فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا – خالد سعد النجار

يؤمر فيه باستقبال الكعبة بدل بيت المقدس، لرغبته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في مخالفة اليهود، ولحبه لقبلة أبيه إبراهيم وهي أول قبلة وأفضلها، وأدعى للعرب إلى الإيمان، لأنها مفخرهم ومزارهم ومطافهم.

بسم الله الرحمن الرحيم

{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) }

{{قَدْ}} للتحقيق {{نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء}} تردده بالنظر إليها مرة بعد أخرى انتظاراً لنزول الوحي، يؤمر فيه باستقبال الكعبة بدل بيت المقدس، لرغبته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في مخالفة اليهود، ولحبه لقبلة أبيه إبراهيم وهي أول قبلة وأفضلها، وأدعى للعرب إلى الإيمان، لأنها مفخرهم ومزارهم ومطافهم.

{{فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا}} فنوجهنك أو فنحولنك إلى القبلة التي تحبها وتطمئن إليها وهي الكعبة، ولما كان الرضي مشعرا بالمحبة الناشئة عن تعقل اختير في هذا المقام دون تحبها أو تهواها.

{{فَوَلِّ وَجْهَكَ}} والمراد بـ «الوجه» جميع البدن؛ لأن البدن بهيئته وطبيعته إذا استقبل الوجه جهة صار جميع البدن مستقبلاً لها {شَطْرَ} جهة {الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} صفة مشبهة من الحُرم؛ وهو المنع؛ وسمي «حراماً»؛ لأنه يُمنع فيه من أشياء لا تمنع في غيره، ولأنه محترم معظم؛ والمراد به الكعبة، وما حولها من البناء المعروف.

والمعنى: حوّل وجهك جهة المسجد الحرام بمكة كناية عن الكعبة.. فوصف الكعبة بالبيت الحرام، وحرم مكة بالحرم، أوصاف قديمة شائعة عند العرب، فأما اسم المسجد الحرام فهو من الألقاب القرآنية جعل علما على حريم الكعبة المحيط بها، وهو محل الطواف والاعتكاف ولم يكن يعرف بالمسجد في زمن الجاهلية إذ لم تكن لهم صلاة ذات سجود.

والمسجد مكان السجود فاسم المسجد الحرام علم بالغلبة على المساحة المحصورة المحيطة بالكعبة ولها أبواب منها باب الصفا وباب بني شيبة، ولما أطلق هذا العلم على ما أحاط بالكعبة لم يتردد الناس من المسلمين وغيرهم في المراد منه، فالمسجد الحرام من الأسماء الإسلامية قبل الهجرة، وقد ورد ذكره في سورة الإسراء وهي مكية.

والجمهور على أن المراد بالمسجد الحرام هنا الكعبة لاستفاضة الأخبار الصحيحة بأن القبلة صرفت إلى الكعبة وأن رسول الله أمر أن يستقبل الكعبة وأنه صلى إلى الكعبة يوم الفتح وقال: (هذه القبلة)، قال ابن العربي: وذكر المسجد الحرام والمراد به البيت لأن العرب تعبر عن البيت بما يجاوره أو بما يشتمل عليه، وعن ابن عباس: البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب.

وبهذا الأمر الإِلهي تحولت القبلة. ورُوي أنه كان يصلي الظهر في مسجد بني سلمة المعروف الآن بمسجد القبلتين فصلى الرسول والمؤمنون وراءه ركعتين إلى بيت المقدس وركعتين إلى الكعبة.

والأحاديث الصحيحة في هذا ثلاث:

1/ روى البخاري ومسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: «بَيْنَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّأْمِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ» .

وفيه أن نزول آية تحويل القبلة كان قبل صلاة الصبح وأنه لم يكن في أثناء الصلاة وأنه صلى الصبح للكعبة.

2/ روى مسلم عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «كَانَ يُصَلِّي نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَنَزَلَتْ » {{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}} «فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ وَهُمْ رُكُوعٌ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَقَدْ صَلَّوْا رَكْعَةً فَنَادَى أَلَا إِنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ فَمَالُوا كَمَا هُمْ نَحْوَ الْقِبْلَةِ» .

3/  روى البخاري ومسلم عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحِبُّ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} فَتَوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ وَقَالَ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ وَهُمْ الْيَهُودُ {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلٌ ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ مَا صَلَّى فَمَرَّ عَلَى قَوْمٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَالَ هُوَ يَشْهَدُ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَّهُ تَوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ فَتَحَرَّفَ الْقَوْمُ حَتَّى تَوَجَّهُوا نَحْوَ الْكَعْبَةِ» .

وحمل ذكر صلاة الصبح في رواية ابن عمر وأنس بن مالك وذكر صلاة العصر في رواية البراء كل على أهل مكان مخصوص.

ولما فرضت عليه الصلاة بمكة كان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يستقبل بيت المقدس وهو في مكان يجعل الكعبة أمامه من جهة الشرق فيكون مستقبلا الكعبة وبيت المقدس معا، فلما قدم المدينة استقبل بيت المقدس فقط لاستحالة ذلك لأنه إذا كان مستقبلاً لبيت المقدس تكون الكعبة خلفه تماماً.

استدل المالكية على أنه ينبغي للمصلي أن ينظر تلقاء وجهه؛ لقوله تعالى: {{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}} ؛ فإذا ولّى الإنسان وجهه شطر المسجد الحرام فسيكون نظره تلقاء وجهه غالباً؛ وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم: ماذا ينظر إليه المصلي حال القيام؟

فالمشهور عن المالكية أن المصلي ينظر تلقاء وجهه؛ وعند الإمام أحمد أنه ينظر إلى موضع سجوده- وهو مذهب الشافعي، وأبي حنيفة؛ واستدلوا لذلك بأثر مرسل عن محمد بن سيرين أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يطأطئ رأسه، وينظر إلى موضع سجوده؛ ولأنه أظهر في الخشوع

وقال بعض العلماء: إن الإمام والمنفرد ينظران إلى موضع السجود؛ وأما المأموم فينظر إلى إمامه؛ واستدلوا لذلك بأحاديث في البخاري؛ وهي أن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حينما صلى صلاة الكسوف، وأخبر أصحابه بأنه عُرضت عليه الجنة والنار قال لهم: (وذلك حين رأيتموني تقدمت وتأخرت)؛ وهذا دليل على أنهم ينظرون إليه؛ ومنها أنه لما صنع له المنبر قام يصلي عليه، فكان يقوم، ويركع؛ فإدا أراد السجود نزل، وسجد على الأرض؛ وقال: (إنما فعلت هذا لتأتموا بي، ولتعلَّموا صلاتي)؛ وهذا دليل على أنهم ينظرون إليه؛ ومنها أيضاً أنهم لما أخبروا أن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يقرأ في صلاة السر؛ قيل لهم: بم تعرفون ذلك؟ قالوا: «باضطراب لحيته»؛ وهذه كلها في الصحيح؛ فهذا دليل على أن المأموم ينظر إلى إمامه؛ ولأنه أبلغ في الائتمام به؛ لأن الإمام قد يقوم، وقد يجلس ساهياً مثلاً؛ فإذا كان المأموم ينظر إلى الإمام كان ذلك أبلغ في الاقتداء به؛ أما الإمام، والمنفرد فإنهما ينظران إلى موضع السجود؛ وهذا القول أقرب؛ ولا سيما إذا كان المأموم محتاجاً إلى ذلك، كما لو كان لا يسمع، فيريد أن ينظر إلى الإمام ليقتدي به، أو نحو ذلك.

لكن يستثنى من ذلك إذا كان جالساً؛ فإنه ينظر إلى موضع إشارته؛ لقول عبد الله بن الزبير: «كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يجاوز بصره إشارته»؛ ومما يستثنى من ذلك عند بعضهم: إذا كنت في المسجد الحرام ويمكنك مشاهدة الكعبة؛ فإنك تنظر إلى الكعبة؛ ومنها إذا كنت في خوف وحولك العدو؛ فإنك تنظر إلى جهة العدو؛ فهذه المسائل الثلاث تستثنى؛ والراجح في مسألة الكعبة أن المصلي لا ينظر إليها حال صلاته؛ لعدم الدليل على ذلك؛ ولأنه ربما ينشغل به عن صلاته، لا سيما إذا كان الناس يطوفون حولها؛ وأما استثناء الصلاة حال الخوف فصحيح؛ لدخوله في عموم قوله تعالى: {وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ}؛ وقد ورد عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه بعث طليعة؛ فكان يصلي وهو يلتفت إلى الشعب هل جاء الطليعة أم لا.

{{وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ}} في نواحي البلاد وأقطار الأرض، لئلا يتوهم أن هذه القبلة مختصة بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو بأهل المدينة، لأن الأصل في التشريعات الإسلامية أن تعم الرسول وأمته إلا إذا دل دليل على تخصيص أحدهما، ولما خيف إيهام أن يكون هذا الحكم خاصا به أو أن تجزي فيه المرة أو بعض الجهات كالمدينة ومكة أريد التعميم في المكلفين وفي جميع البلاد {{فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ}} أي شطر المسجد الحرام.

{{وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ}} أي تحول القِبلة جاء منصوصاً عليه في الكتب السابقة، وفي إضافة الرب إليهم تنبيه على أنه يجب اتباع الحق الذي هو مستقر ممن هو معتن بإصلاحك، كما قال تعالى: {{الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}} [البقرة:147]

{{وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}} فما أحدثوه من التشويش والتشويه إزاء تحول القبلة فقد علمه وسيجزيهم به إذ لم يكن تعالى بغافل عما يعملونه.

وفي خطابهم –أيضا- بأن الله لا يغفل عن أعمالهم، تحريكاً لهم بأن يعملوا بما علموا من الحق، لأن المواجهة بالشيء تقتضي شدة الإنكار وعظم الشيء الذي ينكر.

قال ابن عاشور: وهذا الخبر كناية عن الوعيد بجزائهم عن سوء صنعهم لأن قول القادر: “ما أنا بغافل عن المجرم” تحقيق لعقابه إذ لا يحول بين القادر وبين الجزاء إلا عدم العلم فلذلك كان وعيدا لهم ووعيدهم يستلزم في المقام الخطابي وعدا للمسلمين لدلالته على عظيم منزلتهم فإن الوعيد إنما ترتب على مخالفتهم للمؤمنين فلا جرم أن سيلزم جزاء للمؤمنين على امتثال تغيير القبلة، ولأن الذي لا يغفل عن عمل أولئك لا يغفل عن عمل هؤلاء فيجازى كلا بما يستحق.

{{وَلَئِنْ أَتَيْتَ}} جئت {{الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ}} حجة وبرهان {{مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ} } هذه تسلية للرسول عن عدم متابعة أهل الكتاب له، فمن نازع عناداً فلا يرجى منه انتزاع، وأضاف تعالى القبلة إليه، لأنه المتعبد بها لكونها قبلة شرعه، ولأنه سألها بلسان الحال، والمقتدى به في التوجه إليها.

والمعنى أن إنكارهم أحقية الكعبة بالاستقبال ليس عن شبهة حتى تزيله الحجة، ولكنه مكابرة وعناد فلا جدوى في إطناب الاحتجاج عليهم.

وقد احتج أبو مسلم بهذه الآية، على أن علم الله في عباده وفيما يفعلونه، ليس بحجة لهم فيما يرتكبون، وأنهم مستطيعون لأن يفعلوا الخير الذي أمروا به، ويتركوا ضده الذي نهوا عنه.

{{وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ}} وأفرد القبلة، وإن كانت مثناة، إذ لليهود قبلة، وللنصارى قبلة مغايرة لتلك القبلة، لأنهما اشتركتا في كونهما باطلتين، فصار الإثنان واحداً من جهة البطلان، وحسن ذلك المقابلة في لفظ {{مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ}}

{{وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ}} فالنصارى لم يكونوا ليصلوا إلى بيت المقدس قبلة اليهود، ولا اليهود ليصلوا إلى مطلع الشمس قبلة النصارى، وذلك إشارة إلى أن اليهود لا تتنصّر، وإلى أن النصارى لا تتهود، في أغلب أحوالهم، وذلك لما بينهما من إفراط العداوة والتباغض، وأن كلاً منهما يسفه حلم الآخر ويكفره، إذ تباينت طريقتهما.

{{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم}} والأهواء جمع هوى، وهو الميل؛ ومنه يقال للنجم هوى إذا مال وسقط؛ ويطلق «الهوى» في الغالب على الميل عن الحق، ويقابله «الهدى»؛ فيقال: اتبعَ الهوى بعد الهدى.

وفي الحديث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «(لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ) » فهو دليل على أن الهوى يكون في الخير كما يكون في الشر.

وقيل الهوى: هو الحب البليغ بحيث يقتضي طلب حصول الشيء المحبوب ولو بحصول ضر لمحصلة، فلذلك غلب إطلاق الهوى على حب لا يقتضيه الرشد ولا العقل ومن ثم أطلق على العشق، وشاع إطلاق الهوى في القرآن على عقيدة الضلال ومن ثم سمي علماء الإسلام أهل العقائد المنحرفة بأهل الأهواء.

وفي الآية تعليق وقوع الشيء على شرط لا يقتضي إمكان ذلك الشرط، وهذا كقوله تعالى في الملائكة: {{وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}} [الأنبياء:29] وقوله: { {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}} [الزمر:65] وقوله: {{قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}} [الزخرف:81] وفهم من ذلك الاستحالة، لأن المعلق على المستحيل مستحيل.

وقالوا: ما خوطب به من هو معصوم مما لا يمكن وقوعه منه، فهو محمول على إرادة أمته، ومن يمكن وقوع ذلك منه، وإنما جاء الخطاب له على سبيل التعظيم لذلك الأمر، والتفخيم لشأنه، حتى يحصل التباعد منه. ونظير ذلك قولهم: “إياك أعني واسمعي يا جارة”.

{{مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ}} أي من الدلائل والآيات التي تفيد لك العلم وتحصله، فأطلق اسم الأثر على المؤثر. سمى تلك الدلائل علماً، مبالغة وتعظيماً وتنبيهاً على أن العلم من أعظم المقامات شرفاً ومرتبة. ودلت الآية على أن توجه الوعيد على العلماء أشد من توجهه على غيرهم.

{{إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ}} والمراد بالظالمين الظالمون أنفسهم، وللظلم مراتب دخلت كلها تحت هذا الوصف، وفيه التلطف في الخطاب للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ لأنك لو قلت لرجل: «أنت رجل ظالم» لكان أشد وقعاً من قولك له: أنت من الظالمين؛ ونظيره قوله تعالى: {{عَبَسَ وَتَوَلَّى}} [عبس:1] عندما تقرؤها تظن أن العابس والمتولي غير الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ تظن أنه رجل آخر؛ ولكن المراد به الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

{{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ}} أعطيناهم {{الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ}} أي يعرفون أن محمد نبي الله ورسوله لما في كتبهم من صفاته الواضحة القطعية، وهو استطرد بأن طعنهم في القبلة الإسلامية ما هو إلا من مجموع طعنهم في الإسلام وفي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- {{كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ}} تشبيه في جلاء المعرفة وتحققها، فإن معرفة المرء بعلائقه معرفة لا تقبل اللبس، وخص الأبناء لشدة تعلق الآباء بهم فيكون التملي من رؤيتهم كثيرا فتتمكن معرفتهم فمعرفة هذا الحق ثابتة لجميع علمائهم.

وعدل عن أن يقال يعلمونه إلى يعرفونه لأن المعرفة تتعلق غالبا بالذوات والأمور المحسوسة قال تعالى: {{تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ}} [المطففين:24] ولهذا يوصف الله تعالى بصفة العلم فيقال العليم، ولا يوصف بصفة المعرفة فلا يقال الله يعرف كذا.

{{وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}} تخصيص لبعض الذين أوتوا الكتاب بالعناد في أمر القبلة وفي غيره مما جاء به النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وذم لهم بأنهم يكتمون الحق وهم يعلمونه وهؤلاء معظم الذين أوتوا الكتاب.

فكتمان الحق لم يكن من جميعهم؛ بل من فريق منهم؛ وطائفة أخرى لا تكتم الحق؛ فإن من النصارى من آمن كالنجاشي؛ ومن اليهود مَن آمن، ولم يكتم الحق كعبد الله بن سلام.

{{الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِين}} الشاكين. وهذا النهي يراد به التثبيت؛ إذ لا يمكن وقوع الامتراء من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وفيه عناية الله سبحانه وتعالى بالرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالتثبيت؛ لأن قوله تعالى له: {{الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ}} يقتضي ثباته عليه؛ وقوله تعالى: {{فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِين}} يقتضي استمراره على هذا الثبات؛ ولا شك أن في هذا من تأييد الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وتثبيته ما هو ظاهر.

وفيه أيضا تحذير الأمة، وهذه عادة القرآن في كل تحذير مهم ليكون خطاب النبي بمثل ذلك وهو أقرب الخلق إلى الله تعالى وأولاهم بكرامته دليلا على أن من وقع في مثل ذلك من الأمة قد حقت عليه كلمة العذاب، وليس له من النجاة باب.

 

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

[email protected]

 


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

خطر الإلحاد (2) – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة السفر إلى بلاد الكفار للدراسة أو غيرها دون التقيد بالضوابط الشرعية -القراءة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *