قواعد هامة في قضية الرزق

لما كانت قضية الرزق قضية شاغلة، تشغل البال وتستحوذ على الفكر والعقل، واهتمامات الناس، أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخفف عنهم من غلوائها، ويهون على النفوس من ضغطها؛ فأخبر أن الله قدر الأرزاق كما قدر الأعمار والأعمال.

في حديث الصادق المصدوق الذي رواه ابن مسعود في الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أحدَكم يُجْمَعُ خَلْقُهُ في بطنِ أمِّه أربعينَ يومًا نطفة، ثم يكونُ علقةً مثلَ ذلك، ثم يكونُ مضغةً مثلَ ذلك، ثم يُرسلُ اللهُ تعالى إليه الملكَ فينفخُ فيه الروحَ، ويُؤمرُ بأربعِ كلماتٍ: رزقُه، وأجلُه، وعملُه، وشقيٌّ أم سعيدٌ، …» ) [ (متفق عليه).

فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الجنين إذا بلغ في بطن أمه مائة وعشرين يوما، أتاه الملك الموكل بالأرواح والأجنة، فينفخ فيه روح الحياة، ثم يكتب ماله من رزق، وكم له من عمر، وما قدر له من عمل، وهل هو من السعداء أم من الأشقياء.. نعوذ بالله من الشقاء وأهله.

فلما كانت قضية الرزق قضية شاغلة، تشغل البال وتستحوذ على الفكر والعقل، واهتمامات الناس، أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخفف عنهم من غلوائها، ويهون على النفوس من ضغطها؛ فأخبر أن الله قدر الأرزاق كما قدر الأعمار والأعمال.

لماذا نذَكِّر:
هذه قضية هامة لابد أن نذَكِّر بها ونتذكرها، لأن الكثيرين منا لما غفلوا عنها أو جهلوها أو تناسوها، ظنوا أنهم خلقوا في هذه الحياة ليلهثوا وراء أرزاقهم، ويجمعوا حطام الحياة، فحملهم هذا على التنافس المقيت على نيل مطامع الدنيا، واشتد ولعهم بزينتها ومفاتنها، واشتد حرصهم على جمع حطامها وكأنهم يهربون من فقريدفعون إليه دفعا، حتى بلغ الحرص بالبعض أنه يتمنى أن يأخذ ما في يد الآخرين من زخرف الدنيا، بل يسعى في انتزاعه منهم ولو بغير حق، ولو من طريق الحرام.
وما زال حب المال والتكاثر في جمعه يطغى على القلوب حتى أصبح المال إلها يعبد ومعبودا يقصد، كما قال صلى الله عليه وسلم: «تعِس عبدُ الدينارِ ، تعِس عبدُ الدرهمِ» (البخاري).

وما زال الناس يلهثون وراء جمع المال والحطام حتى وقع أكثرهم في عين ما حذرهم الله منه بقوله: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ . حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ . كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر: 1-3]. وحتى وقعوا فيما خاف عليهم النبي صلى الله عليه وسلم الوقوع فيه حين قال: «وَاللَّهِ ما الفَقْرَ أخْشَى علَيْكُم، ولَكِنِّي أخْشَى أنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كما بُسِطَتْ علَى مَن كانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا، وتُهْلِكَكُمْ كما أهْلَكَتْهُمْ» (صحيح البخاري).

 

قواعد في قضية الرزق:
إننا حين نستعرض قضية الرزق والسعي في تحصيله، لابد وأن نتذكر أمورًا غاية في الأهمية:
أولا: إن كُره الفقر وحبَّ الغنى أمران فطريان:
والشريعة الغراء لا تقف في وجه الفطرة أبدا، ولكنها في ذات الوقت تحث على الاعتدال والتوازن في كل شيء حتى في المال.
فالإسلام لم يحث على الفقر؛ لأن الفقر كاد أن يكون كفرا، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ بالله من الكفر والفقر.

ولكن الشرع في ذات الوقت ينهى المسلم عن الركض الأعمى وراء المال وطلب الغنى، وأن تصبح الدنيا هي المنية، والسعي في تحصيلها هو الغاية، فينشغل بما ضمنه الله له، عما خلقه الله له وهو عبادته: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

ومن كان هذا حاله أفسد دينه ودنياه {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا} [النجم – 29]، وكما في الحديث: «من كانت الدُّنيا همَّه، فرَّق اللهُ عليه أمرَه، وجعل فقرَه بين عينَيْه، ولم يأْتِه من الدُّنيا إلَّا ما كُتِب له، ومن كانت الآخرةُ نيَّتَه، جمع اللهُ له أمرَه، وجعل غناه في قلبِه، وأتته الدُّنيا وهي راغمةٌ» (صحيح). فهو في الدنيا تائه ضال، وفي الآخرة معذب خاسر: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ . الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ . يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ . كَلا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} [الهمزة:1-3].

ثانيا: أن الله تعالى قد تكفل بأرزاق الخلائق وضمنها لهم:
فالرزق يطلب العبد أكثر مما يطلبه العبد، قال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22]، وقال تعالى: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6]، وقال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام:151]. وقال: {وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍۢ لَّا تَحْمِلُ رِزْقَهَا ٱللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ} [العنكبوت:60].

فرزقك قد ضمنه الله لك كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنَّ رُوحَ القُدُسِ نفثَ في رُوعِي أنَّ نفسًا لَن تموتَ حتَّى تستكمِلَ أجلَها، وتستوعِبَ رزقَها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب» (صحيح الجامع).

واللـَّه واللَّه أَيــْمَانٌ مُكــــــــَــــــرَّرَةٌ .. .. ثَلاَثَةٌ عَنْ يَمِـــــيْنٍ بَـــعدَ ثَانِيْهَا
لَوْ أَنَّ في صَــخْرَةٍ صَمَّا مُلَمْلَمَــــــةٍ .. .. في البَحْرِ رَاسِيَةٌ مِلْسٌ نَواحِيْهَا
رِزْقًا لِعَــبْدٍ بــَرَاهَا اللَّه لاَنْــــفَلَقَـــتْ .. .. حَتَّى تُؤَدِّي إِلَيــْهِ كُلَّ مَـا فيْهَــا
أَوْ كَانَ فَوْقَ طِبَاقِ السَّبْعِ مَسْلَكُهَـــا .. .. لَسَهّلَ اللَّه في المَرْقَى مَرَاقِيْهَـا
حَتَّى يَنال الّذِيْ في اللــوْحِ خُطّ لَهُ .. .. فَإِنْ أَتَتْهُ وإِلاَّ سَـوْفَ يأْتِيــْهَــــا

ثالثا: الرزق مضمون والسعي مطلوب:
فليس معنى أن الرزق مضمون ألا يسعى العبد في تحصيله، وأن ينام في بيته منتظرا أن يأتيه إلى بابه، هذا فهم بليد، وعقل غير رشيد، وقد ذكروا للإمام أحمد “أن رجلا يقول: إنه يجلس في بيته أو مسجده حتى يأتيه رزقه. فقال: هذا رجل جاهل بالعلم”[ (الزهد للإمام أحمد).

وقد ذكر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: “إن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة”.
وقال ربنا سبحانه:
{فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ} [الملك:15]، وقال تعالى: {فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10]

فالمطلوب السعي وحسن التوكل على الرب تعالى، وقد جاء في الحديث: «لو أنكم تتوكلون على الله حقَّ توكُّله؛ لرزقكم كما يرزق الطيرَ: تغدوا خماصًا، وتروح بطانًا» (صحيح الترمذي).

فعلى العبد السعي في الطلب، والأخذ بالسبب، والتعلق بالمسبب، والتوكل على الرزاق سبحانه وتعالى.. ويقول كما قال الشافعي:
توكلت في رزقي على الله خالقــي .. .. وأيقنــت أن الله لا شــك رازقـي
وما كان من رزقي فليس يفوتنـــي .. .. وإن كان في قاع البحار العوامق
سـيأتي بــه الله العـظـــيم بمـــنـــه .. .. ولو لم يــكن مني اللسـان بناطق

 

رابعا : الغنى والفقر ابتلاء
وقد أكد الله ذلك في كتابه فقال:
{فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ . وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ . كَلَّاۖ} [الفجر:15- 17]، وقال: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35]، وقال سيدنا سليمان لما أعطاه الله ما أعطاه من الملك والغنى: {قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل:40].
فإذا ابتلاك الله فضيق عليك فاصبر وارض، وإذا أنعم الله عليك فاشكر وأد حق الله عليك في مالك.

 

خامسا: السعادة ليست في المال فقط
إنما المال سبب ضمن مجموعة من الأسباب، فكم من غني يملك من المال ما لا يعد، والدنيا كلها في يديه، وهو من أشقى الناس.
إما لبخله، فهو بخيل شحيح، فقير في صورة غني، يتمنى كل من حوله وفاته.
وإما لمرضه، فهو ممنوع من أكل أكثر الأصناف، محروم من فعل كثير من الأشياء.
فلا تحسدن أحدا على رزق وهبه الله إياه، فإنك لا تدري ما منعه مقابل ذلك.

 

ثم قد يكون الفقر نعمة والغنى نقمة، خصوصا في أمر الآخرة:
يقول أبو حـازم: “نعمة الله فيما زوي عني من الدنيا أعظم من نعمته فيما أعطاني منها، لأني رأيته أعطاها قوما فهلكوا”.
قال ابن مسعود: “ما من يوم إلا وينادي مَلَكٌ من تحت العرش: يا ابن آدم! قليل يكفيك خير من غنى يطغيك”.

 

سادسا: إياك والحرام
إياك أن يحملك استبطاء الرزق أو قلته على أن تطلبه بمعصية الله فتسلك مسالك الحرام في تحصيله؛ فتفسد دينك ودنياك وأخراك؛ قال صلى الله عليه وسلم:
«اتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله؛ فإن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته» (صحيح الجامع).

فإن الكسب الحرام يورث غضب الجبار، ويدخل صاحبه النار كما في حديث كعب بن عجرة قال له صلى الله عليه وسلم: «يا كعب إنه لن يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به» (رواه الترمذي وغيره، وصححه احمد شاكر والألباني رحمهما الله).
والسحت: كل مال اكتسب من حرام.

وكسب الحرام وبال على الفرد حينما يكسبه من ربا أو رشوة أو ظلم أو غش أو أكل لأموال الناس بالباطل.
والمال الحرام مستخبث الأصول، ممحوق البركة والمحصول، إن أنفقه صاحبه في بر لم يقبل، وإن بذله في نفع لم يشكر، بل هو شؤم على صاحبه وضرر على جامعه في كل حال؛ قال صلى الله عليه وسلم:
«لا يكسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدق به فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار» (رواه أحمد في مسنده بسند صحيح).
نسأل الله تعالى أن يرزقنا رزقا حلالا طيبا، وأن يبارك لنا فيه.
 


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

خطر الإلحاد (2) – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة السفر إلى بلاد الكفار للدراسة أو غيرها دون التقيد بالضوابط الشرعية -القراءة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *