كلام نفيس لابن القيم – محمد بن علي بن جميل المطري

كلام نفيس لابن القيم
في الجواب عن سبب تسلط الكفار والظالمين على المؤمنين والصالحين

 

قال ابن القيم رحمه الله: الإنسان قد يسمع ويرى ما يصيب كثيرا من أهل الإيمان في الدنيا من المصائب، وما ينال كثيرا من الكفار والفجار والظلمة في الدنيا من الرياسة والمال، فيعتقد أن النعيم في الدنيا لا يكون إلا للكفار والفجار، وأن المؤمنين حظهم من النعيم في الدنيا قليل، وكذلك قد يعتقد أن العزة والنصرة في الدنيا قد تستقر للكفار والمنافقين على المؤمنين، فإذا سمع في القرآن قوله تعالى: {{ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}} [المنافقون: 8]، وقوله: {{وإن جندنا لهم الغالبون}} [الصافات: 173]، وقوله: {{كتب الله لأغلبن أنا ورسلي}} [المجادلة: 21]، حمل ذلك على حصوله في الدار الآخرة فقط، ولكل أحد مع نفسه في هذا المقام مباحثات وإيرادات وإشكالات وأجوبة، بحسب حاصله وبضاعته، من المعرفة بالله تعالى وأسمائه وصفاته وحكمته، والجهل بذلك، والأقوال والظنون الكاذبة الحائدة عن الصواب مبنية على مقدمتين.

إحداهما: حسن ظن العبد بنفسه وبدينه، واعتقاده أنه قائم بما يجب عليه، وتارك ما نهى عنه، واعتقاده في خصمه وعدوه خلاف ذلك، وأنه تارك للمأمور، مرتكب للمحظور، وأنه نفسه أولى بالله ورسوله ودينه منه.

والمقدمة الثانية: اعتقاده أن الله قد لا يؤيد صاحب الدين الحق وينصره، وقد لا يجعل له العاقبة في الدنيا بوجه من الوجوه، بل يعيش عمره مظلوما مقهورا، مع قيامه بما أمر به ظاهرا وباطنا، وانتهائه عما نهى عنه باطنا وظاهرا، فهو عند نفسه قائم بشرائع الإسلام، وحقائق الإيمان، وهو تحت قهر أهل الظلم، والفجور والعدوان!

فسبحان الله، كم صدت هذه الفتنة الكثير من الخلق، بل أكثرهم عن القيام بحقيقة الدين!

وأصلها ناشئ من جهلين كبيرين: جهل بحقيقة الدين، وجهل بحقيقة النعيم الذي هو غاية مطلوب النفوس، وكمالها، فيتولد من بين هذين الجهلين إعراضه عن القيام بحقيقة الدين، وعن طلب حقيقة النعيم.

ومعلوم أن كمال العبد هو بأن يكون عارفا بالنعيم الذى يطلبه، والعمل الذى يوصل إليه، وأن يكون مع ذلك فيه إرادة جازمة لذلك العمل، ومحبة صادقة لذلك النعيم.

والمقصود: أن المقدمتين اللتين تثبت عليهما هذه الفتنة أصلهما: الجهل بأمر الله ودينه، وبوعده ووعيده.

فإن العبد إذا اعتقد أنه قائم بالدين الحق، فقد اعتقد أنه قد قام بفعل المأمور باطنا وظاهرا، وترك المحظور باطنا وظاهرا، وهذا من جهله بالدين الحق، وما لله عليه، وما هو المراد منه، فهو جاهل بحق الله عليه، جاهل بما معه من الدين قدرا ونوعا وصفة.

وإذا اعتقد أن صاحب الحق لا ينصره الله في الدنيا والآخرة، بل قد تكون العاقبة في الدنيا للكفار والمنافقين على المؤمنين، وللفجار الظالمين، على الأبرار المتقين، فهذا من جهله بوعد الله تعالى ووعيده.

إن العبد كثيرا ما يترك واجبات لا يعلم بها، ولا بوجوبها، فيكون مقصِّرا في العلم، وكثيرا ما يتركها بعد العلم بها وبوجوبها، إما كسلا وتهاونا، وإما لنوع تأويل باطل، أو تقليد، أو لظنه أنه مشتغل بما هو أوجب منها، أو لغير ذلك، فواجبات القلوب أشد وجوبا من واجبات الأبدان، وآكد منها!

وما أكثر من يعتقد أنه هو المظلوم المحق من كل وجه، ولا يكون الأمر كذلك، بل يكون معه نوع من الحق، ونوع من الباطل والظلم، ومع خصمه نوع من الحق والعدل، والإنسان مجبول على حب نفسه، فهو لا يرى إلا محاسنها، ومبغض لخصمه، فهو لا يرى إلا مساوئه، بل قد يشتد به حبه لنفسه، حتى يرى مساويها محاسن، كما قال تعالى: {{أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا} } {} [فاطر: 8].

وهذا الجهل مقرون بالهوى والظلم غالبا، فإن الإنسان ظلوم جهول.

والله سبحانه إنما ضمن نصر دينه وحزبه وأوليائه بدينه علما وعملا، لم يضمن نصر الباطل، ولو اعتقد صاحبه أنه محق، وكذلك العزة والعلو إنما هما لأهل الإيمان الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وهو علم وعمل وحال، قال تعالى: {{وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}} [آل عمران: 139]. فللعبد من العلو بحسب ما معه من الإيمان، وقال تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} [المنافقون: 8]. فله من العزة بحسب ما معه من الإيمان وحقائقه.

وكذلك الدفع عن العبد هو بحسب إيمانه، قال تعالى: { {إن الله يدافع عن الذين آمنوا}} [الحج: 38]. فإذا ضعف الدفع عنه فهو من نقص إيمانه.

وكذلك الكفاية والحسب هي بقدر الإيمان، قال تعالى: {{يأيها النبى حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين}} [الأنفال: 64]. أي: الله حسبك وحسب أتباعك، أي: كافيك وكافيهم، فكفايته لهم بحسب اتباعهم لرسوله، وانقيادهم له، وطاعتهم له، فما نقص من الإيمان عاد بنقصان ذلك كله.

وكذلك ولاية الله تعالى لعبده هى بحسب إيمانه قال تعالى: {{والله ولي المؤمنين}} [آل عمران: 68].

وكذلك معيته الخاصة هي لأهل الإيمان، كما قال تعالى: {{وأن الله مع المؤمنين}} [الأنفال: 19] .

فإذا نقص الإيمان وضعف، كان حظ العبد من ولاية الله له ومعيته الخاصة بقدر حظه من الإيمان.

وكذلك النصر والتأييد الكامل، إنما هو لأهل الإيمان الكامل، قال تعالى: {{إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا فى الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} [غافر: 51]، وقال: {فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين}} [الصف: 14].

فمن نقص إيمانه نقص نصيبه من النصر والتأييد، ولهذا إذا أصيب العبد بمصيبة فى نفسه أو ماله، أو بإدالة عدوه عليه، فإنما هي بذنوبه، إما بترك واجب، أو فعل محرم وهو من نقص إيمانه.

وبهذا يزول الإشكال الذى يورده كثير من الناس على قوله تعالى: {{ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا}} [النساء: 141]، والتحقيق: أن انتفاء السبيل عن أهل الإيمان الكامل، فإذا ضعف الإيمان صار لعدوهم عليهم من السبيل بحسب ما نقص من إيمانهم، فهم جعلوا لهم عليهم السبيل بما تركوا من طاعة الله تعالى.

إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (2/ 176 – 182) باختصار كثير.

 


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

اللطفِ الربانيِّ

هذهِ رذاذاتٌ مِّن أمطارِ اللطفِ الربانيِّ والعنايةِ الإلهيةِ الهاطلةِ على قلوبِنا كلَّ يوم..! Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *