن تسميته «خطاب العصر»؛ يستعير من قاموس اللحظة مفرداتها، ويستنطق من ثقافة الواقع مفاهيمها، ويُنشئ من مصطلحات الهوية والعدالة والمركزية جسورًا نحو المعنى القرآني الأرسخ، هذا خطابٌ يتوجه إلى من لهم في السجال المعرفي نصيب، وإلى الباحثين عن التأصيل وسط ضجيج الأفكار، وهو نافعٌ في موضعه حين يُحسن ترجمة مقاصد الوحي بلغة اليوم من غير أن يُسلم الدفّة لاصطلاحات اليوم.
وبموازاته يجري المسار الأصيل: «الخطاب التقليدي» الذي يألفه العامة وتأنس له القلوب؛ بيانٌ قريبٌ من الفطرة، تُطرَّز جمله بآيةٍ مفسِّرة وحديثٍ محييٍ ومثالٍ من معايش الناس، لا يُثقِّلها تزويق المصطلح ولا حمولة الجدل، بهذا الخطاب عاشت أجيالٌ وتربّت قلوب، وفيه يبقى الماء العذب الذي يبلّ الظمأ ويستُمّ الفطرة، وليس بين المسارين خصومة، بل توزيع أدوار: ذاك يُحسن تفكيك الإشكال، وهذا يُحسن ترقيق القلب، وكلاهما إذا استمسكا بمركزية الوحي كانا رافدين لنهرٍ واحد.
غير أنّ آلة البيان، على نفاستها، لا تُغني عن شرط القبول: صفاء القلب، وحسن المقصد، وزكاء النية، فكم من عبارةٍ محكمةٍ لم تُحدث أثرًا لالتباس القصد، وكم من كلمةٍ يسيرةٍ فتحت مغاليق القلوب لأن صاحبها أراد وجه الله.
المقصود إذن فقهُ المقامات قبل فقه العبارات، وأن نُحسن مواضع كل خطابٍ وجرعته، وننقّي موردنا من كدر الرياء وعُجب الصنعة، هكذا يبلغ خطاب السماء أسماع الأرض نقيًّا من غبار التعقيد، قريبًا من الفطرة، قويًّا في حجته، رفيقًا في مسّه، فتكون الكلمة نورًا يهدي لا صدىً يلمع.
Source link