هذا الدعاء من الأدعية العظيمة التي كان يحافظ عليها النبي صلى الله عليه وسلم كل صباح ومساء، لذا تناوله أهل العلم بالشرح والتحليل، وقد قمت بتهذيب وترتيب شروحهم في السطور التالية.
روى أبو داود وغيره بإسناد صحيح، عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما -: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يَدَعُ (= يترك) هؤلاء الكلمات حين يُمسي وحين يُصبِحُ: « اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي، وأهلي ومالي، اللهم استُر عَوْرَاتي، وآمِنْ رَوْعَاتي ، اللهم احفظني من بين يَدَيَّ ومن خَلْفي ، وعن يميني، وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أنْ أُغْتَالَ مِنْ تحتي» .
هذا الدعاء من الأدعية العظيمة التي كان يحافظ عليها النبي صلى الله عليه وسلم كل صباح ومساء، لذا تناوله أهل العلم بالشرح والتحليل، وقد قمت بتهذيب وترتيب شروحهم في السطور التالية.
- اشتمل الدعاء على العافية في جميع مطالب الإنسان:
العافية: دفاع الله عن العبد، يقال عافاه الله: وهَب له العافيةَ من العِلَل والبلايا.
وسؤال اللَّه العافية (في الدنيا): هو طلب السلامة والأمان من كل ما يضرّ العبد في دنياه، من المصائب والبلايا، والشدائد، والمكاره.
وسؤال اللَّه العافية (في الآخرة): هو طلب النجاة، والوقاية من أهوال الآخرة، وشدائدها، وكرباتها، وما يكون عند الحساب، ثم يُعافيه الله من النار، ويُنجيه منها، وهذا هو الفوز العظيم.
ونلاحظ أنه جمع بين عافيتي الدنيا والدين، لأن صلاح العبد لا يتم في الدارين إلا بالعفو واليقين (أي سلامة القلب من مرض الجهل والشك)، فاليقين يدفع عنه عقوبة الآخرة، والعافية تدفع عنه أمراض الدنيا في قلبه وبدنه.
- دلالة التفصيل بعد الاجمال:
سؤالٌ العافيةَ في الدنيا والآخرة سؤالٌ مُجملٌ ، فكل ما يدخل في العافية في الدنيا، وكل ما يدخل من العافية في الآخرة، فهو داخلٌ فيه.
ثم بعد ذلك أعاده على سبيل التَّفصيل؛ لأهمية هذه المذكورات، مع أنها داخلةٌ فيما سبق، فقال: اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي، ….
والعفو: أن يتجاوز الله عن العبد، ويمحو ذنوبَه وخطاياه ، مأخوذ من عفت الريحُ الأثرَ إذا مسحته؛ فتُذْهِب آثاره. والعافية تعني: السلامة من الأسقام والبلاء فلا تقع أصلا.
– والدين: كل ما يتقرب به العبد إلى ربه عز وجل، والعافية في الدين تشمل شيئين: الشيء الأول: العافية من الشبهات، بأن يمنّ الله تعالى عليك بالعلم الذي هو نور تهتدي به، ولا يلتبس عليك الحق بالباطل.
أما الثاني: العافية من الشهوات ، فهو أن يسأل ربه أن يعافيه من الإرادات السيئة؛ لأن الإنسان قد يكون عنده علم، لكن ليس عنده إرادة حسنة، يعرف أن هذا باطل ولكن لا يمتنع منه، يعرف أن هذا حق ولكنه لا يتبعه أو لا يفعله، … ، فإذا سألت الله العافية فإنك تسأله في الواقع علماً وتسأله هدىً وتوفيقاً.
– العافية في الدنيا أن الله تعالى يعافيك من الأسقام والأمراض الجسدية حتى تصبح معافى تستطيع أن تقوم بطاعة الله عز وجل ، وان يعافيك من الانهماك فيها، والغرور بها، وما تجرّه من الغفلة ونسيان الآخرة.
– والعافية في الأهل: أن يجعلهم في طاعتك وتحت طوعك وفي توجيهك وأن يبقيهم لك، وألا يكدر صفوك فيهم بمرض أو عاهة، أو ما أشبه ذلك.
– والعافية في المال بأن يحفظه ويقيه الآفات سواء كانت الآفات بفعل الله عز وجل أو بفعل مخلوق، كالسرقة وما أشبه ذلك.
- جواز تعلق القلب بالمال :
من فوائد هذا الحديث أنه لا حرج على الإنسان أن يسأل الله تعالى العافية في المال، ولا يقال: إن الورع ألا يتعلق قلبك بمالك هذا خطأ؛ لأن سيد الورعين محمد صلى الله عليه وسلم ومع ذلك سأل الله أن يعافيه في ماله.
ومن تلبيس ابليس على بعض الجهلة -كما ذكر ابن الجوزي- أنهم تركوا الدنيا في الجملة فرفضوا ما يصلح أبدانهم، وشبَّهوا المال بالعقارب ونسوا أنه خُلِق لمصالح العباد!!
- الحذر من مراعاة المال على حساب الأهل:
من الفوائد المستفاد من هذا الدعاء أن العافية في الأهل مقدمة على العافية في المال، وهنا سؤال : أيهما أولى بالمراعاة، أن تراعي أهلك وتحفظهم من الشرور وتحافظ على مصالحهم، أو أن تراعي مالك؟
الإجابة : أن يراعي الإنسان أهله ؛ ولهذا من السفه في العقل والضلال في الدين أن بعض الناس اليوم يراعي ماله مراعاة كبيرة ويحافظ عليه، أما أهله فينساهم ولا يبالي بهم.
- شدة حياء العبد من ربه :
تضمن الحديث إشارة إلى أن شدة حياء العبد من ربه توجب أن يسأله العفو ، كما فعل الأنبياء والأصفياء وخيار الخلق ، وقد ورد أن سؤال العافية من أفضل الأدعية و أحبها إلى الله ، لذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر منه ، كما في دعاء الاستفتاح ، والدعاء بين السجدتين، وفي دعاء الوتر ، وعند قول أذكار الصباح والمساء، وعند الاستيقاظ، وعند النوم، وعند زيارة المقبرة.
- احذروا سؤال البلاء!!!!
وردت نصوص تدل على فضل الابتلاء ، لكن لا يلزم منها طلب الابتلاء بل المأمور به طلب العفو والعافية في كل وقت، كما في هذا الحديث وغيره ، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم- وهو أشرف بني آدم- يسأل ربه العفو والعافية، فمن دونه من باب أولى.
وأما قول بعضهم:( أود أن أكون جسرا على النار يعبر عليَّ الخلق فينجون، وأكون أنا فيها) ، فمثل هذا الكلام لا يُعَّول عليه ، ومن ذلك قول سَحْنُون : (ليس لي في سواك حظ، فكيفما شئت فاختبرني) ، فابتلي باحتباس البول، فصار يطوف ويقول لأطفال الكُتَّاب (=مكتب تحفيظ القرآن): ادعوا لعَمِّكم الكذاب!!!
- حاجة كل إنسان إلى ستر عورته:
قوله “واستر عوْرَاتي“، أي: كلَّ ما يَسوؤُني نشْرُه؛ من المَعايِبِ، يدخل فيها العيوب والنَّقائص والخلل والتقصير، ويدخل فيها أيضا العورات والذُّنوب وكلّ ما يسوء الانسان كشفه معنويا كان او حسيَّا.
وقد ذكر أبو حامد الغزالي أن رجلا من الصالحين قيل له كيف أصبحت؟ قال أصبحت أشتهي عافية يوم إلى الليل، فقيل له: ألست في عافية في كل الأيام؟ فقال: العافية؛ يوم لا أعصي الله تعالى فيه.
و الرسول لم يسأل ستر عوراته إلا وهو محتاج إلى ذلك، فهو صلى الله عليه وسلم ليس معصوما من الخطأ في غير الوحي، فقد يجتهد ويخطئ، لكن الله تعالى لا يقره على خطئه، وهذا من ستر الله له.
ويمكن أن يقال: استر عوراتي إن كانت، ولا يلزم من ذلك الوقوع كما لم يلزم وقوع الشرك منه في قوله تعالى: ( لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ) (الزمر: 65 ).
- حري بالمرأة أن تحافظ على هذا الدعاء:
وقوله: “اللهم استر عوراتي” أي: عيوبي وخللي وتقصيري وكل ما يسوءني كشفه، ويدخل في ذلك الحفظ من انكشاف العورة، “وحري بالمرأة أن تحافظ على هذا الدعاء، ولا سيما في هذا الزمان الذي كثر فيه في أنحاء العالم تَكشُّف النساء وعدم عنايتهن بالستر والحجاب، فتلك تبدي ساعدها، والأخرى تكشف ساقها، وثالثة تبدي صدرها ونحرها، وأخريات يفعلن ما هو أشد وأقبح من ذلك، بينما المسلمة المصونة العفيفة تتجنب ذلك كله، وهي تسأل الله دائما وأبدا أن يحفظها من الفتن، وأن يمن عليها بستر عورتها” ([1]).
- هذا الدُّعاء له أثرٌ بالغٌ في تحقيق الطُّمأنينة والسَّكينة:
قوله “وآمن روعاتي”، جمع رَوْعَةٍ، وهي المرة من الرَّوْعِ:أي الخوف والفَزَع. وذُكرت بصيغة الجمع لكثرتها، والمعنى: اجعلني آمنا عند الروع، وارفع عني كل خوف يقلقني ويزعجني.
فالإنسان بين مخاوفَ كثيرةٍ، ويحتاج إلى مثل هذا السؤال؛ أن يسأل ربَّه -تبارك وتعالى- الأمن، فيكون في حالٍ من الطُّمأنينة والسَّكينة؛ فتهدأ نفسُه وتطمئنّ، وإلا فما هي حال العبد من غير ألطاف الله ؟ الجواب: مخاوف من كل ناحيةٍ، خاصة في هذا العصر الذي يعصف فيه القلق بعامة الخلق!
- طلب الحفظ الكامل من جميع الجهات :
نلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ربه الحفظ من جميع الجهات؛ لأن العبد بين أعدائه -من شياطين الإنس والجن- كالشاة بين الذئاب إذا لم يكن له حافظ من الله فما له من قوة. وقد أفرد الجهة السادسة بقوله: (وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي) ؛ لأن الاغتيال أن يُدهى الإنسان من حيث لا يشعر ، كأن يخسف به الأرض كما صنع الله تعالى بقارون أو بالغرق كما صنع بفرعون.
- الرسول محتاج إلى حفظ الله:
يدل هذا الحديث على أن الإنسان بحاجةٍ إلى أن يسأل الله، فمهما بذلنا من الجهود والاحتياطات يبقى حفظُ الله في المنتهى هو الأصل، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم مفتقر إلى حفظ الله عز وجل، لقوله: “أحفظني من بين يدي”، وهذا يرد دعوى الذين يدَّعون أن النبي صلى الله عليه وسلم قادر على حفظهم، ولهذا يستغيثون به ويستعينون به ويستعيذون به، ويعتقد الواحد منهم أنه في حفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقال له: إن الرسول صلى الله عليه وسلم هو نفسه محتاج إلى حفظ الله.
- جواز التوسع والتفصيل في الدعاء إن كان لمصلحة :
يستنبط من هذا الحديث أنه يجوز للمسلم- إذا كان يدعو منفردا- أن يتبسط (أي يتوسع) في الدعاء إذا كان فيه مصلحة، لقوله: “أحفظني من بين يدي …. إلخ”؛ إذ كان بإمكانه أن يأتي بهذا مجملاً فيقول: احفظني من كل نازلة، أو من كل جهة، لكن التبسيط في الدعاء أفضل لوجوه:
الوجه الأول: طول مناجاة الله عز وجل.
الوجه الثاني: أن التبسط يؤدي إلى الاستحضار؛ استحضار ذنوبه إذا كانت ذنبا، استحضار الحاجات إذا كانت حاجة.
الوجه الثالث: كثرة الثواب؛ لأن كل جملة تدعو الله بها فإنك مثاب عليها.
الوجه الرابع: التأسي برسول الله صلي الله عليه وسلم، ولكن هذا لا يعني أن نأتي بالألفاظ المكررة التي ليس فيها إلا الإطالة بدون فائدة فإن هذا يُنهى عنه، خاصة إذا كان إماما للمصلين.
وأخيرا: نسأل الله العافية من كل بلاء ، وأن يتولانا في الدنيا والآخرة ، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
([1]) فقه الأدعية والأذكار (3/ 28).
Source link