إن الأمة الكبيرة هي التي حظيت بأكبر عدد من الكبار، والأمة الصغيرة هي التي يتلفت أطفالها يمنة ويسرة فلا يرون إلا مشغولًا بنفسه ومهمومًا بدنياه.
كانت العرب تقول: تكلموا تعرفوا؛ إذ إن كلام الإنسان يعبر عن عقله وقيمه ونظرته للأمور، والحقيقة أن الناس على مدار التاريخ كانوا يتشوقون إلى معرفة ما هو جوهري في حياة الإنسان، ومعرفة ما يمكَّنهم من الوقوف على ذلك الجوهري، وكان من أهم ما يُسيطر عليهم في هذا الشأن معرفة (العظمة)، وكل ما يجعل من الإنسان شيئًا عظيمًا.
وإذا استعرضنا الوعي الشعبي في هذا، فإننا سنجد أن العظيم أو الكبير هو من يجمع بين الثروة الظاهرة والنفوذ الاستثنائي، ولم يقع الاختيار على ذلك اعتباطًا أو مصادفة؛ حيث إن بين الثروة والنفوذ تغذية متبادلة، فالمزيد من النفوذ يأتي بالمزيد من الثروة، والمزيد من الثروة يُمكِّن من المزيد من النفوذ، ومنهما معًا تتشكل صورة الرجل الكبير، وهذا في الحقيقة هو كبير الدنيا وعظيم المؤقت.
أما الكبير في نظر المنهج الرباني الأقوم، وفي نظر خاصَّة الخاصة، فإنه ذلك الشخص الذي استطاع الإفلات من الدوران في فلك ذاته والاستغراق في رعاية مصالحه الخاصة؛ كي يدور في فلك أمته ويحمل همومها، ويستغرق في خدمة أهدافها… وعلى هذا فإن المرء يكون كبيرًا على مقدار اتساع دائرة همومه واهتماماته، ويكون صغيرًا على مقدار ضيق تلك الدائرة، ولا أرى في هذا أي شيء من التعسف في الحكم أو التحامل على أحد؛ وذلك لأن كون كل مكاسب الدنيا صغيرة ومؤقتة يجعل المحظوظين فيها صغارًا، مهما ملكوا من الثروة والنفوذ، ولا يكون العظيم عظيمًا إلا إذا كانت هناك إمكانية لأن يكون عظيمًا في الآخرة، إلى جانب العظمة في الدنيا، كما قال عز وجل: {إِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [آل عمران: 45].
هذه قمة العظمة، لكن مجرد خروج المرء من دائرة همومه الصغيرة يعد كافيًا لأن يقترب من منظومة العظماء، وإذا كانت نوعية الهموم التي تُسيطر على الواحد منا هي الفيصل في تصنيفه، فما هموم الكبار؟ وما الذي يقلقهم؟ وكيف ينظرون إلى الأمور؟
والحقيقة أن هذا سؤال كبير، والجواب عليه مستعرض ومستطيل، لكن يمكن أن نتناوله بطريقة خاطفة على النحو التالي:
1- يحاول الكبار أن يعيشوا روح الحياة لا شكلها؛ ولهذا فإن الهاجس الذي يهجس به الواحد منهم هو نوعية الإنجازات التي يمكن أن ينجزها في هذه الحياة، ومن ثم فإن حياة الكبار لا تقاس بالسنين والأنفاس، وإنما بالعطاءات والإنجازات، أما الصغار فإن الهمّ الذي يسيطر عليهم هو: كيف يمكن لهم أن يعيشوا في هذه الحياة بالطول والعرض، أي كيف يمكن لهم أن يعيشوا أطول مدة ممكنة مع العبِّ من ملاذاتها وشهواتها إلى الحد الأقصى.
الكبار إِذَنْ يُسيطر عليهم همُّ نوعيَّة العطاء الذي يُقدِّمونه للحياة، والصغار يُسيطر عليهم همُّ كميَّة ما يستولون عليه من الحياة والأحياء!
2- يسيطر على الكبار همُّ رعاية التوازن في حياة أمتهم، إنَّهم يُريدون لها أن تعيش في رفاهية ورغد من العيش، لكن دون أن تنسى أن هناك آخرة تحتاج إلى عمل ومجاهدة، يريدون لها أن تمتلك كل الوسائل الحديثة دون أن تنسى أهدافها الكبرى، يريدون لها أن تختلف حتى لا تقع في قبضة الجمود، ويريدون لها أن تعرف كيف توقف خلافها عند حدود معينة حتى لا تصير إلى التشتت وذهاب الريح، يُريدون لها أن تحافظ على كيانها وترعى مصالحها، دون أن تنسى واجبها تجاه العالم الذي هي جزء منه.
3- على مدار التاريخ كان الكشف عن العوامل التي تُؤدِّي إلى انهيار الأمم وتخلفها هو الشغل الشاغل للمصلحين والمفكرين الكبار، ومن هنا فإن عظماء الأمة هم الذين يساعدونها على فهم طبيعة الأسباب التي تجعلها تتراجع أو تتجمد في مكانها، وهم من أجل ذلك يبحثون ويدرسون ويتأملون ويقارنون، ويحاولون بعد كل هذا أن ينقلوا ما تحصل لديهم من ذلك إلى عقول أمتهم وأعصابها، ويمارسون من أجل ذلك النقد مع أنهم يعرفون أنَّ الحسَّ الشعبي يرتاح للمديح وينفر ممَّن يُشيرون إلى الجراح، لكن الشعور بالمسئوليَّة الأخلاقيَّة تجاه أهليهم وجماعتهم يجعلهم يتحمَّلون تكاليف ذلك عن طيب خاطر.
الكبار يحاولون عزل أنفسهم عن السياق العام لمجتمعهم حتى يروه على نحو جيد، كما يقف قائد جيش على مكان مرتفع كي يرى كل أرض المعركة، وهذه العزلة تسبب لهم الكثير من الإشكالات وتعرُّضهم لسوء الفهم من لدن الكثرة الكاثرة، وهم راضون بذلك؛ لأنه جزء من تبعات الريادة الفكرية والاجتماعية التي يحظون بها.
4- الاهتمام بالعدل وحماية العناصر الضعيفة من بطش الجبارين واستغلال الماكرين… من أهم ما يُميِّز بين صغار القوم وكبارهم، الصغار يبحثون عن الظروف الأكثر ملاءمة لبسط نفوذهم وتكثير أموالهم، ويجدون في التفاوت الطبقي الواسع ضالتهم المنشودة. أمَّا الكبار فيعلمون أنَّ حماية الضعيف مجلبة لرحمة الرحمن، ومظلة أمان من التحلل الذاتي والانهيار الداخلي، ويعلمون كذلك أن العدل المتوخي هو عدل بين الناس والأمكنة والأجيال، فلا يصح لجيل أن يستنفد ثروات البلد ويلوث بيئته من غير اعتبار لمن سيأتي بعده من الأسباط والأحفاد.
هذه بعض معالم طريق الكبار، ويمكن للمرء أن يسير على طريقهم وفي ركابهم إذا تحلى بصفة واحدة من صفاتهم، وإن الأمة الكبيرة هي التي حظيت بأكبر عدد من الكبار، والأمة الصغيرة هي التي يتلفت أطفالها يمنة ويسرة فلا يرون إلا مشغولًا بنفسه ومهمومًا بدنياه… ولله الأمر من قبل ومن بعد.
المصدر: موقع قصة الإسلام
Source link