العفو في هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأثره

العفو عند المقدرة درجةٌ لا يبلغها الكثير من الناس فيما أتصور؛ لأن بعض الناس عندما يقع عليهم الظلم تتولد بداخلهم قوة ورغبة دفينة في الانتقام

العفو عند المقدرة درجةٌ لا يبلغها الكثير من الناس فيما أتصور؛ لأن بعض الناس عندما يقع عليهم الظلم تتولد بداخلهم قوة ورغبة دفينة في الانتقام، والانتصار للذات ورد الاعتبار، لكن النفوس العظيمة لها شأنٌ آخر، ونظرة أخرى بعيدة الأفق، فهي أبعد من الانتقام والانتصار وقت القوة والمنعة، وكان معلم البشرية محمد رسول الله صلى الله عليه وسلَّم معلمًا، ومعلمًا لهذه الصفة النادرة والفريدة التي تتطلب قدرًا كبيرًا من مجاهدة النفس وتهذيبها على مكارم الأخلاق، لأن مردودها عظيم الفائدة، كبير الأثر، ليس للفرد وحسب، لكن أثرها يمتد أيضًا إلى الآخرين، ويترك فيهم علامات فارقة وتغييرًا شاملًا كاملًا.

 

ولقد عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن آذَوه في مكة وأحد والطائف، الذين سلطوا عليه صبيانهم، ورَموه بالحجارة وهو وحيدٌ، لكنه قابَل ذلك بالصبر والعفو، وسأل الله أن يخرج من أصلابهم مَن يعبد الله ولا يشرك به شيئًا.

 

فقد قالت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هلْ أتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كانَ أشَدَّ مِن يَومِ أُحُدٍ؟ قالَ: «لقَدْ لَقِيتُ مِن قَوْمِكِ ما لَقِيتُ، وكانَ أشَدَّ ما لَقِيتُ منهمْ يَومَ العَقَبَةِ، إذْ عَرَضْتُ نَفْسِي علَى ابْنِ عبدِ يا لِيلَ بنِ عبدِ كُلالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إلى ما أرَدْتُ، فانْطَلَقْتُ وأنا مَهْمُومٌ علَى وجْهِي، فَلَمْ أسْتَفِقْ إلَّا وأنا بقَرْنِ الثَّعالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فإذا أنا بسَحابَةٍ قدْ أظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فإذا فيها جِبْرِيلُ، فَنادانِي فقالَ: إنَّ اللَّهَ قدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وما رَدُّوا عَلَيْكَ، وقدْ بَعَثَ إلَيْكَ مَلَكَ الجِبالِ لِتَأْمُرَهُ بما شِئْتَ فيهم، فَنادانِي مَلَكُ الجِبالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قالَ: يا مُحَمَّدُ، فقالَ ذلكَ فِيما شِئْتَ، إنْ شِئْتَ أنْ أُطْبِقَ عليهمُ الأخْشَبَيْنِ»، فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «بَلْ أرْجُو أنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أصْلابِهِمْ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ وحْدَهُ لا يُشْرِكُ به شيئًا» . (رواه البخاري) .

 

هكذا كان المنظور الذي يراه نبي الرحمة، يتعدى اللحظة المليئة بالألم والأذى إلى المستقبل المليء بالرجاء والخير، وهو من ثَم لم يكن موقفًا عاديًّا في السيرة، بل كان طريقًا ومنهجًا متكررًا، حتى دخل صلى الله عليه وسلم مكة فاتحًا.

 

وقد عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهل مكة يوم الفتح بذات المنهج والطريقة، لم يكن وحيدًا مثل يوم الطائف، بل كان منتصرًا فاتحًا، وكانت المدينة بأجمعها تنتظر ساعة القصاص، لكن كان الهدي النبوي يقول: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، كلمة وحيدة لكنها جامعة لمعاني العفو عند المقدرة، بل تمثل فتحًا آخر يضاف للفتح المبين.

 

وبالفعل فقد تحقَّق ما كان يطلبه صلى الله عليه وسلم ويرجوه، فقد دخل الناس في دين الله أفواجًا، وحسُن إسلامهم، وكان منهم قادة عظماء؛ مثل عكرمة بن أبي جهل، فقد كان عفو رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه يوم فتح مكة – علامةً فارقة ونصرًا كبيرًا.

 

لما كان يوم الفتح أسلمت أُم حكيم بنت الحارث بن هشام امرأة عكرمة بن أبي جهل، ثَم قالت أم حكيم: يا رسول الله، قد هرب عِكْرمة منك إلى اليمن، وخاف أن تقتله فآمنْه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هو آمن»، فخرجَتْ في طلبه ومعها غلام لها رومي، فراودها عن نفسها، فجعلت تُمنِّيه حتى قدمت على حيٍّ من عَكٍّ، فاستغاثتهم عليه فأوثَقوه رباطًا، وأدركت عِكرمة وقد انتهى إلى ساحل من سواحل تهامة، فركب البحر، فجعل نوتي السفينة يقول له: أخلِص، قال: أي شيء أقول؟ قال: قل لا إله إلا الله، قال عكرمة: ما هربت إلا من هذا، فجاءت أم حكيم على هذا من الأمر، فجعلت تليح إليه وتقول: يا بن عم، جئتك من عند أوصل الناس، وأبرِّ الناس، وخير الناس، لا تُهلك نفسك، فوقف له حتى أدركته، فقالت: إني قد استأمنت لك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أنت فعلت؟ قالت: نعم، أنا كلمته فآمَّنك، فرجع معها، وقالت ما لقيتُ من غلامك الرومي؟ وخبَّرته خبره، فقتَله عكرمة وهو يومئذٍ لم يُسلم.

 

فلما دنا من مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «يأتيكم عِكْرمة بن أبي جهل مؤمنًا مهاجرًا، فلا تسبُّوا أباه، فإن سبَّ الميت يؤذي الحي ولا يبلغ الميت»، قال: وجعل عكرمة يطلب امرأته يُجامعها، فتأبى عليه وتقول: إنك كافر وأنا مسلمة، فيقول: إِن أمرًا منعك مني لأمرٌ كبير، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم عِكرمة، وثب إليه وما على النبي صلى الله عليه وسلم رداءً فرحًا بعِكْرمة، ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقَف بين يديه ومعه زوجتُه متَنَقِّبَة، فقال: يا محمد، إن هذه أخبرتني أنك آمنتني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صَدَقَتْ، فأنت آمنٌ»، قال عكرمة: فإلامَ تدعو يا محمد؟ قال: «أدعوك إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتفعل وتفعل»، حتى عدَّ خصال الإسلام، فقال عكرمة: والله، ما دعوت إلا إلى الحق وأمرٍ حسن جميل، قد كنت – والله – فينا قبل أن تدعو إلى ما دعوت إليه وأنت أصدقنا حديثًا، وأبرُّنا برًّا، ثم قال عكرمة: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فسُرَّ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا رسول الله، علِّمني خيرَ شيء أقوله، فقال: تقول: «أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله»، فقال عكرمة: ثم ماذا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول: «أشهد الله، وأشهد من حضر أني مسلم مجاهد مهاجر» »، فقال عكرمة ذلك، فقال رسول الله: «لا تسألني اليوم شيئًا أعطيه أحدًا إلا أعطيتُكَه»، قال عكرمة: فإني أسألك أن تستغفر لي كل عداوة عاديتُكَها، أو مسيرٍ أوْضَعْتُ فيه، أو مقامٍ لقيتك فيه، أو كلام قلتُه في وجهك، أو وأنت غائب عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اغفر له كل عداوة عادانيها، وكل مسير سار فيه إلى موضع يريد بذلك المسير إطفاء نورك، واغفر له ما نال مني من عرض في وجهي أو وأنا غائبٌ عنه»، فقال عكرمة: رضيتُ يا رسول الله، ثم قال عكرمة: أما – والله – يا رسول الله لا أدُع نفقة كنت أنفقتها في صدٍّ عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفَها في سبيل الله، ولا قتالًا كنت أُقاتل في صدٍّ عن سبيل الله إلا أَبليت ضعفه في سبيل الله، ثم اجتهد في القتال حتى قُتل شهيدًا[1].

 


[1] محمد يوسف الكاندهلوي، حياة الصحابة.

__________________________
الكاتب: التجاني صلاح عبدالله المبارك


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

التراكم العشوائي لا يَبنيك! – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة العشوائية في السماع قد تكون بالفعل ممتعة لحظيًّا، وأما المنهجية فقد يعتريك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *