{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) }
{بسم الله الرحمن الرحيم}
{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) }
قال ابن عاشور: هَذَا غَرَضٌ أُنُفٌ بِالنِّسْبَةِ لِمَا تَتَابَعَ مِنْ أَغْرَاضِ السُّورَةِ، انْتُقِلَ بِهِ مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ وَالْمَقْصِدِ وَالْمُتَخَلِّلَاتِ بِالْمُنَاسَبَاتِ، إِلَى غَرَضٍ جَدِيدٍ هُوَ الِاعْتِبَارُ بِخَلْقِ الْعَوَالِمِ وَأَعْرَاضِهَا وَالتَّنْوِيهُ بِالَّذِينَ يَعْتَبِرُونَ بِمَا فِيهَا مِنْ آيَاتٍ.
وَمِثْلُ هَذَا الِانْتِقَالِ يَكُونُ إِيذَانًا بِانْتِهَاءِ الْكَلَامِ عَلَى أَغْرَاضِ السُّورَةِ، عَلَى تَفَنُّنِهَا، فَقَدْ كَانَ التَّنَقُّلُ فِيهَا مِنَ الْغَرَضِ إِلَى مُشَاكِلِهِ وَقَدْ وَقَعَ الِانْتِقَالُ الْآنَ إِلَى غَرَضٍ عَامٍّ: وَهُوَ الِاعْتِبَارُ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَحَالُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الِاتِّعَاظِ بِذَلِكَ، وَهَذَا النَّحْوُ فِي الِانْتِقَالِ يَعْرِضُ لِلْخَطِيبِ وَنَحْوِهِ مِنْ أَغْرَاضِهِ عَقِبَ إِيفَائِهَا حَقَّهَا إِلَى غَرَضٍ آخَرَ إِيذَانًا بِأَنَّهُ أَشْرَفَ عَلَى الِانْتِهَاءِ، وَشَأْنُ الْقُرْآنِ أَنْ يَخْتِمَ بِالْمَوْعِظَةِ لِأَنَّهَا أَهَمُّ أَغْرَاضِ الرِّسَالَةِ، كَمَا وَقَعَ فِي خِتَامِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
{وَلِلَّهِ} خبر مقدم للحصر والاختصاص والانفراد، وفي ذلك إشارة إلى أنه وحده المتصرف، وهو الذي يعطي ويمنع ويحاسب ويعاقب.
{مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ملك الأعيان وملك التصرف، فهو مالك لأعيانها، وهو مالك للتصرف فيها، قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ [على سبيل الاستقلال] وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ [على سبيل المشاركة] وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ [وما لله منهم من معين] * وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:22-23]
وهذه الآيات يقولون عنها: إنها قطعت علائق المشركين الذين يعبدون الأصنام والأوثان.
وقوله: {السَّمَاوَاتِ} يعني السبع {وَالْأَرْضِ} للجنس فتشمل الأرضين السبع.
** وفيه الإشارة إلى أنه لا يجوز للإنسان أن يتصرف في ملكه إلا على حسب إذن الشارع؛ لأن كون الملك لله يدل على أن تصرفنا فيه إنما يكون بطريق الوكالة، يتقيد بما أذن له فيه.
{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} هو مالك كُل شيء، والقادر على كل شيء فلا يعجزه شيء، فهابوه ولا تخالفوه، واحذروا نقمته وغضبه، فإنه العظيم الذي لا أعظم منه، القدير الذي لا أقدر منه.
والقدرة هي التمكن من الفعل بلا عجز، وأما التمكن من الفعل بلا ضعف يسمى قوة، قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ ليُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر:٤٤]، فقابل القدرة بالعجز، وقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قوة} [الروم:٥٤] فقابل الضعف بالقوة.
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)
{إِنَّ} للتأكيد {فِي خَلْقِ} إيجاد الشيء على غير مثال سبق يسمى خلقاً.
{السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} في إيجادها على ما هما عليه من الأمور المدهشة، تلك في ارتفاعها واتساعها، وهذه في انخفاضها وكثافتها واتضاعها، وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات، وثوابت وبحار، وجبال وقفار وأشجار، ونبات وزروع، وثمار وحيوان، ومعادن ومنافع، مختلفة الألوان والطعوم والروائح والخواص.
وفي خلق السموات والأرض آيات من عدة أوجه :
الوجه الأول: من جهة الكبر والسعة.
الوجه الثاني: ما فيهما من الحسن والبهاء والجمال، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك:5]. والذي يطلع على ما صوره العلماء من هذه الآيات العظيمة يتبين له عظمة الله -عز وجل- في هذا الخلق.
الوجه الثالث: في خلق السموات من جهة إتقانها وعدم تخلخلها، قال الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:٣-٤]
الوجه الرابع: ما أودع الله فيهما من المواد المتعددة المختلفة الأنواع والأشكال والمنافع كما قال الله تعالى: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: ٤]
أيضاً ما فيهما من المنافع العظيمة للخلق. فالشمس فيها خير عظيم، والقمر كذلك، والأشجار وغيرها.. كلها فيها خيرات عظيمة من آيات الله عز وجل.
{وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} في تعاقبهما، وكون كل منهما خلفة للآخر، بحسب طلوع الشمس وغروبها، أو في تفاوتهما بازدياد كل منهما انتقاص الآخر، وانتقاصه بازدياده.
فاختلافهما من وجوه شتى :
أولاً: من جهة أن الليل ظلمة والنهار نور، وهذا من آيات الله. قال الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص:۷۱-۷۳]
ثانياً: كذلك أيضاً اختلافهما من جهة الطول والقصر. أحياناً يطول الليل، وأحياناً يطول النهار، وأحياناً يتساويان. ولا أحد يستطيع أن يقوم بهذا، فهو من آيات الله. ولو أن أهل الأرض كلهم اجتمعوا على أن يدخلوا من الليل جزءاً في النهار ما استطاعوا ولا العكس .
ثالثاً: اختلاف الليل والنهار، يدخل فيه اختلافهما حرا وبرداً، أحياناً يكون هذا حاراً وهذا بارداً، وأحياناً يتساويان .
رابعاً: اختلافهما في الرخاء والشدة. أحياناً تمر بك الأيام رخاء، وأحياناً تمر بك الأيام شدة .
خامساً: اختلافهما في العز والذل والنصر والخذلان، ينصر أحياناً أقواماً ويخذل هؤلاء الأقوام في آن آخر، وهكذا فإن الليل والنهار فيهما آيات تختلف باختلافهما في ذاتهما وفيما يقع فيهما، قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:١٤٠]
{لَآيَاتٍ} اللام للتأكيد أيضا: أي: لأدلة واضحة على الصانع وعظيم قدرته، وباهر حكمته. والتنكير للتفخيم كمّاً وكيفاً، أي: كثيرة عظيمة.
{لِأُولِي الْأَلْبَابِ} ذوي العقول التامة التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها، وليسوا كالصم البُكْم الذين لا يعقلون الذين قال الله تعالى فيهم: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:105-106].
ولب الشيء: خلاصته، وسمي العقل لبا: لأنه خالص الإنسان، كما أن «اللب» خالص الحبة، فالإنسان بعقله، والعقل ليس هو الذكاء كما قد يتبادر بأذهان كثير من الناس، ولكن العقل هو: الرشد في التصرف. فكلما كان الإنسان أشد رشداً وتصرفاً كان أعقل. وليس كلما كان أذكى فهو أعقل؛ لأنه قد يكون من الأذكياء من هو أبعد الناس عن العقل، ولهذا يمكن أن نقول لصناديد الكفرة الممتلئين ذكاء نقول: إنهم غير عقلاء وإن كانوا أذكياء.
وأولي الألباب أيضا ذوي العقول المجلوّة بالتزكية والتصفية بملازمة الذكر دائماً كما قال:
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)
{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} ذكرا باللسان وسائر الجوارح، يذكرون الله بجوارحهم بالقيام والقعود والركوع والسجود في الصلاة، وبالطواف بالبيت وبالوقوف بمزدلفة، وبالوقوف بعرفةK وبالوقوف بمنى لرمي الجمار.. كل عبادة تتعبد لله تعالى بها هي عبادة فعلية وهي من ذكر الله؛ لأنك تريد بها وجه الله. وبذلك تكون ذاكراً له.
فلا يخلو حال من أحوالهم عن ذكر الله المفيد صفاء الظاهر المؤثر في تصفية الباطن. وفي البخاري: وَقَالَتْ عَائِشَةُ: “كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ”.
فالمراد: تعميم الذكر للأوقات، وعدم الغفلة عنه تعالى. وتخصيص الأحوال المذكورة بالذكر، ليس لتخصيص الذكر بها، بل لأنها الأحوال المعهودة التي لا يخلو عنها الْإِنْسَاْن غالباً، كقولهم: اشتهر كذا عند أهل المشرق والمغرب.
{وَيَتَفَكَّرُونَ} التفكر: إعمال الفكر {فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} في إنشائهما بهذه الأجرام العظام، وما فيهما من عجائب المصنوعات، وغرائب المبتدعات، ليدلهم ذلك على كمال قدرة الصانع سبحانه وتعالى، فيعلموا أن لهما خالقاً قادراً مدبراً حكيماً، لأن عظم آثاره وأفعاله تدل على عظم خالقها سبحانه وتعالى.
عن أبي سليمان الداراني أنه قال: “إني لأخرج من منزلي، فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله عليّ فيه نعمة، ولي فيه عبرة”.
وقال سفيان بن عيينة: “الفكرة نور يدخل قلبك”.
وقال لقمان الحكيم: “إن طول الوحدة ألْهَمُ للفكرة، وطولَ الفكْرة دليل على طَرْق باب الجنة“.
وقال وهب بن مُنَبِّه: “ما طالت فكرة امرِئ قط إلا فهم، وما فهم امرؤ قط إلا علم، وما علم امرؤ قط إلا عمل”.
وقال عمر بن عبد العزيز: “الكلام بذكر الله -عز وجل- حَسَن، والفكرة في نعم الله أفضل العبادة”.
وقال بِشْر بن الحارث الحافي: “لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى لما عصوه”.
وقال الحسن، عن عامر بن عبد قيس قال: سمعت غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقولون: “إن ضياء الإيمان، أو نور الإيمان: التفكر”.
وروى ابن القاسم عن مالك -رحمه الله- قال: قيل لأم الدرداء: ما كان شأن أبي الدرداء? قالت: كان أكثر شأنه التفكير، قيل له: أترى التفكير عملا من الأعمال? قال: نعم، هو اليقين.
وإنما خصص التفكر بالخلق للنهي عن التفكر في الخالق لعدم الوصول إلى كنه ذاته وصفاته.
** وفيه أنه إذا أثنى سبحانه على المتفكرين في الخلق، فالمتفكرون في الشرع من باب أولى؛ لأن الشرع ليس أمراً محسوساً، فالتفكر فيه أبلغ في الإيمان من التفكر في الخلق، فالخلق أمر محسوس كل إنسان يدركه، لكن حكم وأسرار الشرائع ليس لكل أحد أن يدركها.
{رَبَّنَا} على إرادة القول بمعنى يتفكرون قائلين: “يا ربنا”.. فبعد أن يتفكروا في خلق السموات والأرض تحصل لهم هذه النتيجة المباركة فيقولونها.
وتعبيرهم في دعائهم بوصف {ربنا} دون اسم الجلالة، لما في وصف الربوبية من الدلالة على الشفقة بالمربوب، ومحبة الخير له، ومن الاعتراف بأنهم عبيده، ولتتأتى الإضافة المفيدة التشريف والقرب، ولرد حسن دعائهم بمثله بقولهم «رَبَّنَا، رَبَّنَا».
{مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} عبثا، بل بالحق لتجزي الذين أساؤوا بما عملوا، وتجزي الذين أحسنوا بالحسنى.. فالمقصود نفي عقائد من يفضي اعتقادهم إلى أن هذا الخلق باطل أو خلي عن الحكمة، والعرب تبني صيغة النفي على اعتبار سبق الإثبات كثيرا.
وقد بين الله في آيات أخرى أن من ظن أن الله خلق شيئاً باطلاً فقد أخذ بظن الكفار، فقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:27]
وقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الدخان:٣٨-٣٩] بالحق: أي للدلالة على توحيده وقدرته.
وكلمة: {هَذا} متضمنة لضرب من التعظيم، أي: ما خلقت هذا المخلوق البديع العظيم الشأن عبثاً، عارياً عن الحكمة، خالياً عن المصلحة، بل منتظماً لحكم جليلة، ومصالح عظيمة، من جملتها أن يكون دلالة على معرفتك، ووجوب طاعتك، واجتناب معصيتك، وأن يكون مداراً لمعايش العباد، ومناراً يرشدهم إلى معرفة أحوال المبدأ والمعاد.
{سُبْحَانَكَ} تقدست ذاتك وتنزهت، تنزيهاً لك من العبث، وأن تخلق شيئاً بغير حكمة.
وأصل التسبيح: التنزيه والإبعاد عن السوء؛ ومنه قولهم: «تسبح فلان»، يعني نزل في الماء يسبح وبَعُد.
أي: نسبحك تسبيحا، وننزهك تنزيها يليق بك، وأنك لم تخلق هذه السموات والأرض باطلاً.
وفيه تنزيه الله عزّ وجل عن كل عيب ونقص، والذي ينزه الله عنه شيئان: «النقص»، و «مماثلة المخلوقات»، حتى فيما هو كمال في المخلوقين فإن الله منزه عن مماثلتهم.
{فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} وقد كان ترتيب الخوف على التفكر له موضعه لأن نهاية التفكر هو الخوف، إذ ينتهي إلى أعلى درجات الشعور بالمهابة لله تعالى، وهو يجعل المؤمن يستصغر حسناته، ويستكثر سيئاته.
قنا عذاب النار بما تشاء؛ إما بعدم إدخالنا فيها يعني أن لا ندخلها أصلاً، أو بإخراجنا منها بالشفاعة؛ لأن المؤمن الفاسق يستحق دخول النار على فسقه ثم بعد ذلك يخرج منها، وقد يعفو الله عنه.
أي: يا من خَلَق الخلق بالحق والعدل، يا من هو مُنزه عن النقائص والعيب والعبث، قنا من عذاب النار بحولك وقوتك، وَقيضْنَا لأعمال ترضى بها عنا، ووفقنا لعمل صالح تهدينا به إلى جنات النعيم، وتجيرنا به من عذابك الأليم.
قال السيوطي: “فيه استحباب هذا الذكر عند النظر إلى السماء. ذكره النووي في «الأذكار»”.
قال ابن عاشور: فإن قلت: كيف تواطأ الجميع من أولي الألباب على قول هذا التنزيه والدعاء عند التفكير مع اختلاف تفكيرهم وتأثرهم ومقاصدهم. قلت: يحتمل أنهم تلقوه من رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فكانوا يلازمونه عند التفكر وعقبه، ويحتمل أن الله ألهمهم إياه فصار هَجِّيرَاهُمْ مثل قوله تعالى: {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} الآيات [البقرة: 285]
** فيه: تعليم العباد كيفية الدعاء، بتقديم الثناء على الله تعالى أولاً {سُبْحَانَكَ}، والتوسل في الدعاء بصفات الله، يعني: أننا نتوسل إلى الله -عز وجل- بتنزهه عن النقص أن يقينا عذاب النار؛ لأننا مؤمنون بكماله وجلاله.
** وفيه: أن صفوة الخلق محتاجون إلى الدعاء بالوقاية من النار.
** وفيه أيضا: الثناء على أصحاب العقول؛ لأن الله جعل هذا الاختلاف لذوي العقول. أما من لا عقل له فإنه لا ينتفع بهذه الآيات، ولا يعتبر بها وتمر عليه وكأنها مظاهر طبيعية لا علاقة لفعل الله تعالى بها، وهذا -والعياذ بالله- من الطمس على القلوب وعمي الأبصار؛ لأن هذا الكون على هذا النظام البديع لا يمكن أبداً أن يقع إلا من رب حكيم، ولا يمكن أن يقع من فاعل على وجه السفه أبداً.
** وفيه: أن الرب -عز وجل- أظهر آياته لخلقه مع أن مجرد الإيمان بأن الله تعالى حي موجود يكفي؛ لكن كلما تعددت الأدلة والآيات ازداد الإنسان يقيناً، ودليل هذا أن إبراهيم قال لله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:٢٦٠] فالإنسان قد يكون مؤمناً ولا إشكال عنده في الأمر لكن يحتاج إلى من يطمئنه.
رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)
{رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} أهنته وأظهرت فضيحته لأهل الموقف، وأخزاه: أذله وأهانه بمرأى من الناس أو على رؤوس الأشهاد.
وهذه الآية في مقام التعليل لضراعتهم بالوقاية من النار، وهو تعظيم لأمر العقاب يوم القيامة، ومنه قول إبراهيم عليه السلام: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء:87]
وسر هذا الإتباع عظم موقع السؤال، لأن من سأل ربه حاجة، إذا شرح عظمها وقوتها، كانت داعيته في ذلك الدعاء أكمل، وإخلاصه في طلبه أشد، والدعاء لا يتصل بالإجابة إلا إذا كان مقروناً بالإخلاص.
{وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ} من: دالة على استغراق النفي، أي لَا ناصر لهم أيا كان، وفى ذلك إشارة إلى انفراد الله تعالى بالسلطان.
{أَنْصَارٍ} أعقبوه بما في الطباع من التفادي عن الخزي والمذلة بالهرع إلى أحلافهم وأنصارهم، فعلموا أن لا نصير في الآخرة للظالم فزادوا بذلك تأكيدا للحرص على الاستعاذة من عذاب النار إذ قالوا: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} أي: يوم القيامة لا مُجِير لهم من الخزي، ولا مُحِيد لهم عما أردت بهم.
وهو تذييل لإظهار نهاية فظاعة حالهم، ببيان خلود عذابهم، بفقدان من ينصرهم، ويقوم بتخليصهم، وغرضهم تأكيد الاستدعاء.. فليس في الآية دلالة على نفي الشفاعة، على أن المراد بالظالمين هم الكفار.
والجملة إظهار في موضع الإضمار، فإن مقتضى السياق أن يقول : (وما لهم من أنصار)، ولكنه أظهر في موضع الإضمار لثلاث فوائد :
الفائدة الأولى: أن هؤلاء الذين يدخلون النار مستحقون لهذا الوصف، أي: وصفهم بالظلم.
الفائدة الثانية: العموم؛ أن كل ظالم حتى وإن لم يدخل النار إذا أراد الله أن يعاقبه فإنه لن يجد من ينصره.
الفائدة الثالثة: إثبات العلة في الحكم، فلو قال: (وما لهم من أنصار) لم يتبين لنا أن السبب لأنهم ظلموا أنفسهم، فإذا وصفهم بهذا فكأنه بين الحكم بعلته.
رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)
{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا} النداء: رفع الصوت بالكلام رفعا قويا لأجل الإسماع، وهو مشتق من النِداء وهو الصوت المرتفع.. فأصل النداء الجهر بالصوت والصياح به. وأطلق هنا على المبالغة في الإسماع والدعوة وإن لم يكن في ذلك رفع صوت.
والمراد بالمنادى: الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، والتنوين للتفخيم، وهذا كقوله تعالى: {وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ} [الأحزاب:46].
وفي وصفه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالمنادي دلالة على كمال اعتنائه بشأن الدعوى وتبليغاً إلى الداني والقاصي، لما فيه من الإيذان برفع الصوت.
{يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} ذكر النداء مطلقاً، ثم مقيداً بالإيمان تفخيماً لشأن المنادي، لأنه لا منادي أعظم من منادٍ ينادي للإيمان.
والسياق أن يقال: (إلى الإيمان)، ولكنه أتى باللام؛ لأن اللام ألصق من «إلى». واللام لام العلة، أي لأجل الإيمان بالله.
{أَنْ} «أن» هذه تفسيرية؛ لأنها جاءت بعد جملة تتضمن معنى القول دون حروفه، وكل «أن» تقع بعد جملة تتضمن معنى القول دون حروفه فإنها تسمى تفسيرية، فهي بمعنى «أي» ومنه قوله تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ} [المؤمنون:٢٧] يعني: «أي اصنع الفلك».
{آمِنُوا بِرَبِّكُمْ} بيان للإيمان الذي دعا إليه الرسول عليه الصلاة والسلام.. والإيمان بالله يكون متضمناً للإيمان ببقية أركان الإيمان كما هو معلوم.
{فَآمَنَّا} فامتثلنا أمره، وأجبنا نداءه، وآمنا بكل شيء يجب الإيمان به، فكل ما أخبر الله به صدقنا به وأقررنا به، فهو داخل في الإيمان بالله عز وجل.
وجاءوا بفاء التعقيب في {فآمنا}: للدلالة على المبادرة والسبق إلى الإيمان، وذلك دليل سلامة فطرتهم من الخطأ والمكابرة، وقد توسموا أن تكون مبادرتهم لإجابة دعوة الإسلام مشكورة عند الله تعالى، فلذلك فرعوا عليه قولهم: {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} لما بذلوا كل ما في وسعهم من اتباع الدين كانوا حَقِيقِينَ بترجي المغفرة.
وحقيقة الإيمان بالله -عز وجل-: الإقرار المتضمن للقبول والإذعان وليس مجرد الإقرار، ولو كان الإيمان مجرد الإقرار لكان أبو طالب مؤمناً لأنه مقر، ولكنه لا يكون إيماناً حتى يتضمن القبول والإذعان، يعني الانقياد فأما إذا لم يقبل أو قبل ولم يذعن فإنه ليس بمؤمن.
{رَبَّنَا} تكرير للتضرع، وإظهار لكمال الخضوع.
وقيل: التكرار في قوله: {ربنا}، لأنهم يتلذذون بهذا التعبير أن يكون الله ربهم، وإذا كان الله ربهم فهم عبيده، وتلذذ الإنسان بعبوديته الله -عز وجل- دليل على كمال إيمانه؛ لأنه كلما كان الإنسان أذل لله كان أكمل إيماناً، ولهذا يكررون {ربنا} تلذذاً بهذا الاسم الكريم.
** وفيه التوسل إلى الله تعالى بالربوبية حال الدعاء، فالوسيلة هي أصلاً تشبه الوصيلة، وأكثر ما يكون التوسل به من أسماء الله بالدعاء هو الربوبية؛ لأن الربوبية بها الخلق والملك والتدبير، فلهذا نجد أن أكثر ما يدعى به الربوبية؛ اسم الربوبية، أو وصف الربوبية.
{فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} أي: بسبب إيماننا واتباعنا نبيك استر لنا ذنوبنا ولا تفضحنا بها.
وفيه: أن كل أحد محتاج لمغفرة الذنوب؛ فلا تغرنك كثرة الطاعات، فالإنسان كلما كثرت طاعاته ينبغي أن يكون أخوف على نفسه من أن ترد هذه الطاعات ويذهب عمله سدى.
{وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} السيئات طلبوا تكفيرها؛ لأن السيئات هي «الصغائر» وهي تكفر بالأعمال الصالحة وبالطاعات، ولا يمكن أن تكفر بالطاعات إلا بعد أن تكون الطاعات على الوجه الأكمل؛ لأن الطاعات إذا نقصت لم تقو على تكفير السيئات.
إذ إن الإنسان قد يفعل الطاعة ولا يحصل له منها إلا إبراء الذمة، لكن لا تقوى على التكفير حتى تكون «تامة» بقدر المستطاع، ولهذا قالوا: {وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} بما نفعله من الأعمال الصالحة.
ثم اعلم أن تكفير السيئات قد يكون معيناً من قبل الشرع، أي ما يكفر به قد يكون معيناً من قبل الشرع، مثل: كفارة الظهار، وكفارة القتل، وكفارة الجماع في نهار رمضان. فهذا مقيد بالشرع، وقد يكون عاماً كتكفير السيئات عموماً بالصلاة وبالوضوء، وبالجمعة إلى الجمعة، وبرمضان إلى رمضان وبالعمرة إلى العمرة. فالتكفير إما مقيد، وإما مطلق عام.
قال في زهرة التفاسير: تكفير السيئات، أي الأمور التي تسيء في ذاتها، والفرق بين الذنب والسيئة، أن السيئة عصيان فيه إساءة، والذنب فيه تقصير وتبطؤ عن الخير والغفران، والتكفير كلاهما ستر، ولكن الأول يتضمن معنى عدم العقاب، والثاني يتضمن ذهاب أثر الإساءة.
قال ابن عاشور: والغفر والتكفير متقاربان في المادة المشتقين منها إلا أنه شاع الغفر والغفران في العفو عن الذنب، والتكفير في تعويض الذنب بعوض، فكأن العوض كفر الذنب أي ستره، ومنه سميت كفارة الإفطار في رمضان. وكفارة الحنث في اليمين إلا أنهم أرادوا بالذنوب ما كان قاصرا على ذواتهم، ولذلك طلبوا مغفرته، وأرادوا من السيئات ما كان فيه حق الناس، فلذلك سألوا تكفيرها عنهم. وقيل هو مجرد تأكيد، وهو حسن، وقيل أرادوا من الذنوب الكبائر ومن السيئات الصغائر لأن اجتناب الكبائر يكفر الصغائر، بناء على الذنب أدل على الإثم من السيئة.
{وَتَوَفَّنَا} اقبضنا إليك، وليس فيه أنهم يتمنون تقديم الوفاة، بل أن يتوفاهم على الإسلام متى جاء أجلهم.
{مَعَ الْأَبْرَارِ} المراد بالمعية المعية الحكمية لا الزمنية.. أي: ألحقنا بالصالحين، واجعلنا معدودين في جملتهم حتى نكون في درجتهم يوم القيامة.
قالوا: وسألوا الوفاة مع الأبرار، أي أن يموتوا على حالة البر، بأن يلازمهم البر إلى الممات، وأن لا يرتدوا على أدبارهم، فإذا ماتوا كذلك ماتوا من جملة الأبرار. فالمعية هنا معية اعتبارية، وهي المشاركة في الحالة الكاملة.
والأبرار جمع بارّ أو بَر وهو كثير البِر أي: الطاعة.. وفيه جواز سؤال الموت على طريق أهل الخير.
رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)
{رَبَّنَا} تكررت خمس مرات.. قال الحسن البصري: “ما زالوا يقولون ربنا حتى استجاب لهم”، وقال جعفر الصادق: “من حزبه أمر، فقال خمس مرات {ربنا} أنجاه الله مما يخاف، وأعطاه ما أراد. قيل: وكيف كان ذلك؟؛ قال: “اقرءوا إن شئتم: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا..} الآيات”
وفيه أن تكرار الدعاء من أسباب الإجابة، وأن الدعاء باسم الربوبية أقرب إلى الإجابة من الدعاء باسم آخر؛ لأن أكثر الأدعية الواردة في القرآن جاءت باسم الربوبية.
{وَآتِنَا} آتنا: بمعنى أعطنا، بخلاف ائتنا: بمعنى جئنا، آت بمعنى أعط، وأتى بمعنى جاء.. والمصدر من آتي إيتاء؛ لقوله تعالى: {وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى} [النحل:٩٠].
{مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} على تصديق رسلك والإيمان بهم. أو على ألسنة رسلك، وهو الثواب، ولم يقولوا على رسولك للإشارة إلى أن ثواب المطيع وعقوبة العاصي مما جاء به كل الرسل.
لما سألوا المثوبة في الدنيا والآخرة ترقوا في السؤال إلى طلب تحقيق المثوبة، وقد أخروا ذلك لشعورهم بهفواتهم أكثر من شعورهم بحسناتهم التي يستحقون عليها الثواب.
{وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} تفضحنا وتذلنا على رؤوس الخلائق يوم القيامة.
قصدوا بذلك تذكير وعده تعالى بقوله: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [التحريم:8] بإظهار أنهم ممن آمن معه.
{إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} تعليل لسؤالهم، يعني: سألناك يا ربنا أن تعطينا هذا لأنك لا تخلف الميعاد.. ورغم أنهم عالمين بأن الله لا يخلف الميعاد إلا أنهم قالوا هذا من باب الأدب مع الله حتى لا يظهروا بمظهر المستحق لتحصيل الموعود به تذللا، أي كسؤال الرسل عليهم السلام المغفرة وقد علموا أن الله غفر لهم.
وإنما انتفى عنه إخلاف الوعد لكمال صدقه وكمال قدرته؛ لأن إخلاف الوعد إما أن يكون لكذب الواعد كميعاد أهل النفاق، وإما أن يكون لعجز الواعد أي أنه يفي لكنه عجز، والله -عزّ وجل- قد انتفى في حقه الأمران: الكذب والعجز، فهو لكمال صدقه وكمال قدرته لا يخلف الميعاد، وهذه الصفة من الصفات السلبية والسلب بمعنى النفي.. وهي الصفات التي يراد بها انتفاء الصفة التي نفيت إثبات كمال ضدها.
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
{فَاسْتَجَابَ} عقب ذلك بفاء التعقيب التي تدل على سرعة الاستجابة بحصول المطلوب، ودلت على أن مناجاة العبد ربه بقلبه ضرب من ضروب الدعاء القابل للإجابة.
{لَهُمْ رَبُّهُمْ} ولم يقل (الله) لأنهم كانوا يدعون بقولهم: {ربنا} فالموقع هنا يقتضي الربوبية، وهي هنا ربوبية خاصة؛ لأن ربوبية الله تنقسم إلى قسمين: عامة وخاصة، ومقتضى الربوبية العامة مطلق التصرف، ومقتضى الربوبية الخاصة النصر والتأييد واللطف وغير ذلك مما يقتضي عناية خاصة. وفيه مشاكلة بين لفظ الدعاء والإجابة.
{أَنِّي} بأني.. هذا تفسير للإجابة، أي قال لهم مُجِيبًا.
{لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ} نفي إضاعة عملهم، نفي إلغاء الجزاء عنه: جعله كالضائع الغير الحاصل في يد صاحبه.
فنفي إضاعة العمل بالاعتداد بعلمهم وحسبانه لهم، فقد تضمنت الاستجابة تحقيق عدم إضاعة العمل تطمينا لقلوبهم من وجل عدم القبول.
وإذا كان سيجزيهم الجزاء الأوفى فلأنهم عملوا خيرا، وسبحان الله الشاكر العليم، هم يطلبون الجنة منحة من الله، لأنهم لا يعتقدون أن عملهم يدخلهم الجنة استصْغارا لأعمالهم بجوار نعمة رب العالمين عليهم، ففي الآية الكريمة إشارة إلى عدله ورحمته، وبيان القانون الأمثل للعدل، وهو أن يكون الجزاء من جنس العمل {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة7-8].
{مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} «من» اتصالية أي بعض المستجاب لهم متصل ببعض، وهي كلمة تقولها العرب بمعنى أن شأنهم واحد وأمرهم سواء.. قال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ} [التوبة:67] الخ… وقولهم: “هو مني وأنا منه”.
والمعنى: جميعكم في ثوابي سَواء، وأنتم في عنايتي بأعمالكم سواء، لا فرق بين الذكر والأنثى, كلكم بنو آدم.. وهذه جملة معترضة مبينة سبب شركة النساء مع الرجال فيما وعد الله عباده العاملين.
{فَالَّذِينَ هَاجَرُوا} تفصيل لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم له والتفخيم, وهو من ذكر الخاص بعد العام للاهتمام بذلك الخاص، كأنه قال: فالذين عملوا هذه الأعمال السنية. وهي هنا خمسة:
هاجروا أي: تركوا دار الشِّرك وأتَوا إلى دار الإيمان، وفارقوا الأحباب والخلان والإخوان والجيران.. والمفاعلة فيها للتقوية، كأنه هجر قومه وهجروه لأنهم لم يحرصوا على بقائه.
** وفيه فضيلة الهجرة في سبيل الله، وقد قال العلماء: إن الهجرة تنقسم إلى ثلاث أقسام:
القسم الأول: هجر ما حرم الله، فإن المهاجر من هجر ما نهى الله عنه، وهذا يعني أن المهاجر هو الذي قام بفعل الواجبات وترك المحرمات .
القسم الثاني: الهجرة من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، كما فعل المهاجرون من مكة إلى المدينة، وهذه هي التي يكون فيها المدح الذي جاء في القرآن.
القسم الثالث: الهجرة من بلد الفسق إلى بلد الاستقامة، فإن بعض البلاد تكون بلاداً إسلامية تقام فيها الشعائر الإسلامية وينادي فيها بالأذان، وتقام الجماعات، وتقام الجُمعات، فهي بلاد إسلامية، ولكنها بلاد فسق من جهة أخرى لكثرة المعاصي والفواحش وغيرها في هذا البلد فيهاجر الإنسان منها إلى بلد الاستقامة.
ثم ما هو الواجب من هذه الأنواع الثلاثة؟
أما الأول: «هجر ما حرم الله» فهو واجب على كل إنسان، حتى في بلاد الإسلام المستقيمة يجب عليه أن يهجر ما حرم الله .
وأما الثاني: «المهاجرة من بلد الكفر إلى بلد الإسلام» فإن العلماء -رحمهم الله- يقولون: إن كان قادراً على إظهار دينه لم تجب الهجرة، وإن كان عاجزاً وجبت عليه الهجرة، فإذا كان في بلاد يحبسون الحريات ويمنعون المسلمين من إقامة شعائر دينهم كالصلوات في الجماعة مثلاً؛ فالهجرة هنا واجبة؛ لأن المسلم لا يقدر على إظهار دينه. وإن كان في بلد تعتبر نفسها بلد حرية فإن الهجرة ليست بواجبة، لكن مع هذا نقول: هي أكمل وأحسن مما لو بقي. وعليه فإذا كان يمنع من إظهار الدين وجب عليه الهجرة حتى لو كان من أهل البلد أصلاً، أما إذا كان في بلد الحرية فالهجرة أكمل، خوفاً من الفتنة.
وأما الثالث: «الهجرة من بلد الفسق إلى بلد الاستقامة» هذه فيها تفصيل أيضاً: إن كان يخشى على نفسه من الفتنة وجبت عليه الهجرة، وإن كان لا يخشى لم تجب عليه الهجرة، وربما يكون بقاؤه أحسن في هذه البلاد إذا كان يدعو إلى الله تعالى.
{وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} التي ولدوا فيها ونشئوا، فضايقهم المشركون بالأذى وسوء المعاملة حتى ألجؤوهم إلى الخروج من بين أظهرهم. أو طردوهم مباشرة بصريح القول.
والثاني أشد؛ لأن التضييق يمكنه أن يصبر معه ويتحمل ولا يخرج، يختفي أحياناً ويهرب أحياناً، ويبقى في بلده، لكن الطرد بأن يمسك ويطرد لا شك أنه أشد، ولهذا قال أهل العلم خصوصاً الحنابلة فيمن فعل ما يوجب الحد من زنا أو غيره، ثم لجأ إلى الحرم في مكة فإنه لا يخرج من الحرم ولا يقام عليه الحد في الحرم، لأنه لجأ إليه، ومن دخله كان آمناً، ولكنه يضيق عليه فلا يؤاكل ولا يشارب ولا يبايع ولا يكلم، حتى تضيق عليه الأرض ويخرج، أما أن يخرج بالقوة ليقام عليه الحد فلا.
{وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي} من أجله وبسببه, يريد سبيل الإيمان بالله وحده, وهو متناول لكل أذى نالهم من المشركين.. أي أصابهم الأذى وهو مكروه قليل من قول أو فعل وفهم منه أن من أصابهم الضر أولى بالثواب وأوفى. وهذه حالة تصدق بالذين أوذوا قبل الهجرة وبعدها.
وإنما كان ذنْبُهم إلى الناس أنهم آمنوا بالله وحده، كما قال تعالى: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} [الممتحنة:1]. وقال تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8].
{وَقَاتَلُوا} الكفار بالجهاد {وَقُتِلُوا} استشهادا في سبيل الله.. وهذا أعلى المقامات أن يقتل في سبيل الله، فيُعْقَر جَواده، ويعفَّر وجهه بدمه وترابه.
وقد ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْطُبُ النَّاسَ، فَذَكَرَ الْإِيمَانَ بِاللهِ، وَالْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ، مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ عِنْدَ اللهِ، قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأَنَا صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرَ مُدْبِرٍ، كَفَّرَ اللهُ عَنِّي خَطَايَايَ ؟ قَالَ: ” نَعَمْ “، قَالَ: ” فَكَيْفَ قُلْتَ؟ ” قَالَ: فَرَدَّ عَلَيْهِ الْقَوْلَ كَمَا قَالَ، قَالَ: ” نَعَمْ “، قَالَ: ” فَكَيْفَ قُلْتَ؟ ” قَالَ: فَرَدَّ عَلَيْهِ الْقَوْلَ أَيْضًا، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ، كَفَّرَ اللهُ عَنِّي خَطَايَايَ ؟ قَالَ: (نَعَمْ، إِلَّا الدَّيْنَ، فَإِنَّ جِبْرِيلَ سَارَّنِي بِذَلِكَ)
{لَأُكَفِّرَنَّ} جملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات: اللام، والقسم، ونون التوكيد الثقيلة.
{عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} وهذا تصريح بوعد ما سأله الداعون بخصوصه.
أي بما حصل لهم من هذه التضحيات من: هجرة، وإخراج من ديار، والإيذاء في سبيل الله، والمقاتلة في سبيل الله والقتل.
ومغفرة الذنوب في الكبائر، والتكفير في الصغائر؛ تكفّرها الأعمال الصالحة وتكفرها المصائب أيضا.
{وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ} تأكيد باللام، والقسم، والنون.
{جَنَّاتٍ} بالجمع، وأحياناً تأتي: بالإفراد، فإذا كانت بالإفراد فالمراد بها مطلق الجنس، وإذا قيلت بالجمع فالمراد بها أنواع الجنات.
وأصل الجنة البستان الكثير الأشجار، وسُمِّي بذلك لأنه يجن من فيه؛ أي يستره، والمادة هذه (ج ن ن) كلها دالة على الستر والخفاء، ومنه الجُنَّة للمقاتل يأخذها يستتر بها عن السهام، ومنها الجنان يعني القلب لاختفائه، ومنه الجِنَّة أي: (الجن) لاستتارهم.
{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا} من تحت قصورها ومن خلالها.
{الْأَنْهَارُ} من أنواع المشارب، من لبن وعسل وخمر وماء غير آسن وغير ذلك، مما لا عَيْنَ رَأتْ، ولا أذن سَمِعت، ولا خَطَر على قلب بَشَر.
وهذه الأنهار لا تنضب ولا تنقص، ولا تحتاج إلى حفر ولا إلى إقامة جدر.
قال ابن القيم في النونية :
أنهارها في غير أخدود جرت ** سبحان ممسكها عن الفيضان
والجملة تشويق إلى الجنة ليزداد الإنسان قوة في العمل.
{ثَوَابًا} عطاء {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} مصدر مؤكد لما قبله, فإن تكفير السيئات وإدخال الجنة, في معنى الإثابة. وأضافه إليه تعالى ليدل على أنه عظيم, لأن العظيم الكريم لا يعطي إلا جزيلاً كثيراً.
{وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} جملة مؤكدة لما سبق، أي أن الله -سبحانه وتعالى- يثيبهم الثواب الحسن؛ لأن هذا هو الذي عند الله، ولهذا يجازي المحسن بحسنته عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)
{لَا يَغُرَّنَّكَ} الغرة غفلة في اليقظة.. وليس من مقتضى النهي أن يكون قد وقع من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غرور، فالنهي عن أمر من شأنه أن يقع في النفوس ليس دليلا على وقوعه، ولذلك روى أن قتادة قال: “والله ما غروا نبي الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى قبضه الله”.
ولقد قال الزمخشري في توجيه النهي للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “فيه وجهان:
أحدهما: أن مِدرةُ القوم [المقدم فيهم] ومتقدمهم إذا خوطب بشيء فيقوم خطابه مقام خطابهم جميعا، فكأنه قال: لَا يغرنكم.
والثاني: أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان غير مغرور بحالهم، فأكد ما كان عليه وثبت ما كان على التزامه كقوله: {وَلا تَكُن مَّع الْكَافِرِينَ}، {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِين}.
{تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ} أي ترددهم في البلاد وتقلبهم من بلد إلى آخر، وتقلبهم في التجارات وفي أنواع الصناعات وفي غيرها مما فتح الله عليهم.. فهذا لا يغرك، ووجه الغرور الذي قد يحصل هو أن الإنسان قد يغتر بهذا الذي أعطاهم الله -عز وجل-، فيصنع مثل صنيعهم، أو يظن أن إعطاء الله إياهم هذا الشيء دال على أنه لا ينكر ما هم عليه، ولو أنكر ما هم عليه لم يمكنهم من التقلب في البلاد.
فلا تنظروا إلى ما هؤلاء الكفار مُتْرفون فيه من النِّعْمَة والغِبْطَة والسرور، فعَمّا قليل يزول هذا كله عنهم، ويصبحون مُرتَهنين بأعمالهم السيئة، فإنما نَمُدّ لهم فيما هم فيه استدراجا، وجميع ما هم فيه:
{مَتَاعٌ} ما يقوم به الانتفاع والمتعة ولا يبقى طويلا.. سواء كانت متعة نفسية أو متعة جسدية، وهي ما يحصل للجسد من اللذة والنعيم وغير ذلك.
{قَلِيلٌ} في الكمية والكيفية لقصر مدته, وكونه بُلغةً فانية, ونعمة زائلة, فلا قدر له في جنب ما أعد الله للمؤمنين.
{ثُمَّ} دالة على التراخي للإشارة إلى أنه مهما طالت بهم المدة في هذه الحياة فإن مآلهم هذا المآل الخبيث والعياذ بالله.
أيضا للدلالة على تفاوت شاسع ما بين حالهم في الدنيا، وما يكونون عليه في الآخرة.
{مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} مصيرهم الذي إليه يأوون، وجهنم اسم من أسماء النار -أعاذنا الله منها- وسميت بذلك؛ لأنها مشتقة من التجهم، أو من الجهمة وهي السواد.
{وَبِئْسَ الْمِهَادُ} ما يكون ممهداً للإنسان، أي: مقراً له وفراشا. قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً} [النبأ:6] أي: ممهدة لكم كالفراش.. وهو تعبير من قبيل التهكم، وبيان قبح هذا المأوى، وفى هذا تعزية للمؤمنين أبلغ تعزية.
وهذه الآية كقوله تعالى:
{مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} [غافر:4]
{إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ. مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [يونس:69-70]
{نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لقمان:24]
{فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق:17]، أي: قليلا.
{أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [القصص:61]
** وفيه: أن ما يعطيه الله العبد من الرخاء وسعة الرزق والانطلاق في الأرض يميناً وشمالاً ليس دليلاً على رضاه عن العبد، وإنما المقياس لرضا الله عن العبد هو اتباع العبد لشرع الله.
وأن الله -عز وجل- قد يستدرج المرء بإغداق النعم عليه فتنة له. كقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35]
وأن الدنيا مهما أعطي الإنسان فيها من النعيم فإنها متاع قليل.
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)
{لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} مجيء الاستدراك في هذه الآية له حكمة بالغة، لأن الاستدراك -أصلا- إنما يكون فيما يتوقع دخوله فيما سبق، مثل: قام القوم لكن فلان لم يقم ممن يتوقع أن يكون فيهم قائم.
فهنا وجه الاستدراك أن الذين اتقوا ربهم لو حصل لهم في الدنيا مثل ما حصل لهؤلاء الكفار لم يكن ذلك حائلاً بينهم وبين ما عند الله، يعني قد يحصل تقلب المؤمنين في البلاد كتقلب الكفار، فلن يكون مأوى المتقين كمأوى الكافرين.
فالاستدراك هنا من ألطف ما يكون لئلا يظن الظانّ أن الله لو مكن للمؤمنين أن يتقلبوا في البلاد تقلب الكفار لفاتهم ما عند الله، فبين أنه لن يفوتهم فقال:
{لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} اتخذوا ما يقي من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه، ولم يقل: (اتقوا الله) إشارة إلى أن ربوبية الله لهم ربوبية خاصة أعانهم فيها على التقوى، ووفقهم لها، فكانت ربوبيته لهم ربوبية خاصة بهم كربوبيته لبعض الأنبياء مثل: {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:۱۲۲]، فهي ربوبية خاصة لا يشركهم فيها أحد.
{لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} أبدا.
{نُزُلًا} ضيافة من عند الله، والنُزل: المنزل, ما هُيَئ للنزيل والضيف أن ينزل عليه لإكرامه والحفاوة به.
وقيل: والنزل اسم لأول ما يقدم للضيف من الطعام، ومعلوم أن أول يوم للضيف يقدم له أطيب وأحسن شيء، فجعل الله هذه الجنة كلها نزلاً لا يختلف آخرها عن أولها بخلاف نزل الضيافة في الدنيا، فإنه يكون أول يوم من أطيب ما يكون ثم يقل في اليوم الثاني وهكذا.
{مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} هذا النزل ليس من فلان أو فلان بل من عند أكرم الأكرمين وأجود الأجودين وهو الله، والنزل من الأكبر يكون عظيماً وكريماً وكثيراً.
وفي هذا بيان لمقدار عناية الرحمن الرحيم بهم، وإدخالهم مدخل صدق، وإنزالهم منزلا مباركا.
{وَمَا عِنْدَ اللَّهِ} ما: اسم موصول ولا يمكن أن تكون نافية؛ لأن المعنى يفسد كثيراً، يعني والذي عند الله.
{خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} جمع بَر، والبر كثير الخير.. أي: وما عد الله أعظم وأفضل لأهل الطاعة مما يتقلب فيه الذين كفروا من نعيم الدنيا.
قال عبد الله -يعني ابن مسعود-: ما من نَفْس بَرّة ولا فاجرة إلا الموت خيرٌ لها، لئن كان برا لقد قال الله: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأبْرَارِ} وقرأ: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:178].
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)
{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} مسلمة أهل الكتاب {لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} جملة مستأنفة سيقت لبيان أن أهل الكتاب ليس كلهم كمن حكيت هناتهم من نبذ الميثاق, وتحريف الكتاب وغير ذلك. بل منهم طائفة يؤمنون بالله حق الإيمان.
{وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ} ويؤمنون بما أنزل على النبيَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع ما هم مؤمنون به من الكتب المتقدمة.
{خَاشِعِينَ لِلَّهِ} مطيعون له, خاضعون متذللون بين يديه.
{لَا يَشْتَرُونَ} لا يأخذون ولا يطلبون {بِآيَاتِ اللَّهِ} الآيات الشرعية {ثَمَنًا قَلِيلًا} أي يأخذ الجاه والرئاسة والمال وغير ذلك بدلاً عن آيات الله الشرعية واتباعها.
وهذه الأمور الخمسة يترتب بعضها على بعض، فيترتب على الإيمان الصادق بالله الإيمان بمحمد والإيمان بما نزل على النبيين الصادقين، ويترتب على هذا كله الخشوع، وأولى ثمرات الخشوع ألا يتركوا آيات الله تعالى لأي عرض من أعراض الدنيا.
وهؤلاء هم خيرة أهل الكتاب وصفوتهم, سواء كانوا هوداً أو نصارى, وقد قال تعالى:
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} [القصص:52-54]
{وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:159]
{لَيْسُواْ سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عِمْرَان:113]
{قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا * وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:107-109]
وهذه الصفات توجد في اليهود, ولكن قليلاً, كما وجد في عبد الله بن سلام فإنه كان حبراً من أحبارهم وأمثاله ممن آمن من أحبار اليهود, ولم يبلغوا عشرة أنفس في حياته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وأما النصارى فكثير منهم يهتدون وينقادون للحق, كما قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:82-85] .
{أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} روى البخاري عن أَبي بُرْدَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: الرَّجُلُ تَكُونُ لَهُ الْأَمَةُ فَيُعَلِّمُهَا فَيُحْسِنُ تَعْلِيمَهَا وَيُؤَدِّبُهَا فَيُحْسِنُ أَدَبَهَا ثُمَّ يُعْتِقُهَا فَيَتَزَوَّجُهَا فَلَهُ أَجْرَانِ، وَمُؤْمِنُ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِي كَانَ مُؤْمِنًا ثُمَّ آمَنَ بِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَهُ أَجْرَانِ، وَالْعَبْدُ الَّذِي يُؤَدِّي حَقَّ اللَّهِ وَيَنْصَحُ لِسَيِّدِهِ)
وروي أن جعفر بن أبي طالب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لما قرأ سورة «كهيعص» بحضرة النجاشي ملك الحبشة، وعنده البطاركة والقساوسة، بكى وبكوا معه حتى أخضبوا لحاهم.
وثبت في البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَعَى النَّجَاشِيَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ. خَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى فَصَفَّ بِهِمْ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا.
وفي البخاري عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ مَاتَ النَّجَاشِيُّ: (مَاتَ الْيَوْمَ رَجُلٌ صَالِحٌ فَقُومُوا فَصَلُّوا عَلَى أَخِيكُمْ أَصْحَمَةَ).
وعن أبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَعَى لَهُمْ النَّجَاشِيَّ صَاحِبَ الْحَبَشَةِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَقَالَ: (اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ) [البخاري]
{إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} كناية عن كمال علمه بمقادير الأجور ومراتب الاستحقاق، وأنه يوفيها كل عامل على ما ينبغي، وقدر ما ينبغي.
ويجوز أن يكون كناية عن قرب إنجاز ما وعد من الأجر لكونه من لوازمها. ولكونها من لوازمها أشبه التأكيد، فلذا لم يعطف عليه.
وقيل: السرعة: عدم التباطؤ في الشيء، فالله تعالى سريع الحساب من وجهين:
الوجه الأول: أن الدنيا قليلة وفانية وسريعة وما هي إلا لحظات ثم تنقضي بسرعة، ما تأخذ إلا شيئاً قليلاً حتى يصل الإنسان إلى نهايته ويموت، فيجد الحساب أمامه، فهذه سرعة.
والسرعة الثانية: يوم القيامة فإن الله تعالى يحاسب الخلائق كلها في نصف يوم؛ لقوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:٢٤] والقيلولة إنما تكون في نصف النهار، ويلزم من هذا أن الله يحاسب الخلائق كلهم في نصف يوم حتى إن كل واحد منهم يقيل في منزله ومستقره.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} صدر الكلام بالنداء الذي يفيد تنبيه المخاطب، ثم إذا كان النداء بوصف الإيمان كان دليلاً على أنَّ ما يأتي بعده من مقتضى الإيمان، فكأنه قال: يا أيها الذين آمنوا بإيمانكم افعلوا كذا وكذا، أو لا تفعلوا كذا وكذا.
كما يدل النداء بالمؤمنين على أن مخالفة ذلك من نواقض الإيمان، إن كان الشيء من أصول الدين مثل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} [النساء:136] فإن مخالفته من نواقض الإيمان.
وإن كان في فرع من فروع الدين فإن مخالفته من نواقص الإيمان، مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا} [المجادلة:١١]
أيضا النداء بالإيمان يفيد إغراء الإنسان وحثه على أن يفعل ما وجه إليه من الأمر أو النهي؛ لأن الإنسان إذا وصف بوصف فإنه يغريه هذا الوصف.
{اصْبِرُوا} على مشاق الطاعات وترك المخالفات، وما يمسكم من المكاره والشدائد، فالمصائب التي تصيب الإنسان هي بنفسها مكفرة للذنوب، فإذا احتسب الإنسان أجرها على الله وانتظر بذلك ثواب الله كانت مع التكفير زيادة حسنات.. فالمؤمن إذا صبر فليبشر بالخير، وفي المثل: «من صبر ظفر».
ومعلوم أن الذي يحتاج إلى الصبر هو الذي يخالف هوى النفس؛ فالذي يخالف هواك هو الذي يحتاج إلى الصبر؛ لأنه يشق عليك تحمله.
{وَصَابِرُوا} المصابرة تكون من اثنين، فلا بد من شخص آخر يضادك فتصابره.
فالصبر: لا أحد يضادك فيه، إنما هو شيء بينك وبين نفسك فتصبر . أي حبس النفس من غير مصابر.
والمصابرة: إنسان يضادك ويثيرك ويعتدي عليك فصابِره .. بمعنى غالبه بالصبر، وهذا يكون في ملاقاة الأعداء غالبا.
والمعنى: غالبوا أعداء الله في الصبر على شدائد الجهاد، ولا تكونوا أقل صبراً منهم وثباتاً. والمصابرة: باب من الصبر. ذكر بعد الصبر على ما يجب الصبر عليه، تخصيصاً، لشدته وصعوبته.
قال الحسن البصري -رحمه الله-: أمروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضاه الله لهم، وهو الإسلام، فلا يدعوه لسرّاء ولا لضرّاءَ ولا لشِدَّة ولا لرِخَاء، حتى يموتوا مسلمين، وأن يصابروا الأعداء الذين يكتمون دينهم. وكذلك قال غير واحد من علماء السلف.
قال ابن عاشور: ختمت السورة بوصاية جامعة للمؤمنين تجدد عزيمتهم وتبعث الهمم إلى دوام الاستعداد للعدو كي لا يثبطهم ما حصل من الهزيمة، فأمرهم بالصبر الذي هو جماع الفضائل وخصال الكمال، ثم بالمصابرة وهي الصبر في وجه الصابر، وهذا أشد الصبر ثباتا في النفس وأقربه إلى التزلزل، وذلك أن الصبر في وجه صابر آخر شديد على نفس الصبر لما يلاقيه من مقاومة قِرْنٍ له في الصبر قد يساويه فإنه لا يجتني من صبره شيئا، لأن نتيجة الصبر تكون لأطول الصابرين صبرا.
{وَرَابِطُوا} أقيموا على مرابطة الغزو في نحر العدو بالترصد والاستعداد لحربهم، وارتباط الخيل، قال الله تعالى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60]
والرباط في الأصل أن يربط كل من الفريقين خيولهم في ثغره، وكل معد لصاحبه، ثم صار لزوم الثغر رباطاً. وربما سميت الخيل أنفسها رباطاً، وقد يتجوّز بالرباط عن الملازمة والمواظبة على الأمر، فتسمى: رباطاً ومرابطة .
وقد وردت الأخبار بالترغيب في الرباط، وكثرة أجره:
فمنها ما رواه البخاري عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ الْغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا)
وروى مسلم عَنْ سَلْمَانَ الفارسي -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ)
وروى الإمام أحمد عن عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ، إِلَّا الْمُرَابِطَ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَإِنَّهُ يُجْرَى لَهُ أَجْرُ عَمَلِهِ حَتَّى يُبْعَثَ) حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ فِيهِ: (وَيُؤَمَّنُ مِنْ فَتَّانِ الْقَبْرِ).
وبْإِسْنَادِ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إِلَّا الَّذِي مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللهِ، فَإِنَّهُ يَنْمُو عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيَأْمَنُ فِتْنَةَ الْقَبْرِ)
ومن الوجوه في قوله تعالى: {رَابِطُواْ} أن يكون معناه انتظار الصلاة بعد الصلاة.
فقد روى مسلم والنسائي عن أبي هريرة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: (أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ)، قال ابن عطية: “والحق أن معنى هذا الحديث على التشبيه”.. فشبه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما ذكر من الأفعال الصالحة بالرباط.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ} أعقب هذا الأمر بالأمر بالتقوى لأنها جماع الخيرات وبها يرجى الفلاح.
{لعل} هنا للتعليل وليست للرجاء؛ لأن كلام الله -عز وجل- ليس فيه رجاء، فإنه على كل شيء قدير، ولا يصعب عليه شيء ولا يعسره شيء، لكنها للتعليل
وقيل: {لعل} لتغييب المآل. لئلا يتكلوا على الآمال.
{تُفْلِحُونَ} تفوزون بما يغتبط به، كلمة جامعة للفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب.
والتقوى هي لب كل عمل صالح، وهي النية المحتسبة للخير، فالمرابطة والمصابرة إن لم تكن منبعثة من التقوى لإرضاء الله تعالى فإنه لَا خير فيها، وإن هذه الأمور الأربعة هي التي يرجى بها الفلاح، أي الفوز في الدنيا والآخرة.
وفي البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَتَحَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَ أَهْلِهِ سَاعَةً ثُمَّ رَقَدَ فَلَمَّا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ قَعَدَ فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} ثُمَّ قَامَ فَتَوَضَّأَ وَاسْتَنَّ فَصَلَّى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ
وفي البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَقُلْتُ لَأَنْظُرَنَّ إِلَى صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَطُرِحَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وِسَادَةٌ فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي طُولِهَا فَجَعَلَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ ثُمَّ قَرَأَ الْآيَاتِ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ آلِ عِمْرَانَ حَتَّى خَتَمَ ثُمَّ أَتَى شَنًّا مُعَلَّقًا فَأَخَذَهُ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي فَقُمْتُ فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صَنَعَ ثُمَّ جِئْتُ فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِي ثُمَّ أَخَذَ بِأُذُنِي فَجَعَلَ يَفْتِلُهَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَوْتَرَ.
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
Source link