ذنوب الخلوات – محمد بن سليمان المهوس

قال ﷺ «لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا» قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لاَ نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ، قَالَ: «أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا»

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: رَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ، عَنْ ثَوْبَانَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – عَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ – أَنَّهُ قَالَ: «لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا» قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لاَ نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ، قَالَ: «أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا» (صححه الألباني).

فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَصْفٌ لِفِئَاتٍ مِنَ النَّاسِ عَمِلُوا أَعْمَالاً كَثِيرَةً وَجَلِيلَةً فِي أَعْيُنِ النَّاسِ، لَكِنَّهَا لَمْ تَكُنْ خَالِصَةً لِلَّهِ تَعَالَى؛ كَانَتْ نِفَاقًا وَرِيَاءً! يُظْهِرُونَ أَمَامَ النَّاسِ الصَّلاَحَ وَالتَّقْوَى، فَإِذَا ابْتَعَدُوا عَنْ أَعْيُنِهِمْ ظَهَرُوا عَلَى حَقِيقَتِهِمْ، فَلَمْ يُرَاعُوا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حُرْمَةً؛ كَمَا قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء: 108].

فَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ الآثَارِ السَّيِّئَةِ عَنْ هَذَا الْعَمَلِ هُوَ ضَيَاعُ حَسَنَاتِهِمُ الَّتِي تَعِبُوا عَلَيْهَا، وَكَانَتْ أَمْثَالَ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا.

وَقَدْ يَكُونُ مِنَ الآثَارِ السَّيِّئَةِ لِذُنُوبِ الْخَفَايَا: الْفَضِيحَةُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ؛ أَمَّا فِي الدُّنْيَا: فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: «أَنَّ الإِنْسَانَ قَدْ يُخْفِي مَا لَا يَرْضَاهُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَيُظْهِرُهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ، وَيُنْطِقُ الأَلْسِنَةَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يُشَاهِدْهُ النَّاسُ»، وَذَكَرَ قِصَّةَ حَبِيبٍ الْعَجَمِيِّ الَّذِي كَانَ تَاجِرًا يُقْرِضُ الدَّرَاهِمَ بِالرِّبَا، فَمَرَّ ذَاتَ يَوْمٍ بِصِبْيَانٍ يَلْعَبُونَ، فَقَالَ بَعضُهم لِبَعضٍ: قَد جَاءَ آكِلُ ‌الرِّبا، فَنَكَّسَ رَأْسَهُ وَقَالَ: يَا رَبِّ، أَفْشَيْتَ سِرِّي إلى الصِّبْيَانِ، فَرَجَعَ إلى بَيتِهِ تَائِبًا، وَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ، وَاجْتَهَدَ في العِبَادَةِ، وَبَعْدَ زَمَنٍ مَرَّ بِأُولَئِكَ الصِّبْيَانِ، فَقَالُوا: اسْكُتُوا، قَدْ جَاءَ ‌حَبِيبٌ الزَّاهِدُ الْعَابِدُ، فَبَكَى وَقَالَ: يَا رَبِّ، الكُلُّ مِنْكَ. وَصَدَقَ! فَمَن أَحْسَنَ فِيمَا بَينَهُ وَبينَ اللهِ تَعَالَى، أَحْسَنَ اللهُ فِيمَا بَينَهُ وَبَيْنَ العِبَادِ؛ {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46].

وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ – يَقُولُ: «يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ، فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِالرَّحَى، فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ، فَيَقُولُونَ: يَا فُلَانُ مَا لَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، قَدْ كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلاَ آتِيهِ، وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ».

 

أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ مِنْ أَخْطَرِ آثَارِ ذُنُوبِ الْخَفَايَا السَّيِّئَةِ: فَضِيحَةَ مُرْتَكِبِهَا بَيْنَ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ فَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ، فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِالرَّحَى، فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ، فَيَقُولُونَ: يَا فُلَانُ مَا لَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، قَدْ كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلاَ آتِيهِ، وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ» (متفق عليه).

فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَرَاقِبُوا رَبَّكُمْ فِي سِرِّكُمْ وَعَلاَنِيَتِكُمْ، وَخَلْوَتِكُمْ وَجَلْوَتِكُمْ، وَتَجَنَّبُوا ذُنُوبَ الْخَلَوَاتِ، وَتَذَكَّرُوا قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [التوبة: 78].

وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي ذُنُوبِ الخُلُوَاتِ إِلاَّ الْحَيَاءُ مِنَ اللهِ يَوْمَ الْعَرْضِ؛ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحْيَحْيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا – أَنََّ رَسُولَ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: «إنَّ اللَّهَ يُدْنِي المُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عليه كَنَفَهُ ويَسْتُرُهُ – أَيْ : يَضَعُ عَلَيْهِ سِتْرَهُ عَنْ رُؤيةِ الْخَلْقِ لَهُ، فيَقُولُ: أتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فيَقولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ، حتَّى إذَا قَرَّرَهُ بذُنُوبِهِ، ورَأَى في نَفْسِهِ أنَّه هَلَكَ، قالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وأَنَا أغْفِرُهَا لَكَ اليَومَ، فيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ بِيمينِه».

وَإِذَا خَلَوْتَ بِرِيبَةٍ فِي ظُلْمَــــــةٍ ** وَالنَّفْسُ دَاعِيَةٌ إِلَى الطُّغْيَانِ

فَاَسْتَحْيِ مِنْ نَظَرِ الإِلَهِ وَقُلْ لَهَا ** إِنَّ الَّذِي خَلَقَ الظَّلَامَ يَرَانِــي

محمد بن سليمان المهوس

رئيس هيئة التحقيق والادعاء العام السابق وعضو مجلس الشورى بالمملكة
العربية السعودية .


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

عَطِّرْ لِسَانَكَ بالصَّلَاة عَلَيْه – طريق الإسلام

عَطِّرْ لِسَانَكَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ *** كُلُّ المَكَارِمِ يَنْتَمِينَ إِلَيْهِ عَطِّرْ لِسَانَكَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ       …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *